استراحة البيان: خناقات على الهواء

ت + ت - الحجم الطبيعي

سيطر الراديو ـ الاذاعة ـ على الحياة العربية المعاصرة في مشهد لايزال محفورا في ذاكرة الادب العربي الحديث, والمشهد صورته هنا عبقرية العم نجيب محفوظ في افتتاحية رائعته (زقاق المدق) شهد شاعر الربابة الذي تعود عبر عقود, بل عبر اجيال من الزمن ان يتخذ مجلسه من القهوة يعتلي صهوة اريكة خشبية, هي بدورها قطعة من الارابيسك الدقيق الجميل, نقوشها محفورة من الابنوس والماهوجني الثمين, واصدافها الناصعة البياض تأتلف مع قطع ي تلمع تحت اضواء المكان, وقد احدقت بالفنان ممسكا بربابة يسمونها في العراق الجوزة, وهو يتهيأ لارسال اناشيده كل مساء تتصاعد منها سيرة (ابوزيد الهلالي) و(الظاهر بيبرس) و(خضرة الشريفة) و(دياب بن غانم) و(الزير سالم) و(عنترة العبسي) سير وملاحم وبطولات وتغريبات منحوته من فنون الشعب, الناس, العباقرة المجهولون الذين تغنوا بمآثر اصحابها, وفهم من رفعته موهبته إلى مصاف السادة مثل (عنترة) , أو اوصلته مهاراته إلى قهر خصومه مثل (ابوزيد) أو تغنت ببطولاته جبال العالم العربي ــ الاسلامي وهضابه وسهوله والوديان مثل بيبرس ــ قاهر التتار المغول والمدافع عن شرف العرب وحياض الاسلام في (عين جالوت) . لكن.. لكل شيء نهاية, وما كان للبدر ان يكتمل الا لكي ينقص ويعاود سيرته هلالا من جديد, وها هي يد التغيير الباطشة, وسنة التطور التي تحق نواميسها مثل حتم القضاء على حياة الناس, ها هي تواجه الشاعر, البشر الذي يقتات من اناشيده ويطعم اولاده من دراهم السامعين في مقاهي الحسين والازهر والجمالية وبين الصورين يقول نجيب محفوظ في مفتتح زقاق المدق: (تناول الربابة يجرب اوتارها.. وراح يعزف مطلعا.. لبثت قهوة (كرشه) تسمعه كل مساء عشرين عاما أو يزيد من حياتها, واخذ جسمه المهزول يهتز مع الربابة, ثم تنحنح وبصق وبسمل ثم صاح بصوته الغليظ. اول ما نبدي اليوم نصلي على النبي. نبي عربي صفوة ولد عدنان. يقول ابو سعدة الزناتي... وقاطعه صوت اجش دخل صاحبه القهوة عند ذاك يقول: هس... ولا كلمة اخرى. فرفع بصره الذليل عن الربابة فرأى المعلم كرشه, واراد ان يتجاهل شره فاستدرك منشدا: يقول ابو سعدة الزناتي. ولكن المعلم صاح به مغيظا محنقا: بالقوة تنشد؟ انتهى... انتهى الم انذرك من اسبوع مضى (واستمر المعلم يقول) عرفنا القصص جميعا وحفظناها ولا حاجة بنا إلى سردها من جديد, والناس في ايامنا هذه لا يريدون الشاعر, وطالما طالبوني بالراديو وها هو ذا الراديو يركب, فدعنا ورزقك على الله لقد تغير كل شيء. ولا ريب ان قالها المعلم صاحب المقهى, او اجراها على لسانه قلم نجيب المحفوظ الموهوب الصناع, وكانت بمثابة حكم صادر بالاعدام على عصر بأكمله, هو عصر الشاعر والربابة وليالي السمر التي انطوت صفحاتها, ولصالح عصر جديد استوى فيه الراديو سيدا على مملكة الوجدان العربي, مع مطالع عقد الاربعينات, كي تبلغ ذروة مجده ونفوذه وأوج تألقه, في الخمسينات إلى ان ينازعه في هذا كله صندوق التلفاز السحري العجيب مع التوغل في عقد الستينات, والايام كما ترى دول والدنيا, كما لا شك نعلم لا تبقى على حال, ويوم لك ويوم بخلاف ذلك ولو دامت المسائل لغيرك لما وصلت اليك على ان الراديو دخل الحياة العربية قبل ذلك بنحو 15 سنة, ودخلها على استحياء شديد, وكان ذلك في مصر عند اواخر عقد العشرينات, وكان قد دخل حياة الناس في الغرب, اوروبا وامريكا قبل ذلك التاريخ ببضع سنوات لا تجاوز عقد الزمن بحال من الاحوال. ومرد هذا (الاستحياء الشديد) ان المصريين سمعوا الراديو أو سمعوا عنه من خلال ما كان يعرف منذ سبعين عاما باسم (الاذاعات الاهلية) وكانت عبارة عن دكاكين اكثر من متواضعة قامت بدورها بدور الريادة في فن الاذاعة العربي الذي بات يشغل مساحات اكثر من شاسعة من اجواز الاثير, كانت بمثابة (دور الحضانة.. الاذاعية) , كما قد تسميها مجرد ميكرفون وحيز للارسال على موجة طويلة مقصورة على هذا الحي أو ذاك من القاهرة وشقة فقيرة الاثاث في شبرا, أو وسط البلد, وكام اسطوانة, لا بأس ان تكون متصدعة أو حتى مشروخة لمشاهير المطربين واكابر المطربات, اما المذيعون فحدث عنهم ولا حرج, أو بالادق حدث عنهم بكل حرج يخطر على البال. منهم ساقط الابتدائية, ومنهم اصحاب اصوات جهورية اهلتهم للانتقال من حرفة المنادي على الاطفال التائهين أو على ركاب سيارات النفر (السرفيس) إلى مرتبة المذيع, بل كان منهم خواجات من اشتات اليونانيين أو الملطيين أو القبارصة الذين كانوا يقدمون الاعلانات عن الجبن الرومي والبسطرمة وساعات الجيب ماركة (الترماي) في عربية مهيضة مكسورة الالفاظ ورطانة تستدعي الضحك الاقرب إلى البكا كما يقول المتنبي. قال الراوي: اراد المذيع القبرصي ان يقدم اغنية عبدالوهاب الشهيرة وعنوانها (يا وردة الحب الصافي.. يسلم ايدين اللي سقاكي) , ويبدو ان المذيع اياه نسي مطلع الاغنية, فما كان منه ان ادار الاسطوانة وهتف امام الميكرفون بفصاحة يحسد عليها قائلا: امسكتوا اغنية يسلم الايدين بتاعة اللي يديكي ميه. وهكذا كان الراديو الاهلي أو الاذاعات الاهلية تتعامل مع فن البث الاذاعي الذي كان جديدا بالطبع على الاذن العربية, ولم تكن هذه الفصاحة المحسودة لتقتصر على الاروام والقبارصة بل فان هناك من الفنانين ابناء البلد من يتعامل مع ميكرفون ماركوني وكأنه في جلسة انس أو ونسة اصدقاء معقودة في حواري بولاق أو السيدة زينب. هكذا كان مطرب الثلاثينات محمود صبح, الذي جمع بين متناقضات واطوار شتى: كان ضريرا وكان مصارعا وكان طويل اللسان وكان خبيرا بالمقامات الشرقية, عريض الصوت إلى الحد الذي جعله يفسد جميع الميكرفونات في عصره بسبب قوة صوته وشدة ارتفاع طبقاته على نحو ما يقوله الناقد الاديب كمال النجمي في كتابه الجميل (اصوات والحان عربية) يضيف الاستاذ النجمي قائلا: والحقيقة ان محمود صبح كان ضحية صوته المتسع ولو كان صوته اقل ضخامة لنفذ إلى (وجدان) المستمعين من خلال الميكرفون كما تنفذ الاصوات البشرية, لا كما تنفذ الرعود والزلازل, لهذا كان المطرب محمود صبح غير محمود من المستمعين وعندما كان يغني في محطات الاذاعة الاهلية (في اوائل الثلاثينات) كانوا يغلقون الراديو, بينما ينهمك هو داخل ستوديو الاذاعة في الغناء ورفع صوته إلى اعلى جوابه (اي ذروة طبقات صوته العليا) . وفجأة يقطع محمود صبح غناءه, ويخاطب مستمعيه ان كان له مستمعون قائلا في غيط: سامعين.. ياللي ما تفهموش حاجة, حد يقدر في الزمن ده يجيب جواب الجواب, يا غجر! في سنة 1934, قررت الحكومة المصرية الغاء الاذاعات الاهلية واحلت محلها الاذاعة اللاسلكية الحكومية وهكذا حرم الناس من رطانة الاروام ومن تعديات بعض المطربين بأصواتهم العريضة ولسانهم الطويل. يكتبها اليوم: محمد الخولي

Email