استراحة البيان : وحدة ما يغلبها غلاب: يكتبها اليوم - جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مناسبة وطنية قريبة شهدت حفلا فنيا تم حشد كل الامكانيات الفنية له.. ملحن شهير, وشاعر موهوب, وكل المطربين والمطربات المتصدرين للساحة الفنية, وفرقة موسيقية هائلة, ورقصات تعبيرية, وديكور جميل, وتوزيع موسيقي متقن . ومع ذلك كله فقد كانت النتيجة الفنية صفرا, وخرج الجميع وقد نسوا تقريبا كل ما سمعوه من لحظات. في اليوم التالي... كان هناك حفل آخر أحيته فرقة موسيقية تقليدية تقدم أغاني التراث... ليس فيها أحد من نجوم الشباك, بل شباب يغني باتقان ويبذل الجهد لكي يستوعب الكنوز الموسيقية والغنائية التي قدمتها أجيال متتالية من المبدعين. وبقيادة جميلة من المايسترو اللبناني المصري سليم سحاب الذي قدم باقة جميلة من تراثنا الهائل من الاغنيات الوطنية. وكم كان الفارق هائلا... الكل هنا في حالة نشوة حماسية (اذا صح التعبير) الذين يعزفون والذين يغنون والذين يسمعون ويشاهدون كلهم في حالة اندماج مع الحالة الفنية التي خلقتها ألحان دخلت التاريخ ودخلت القلوب في وقت واحد... من أول (بالأحضان) وحتى (ياأهلا بالمعارك) لعبد الحليم حافظ, ومن أول (مصر تتحدث عن نفسها) وحتى (طوف وشوف) لأم كلثوم, ومن أول (الجهاد) وحتى (وطني حبيبي الوطن الاكبر) لعبدالوهاب والتي شارك الجمهور في غنائها في عفوية جميلة, وكأنه يخرج لسانه لسنوات من القطيعة العربية, وكأنه ــ أيضا ــ يرد على كل الذين يروجون لخرافة أن العروبة كانت ماضيا وانتهى. خرجت أتساءل: ما الذي حدث؟ هل هي ذكريات الزمن الجميل تداهمنا في زمن البؤس القومي؟ ولكن معظم الجمهور الذي انتابته الحالة الحماسية في الحفل الثاني كان من الشباب الذي لم يعش سنوات النهوض القومي, بل ولد في أحضان (السح الدح امبو) ونشأ و كبر مع (احنا اللي دهنا الهوا دوكو) وانتهى به الامر في المرحلة العبثية التي نعيشها الى (كامننا) !! ولم تكن هذه كلها مجرد أغان, بل كانت تعبيرا عن مناخ ساد وطغى في كل المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية, ومع ذلك فهاهي الاجيال التي تعرضت لكل هذه الأوبئة, تصحو في لحظة صدق فتجد نفسها في أغنيات الزمن الجميل, وكأنها تسأل نفسها: هل حقا كنا كذلك؟ واذا كنا كذلك بالفعل... فلماذا حدث ماحدث؟ ولماذا وصلنا الى مانحن فيه؟ ولست مع القائلين بأننا نعاني قحطا في الابداع. فلا يمكن لأمة ان تخلو من المبدعين مهما حدث لها. ولعلي من القائلين بأن طاقتنا على الابداع الان اكبر, وفي كل المجالات. ولكن الكارثة تأتي من المناخ الذي يسود والقادر ببساطة على وأد المبدعين وقتل طاقات الابداع في أمتنا... فلا يبقى على السطح الا فقاعات الفن وانصاف وارباع الموهوبين. بينما المبدعون الحقيقيون يموتون حسرة في مقتبل العمر, او ينتحون جانبا ليوسعوا الطريق لمثقفي السلطة, أو لكذابي الزفة او لمن يجيدون الانتقال من اقصى اليسار الى اقصى اليمين وبالعكس دون ان يتوقفوا لكي يلتقطوا أنفاسهم وليقولوا للناس لماذا تحولوا من مثقفين ومبدعين الى بهلوانات في السياسة والثقافة! قارن ذلك بمناخ الزهو والاحساس بمعانقة الحرية والكرامة في فترة النهوض القومي رغم قسوتها وضراوة معاركها, تدرك ان الناس لديها الحق ان تقف الان بكل احترام وتقدير أمام ابداع هذه المرحلة, وان ترفض ما يتم تقديمه الآن رغم عناصر الابهار والترويج التي تحوطه. ان الفن لم يكتسب احترامه الحقيقي في المجتمع الا في هذه المرحلة من النهوض القومي, حينما أصبح الفنان جزءا من ضمير أمته و سلاحا في معركتها, ومع احترام المجتمع اكتسب الفنان احترامه لنفسه ولفنه, ونأي به عن الشبهات وعن الابتذال. أتذكر الان كيف كان الفنانون يتسابقون للمشاركة في معارك الوطن, وكيف غنو للحرية في كل مكان في الوطن العربي. وقارن ذلك بهروب أرباع الموهوبين من الحفلات القومية الآن لكي يحيوا سهرة خاصة! أتذكر كيف نزلت أم كثلوم لتسجل (والله زمان يا سلاح) والطائرات البريطانية والفرنسية تقصف القاهرة عام 1956. وكيف طافت بالوطن العربي بعد هزيمة 1967 تجمع الكلمة وتحشد الصفوف. وأتذكر كيف غنى عبدالحليم وجيله من المطربين والمطربات لكل احداث الوطن العربي... من التحرير الى الوحدة الى البناء, ومن معركة الجزائر الى السد العالي. وكيف استطاع هذا الجيل في هذا المناخ أن يجعل الناس تغني لـ (المسؤولية) و(التصنيع الثقيل) . وكيف كان الفنانون الكبار ينامون في طرقات الاذاعة في المناسبات الوطنية, يسجلون بلا بروفات كافية, ولا يستنكفون ان يقوموا بدور (الكورس) لزملائهم, ويتقاتلون للسفر لاحياء حفلات (أضواء المدينة) في اليمن والجزائر وفي أصعب الظروف, وبدون عائد مادي يذكر, ولكنهم يؤدون مهمة ويسعدون الناس ويسعدون بهم. أتذكر كيف أقام فريد الاطرش الدنيا وأقعدها لأنه يريد ان يشارك في احتفالات الثورة مع أم كلثوم وعبدالحليم. وكيف أبرق لعبد الناصر الذي أمر بأن يأخذ المطرب الكبير فرصته الكاملة في هذه المناسبة التي كانت تتحول الى عيد فني يحشد له الجميع أجمل ما عندهم. ثم أقف امام حكاية تذكرتها قبل أيام مع ذكرى الوحدة بين مصر وسوريا قبل أربعين عاما. وبطل الحكاية هو الفنان الراحل عبدالعظيم عبدالحق الملحن المبدع والذي اتجه للتمثيل في التلفزيون بعد ذلك ونجح. هذا الرجل من عائلة كبيرة من ملاك الاراضي الزراعية قبل الثورة, وكان له شقيقان توليا الوزارة في تلك الفترة, وبحكم المصلحة الذاتية كان المفروض ان تتقاطع الطرق بينه وبين ثورة يوليو. عقب اعلان الوحدة أسرع الرجل الى الاذاعة, ليطلب من المسؤول عن الموسيقى والغناء في ذلك الوقت ان يشارك في المناسبة, وكاد عبدالعظيم عبدالحق ان يبكي حينما أخبره المسؤول ان كل النصوص الغنائية قد تم توزيعها على الملحنين والمطربين قبل حضوره. وبينما الرجل يواجه الصدمة وينتظر الفرج, اذ ببيرم التونسي أمير شعراء العامية المصرية يظهر فجأة, ويتعلق به عبدالحق عسى ان يكون معه نص جديد, لكن بيرم يخبره انه ظل يكتب طوال الليل, وسلم الاغنيات التي كتبها وتم توزيعها على الفنانين, وبعضها تم تسجيله بالفعل. ولكن عبدالحق لا ييأس ولا يترك بيرم حتى يعده بأن يحاول, ويخرج بيرم الى مقهى مجاور لمبنى الاذاعة ولا يتركه عبدالحق. ويجلس الاثنان يتناولان القهوة, ثم يخرج بيرم الورق والقلم ويكتب. وبعد دقائق كان عبدالحق يحمل الاغنية الى المسؤولين بالاذاعة ويأخذ الموافقة, ويتصل بالموسيقيين وبالمطرب الجميل محمد قنديل. وفي نفس اليوم تولد الاغنية وتذاع ليردد الملايين في كل مكان معها... (وحدة لا يغلبها غلاب) . ولا تقارن ــ عزيزي القارئ ــ بين هذا المناخ في سنوات النهوض, وبين ما تراه الآن حتى لا تصاب بالمزيد من الاكتئاب. ولكن ثق ــ مثلي ــ ان الزمن الجميل لابد ان يعود لأنه الحقيقي الوحيد في حياتنا وكل ما عداها زائف. ولا تصدق هؤلاء الذين يحكمون على عروبتك بالموت وعلى مستقبلك بالانحطاط... لأنهم لا يعرفون شيئا عن شعبنا العربي ولا قدراته الفذة في اجتياز المحن وتخطي الهزائم والانكسارات. انهم ــ مهما هطرقوا بمصطلحات العولمة والحداثة ــ يغنون على نفس اللحن (احنا اللي دهنا الهوا دوكو) ... قد يكون ( الدوكو) هذه المرة امريكيا بعد ان كان ذات يوم بريطانيا أو روسيا أو حتى صينيا, ولكن ذلك لا يغير من الأمر شيئا, فالهواء سيبقى و(الدوكو) سيرحل, وكل العوائق ستنهار حتما, لتبدأ مرحلة جديدة من الابداع القومي الحقيقي في كل المجالات... من السياسة الى الثقافة, ومن العلم الى الحرية, ومن (كامننا) الى... وطني حبيبي الوطن الاكبر.

Email