في رابع معالجة سينمائية للرواية الشهيرة: آنا كارنينا تفيض عذوبة في فيلم امريكي

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدأ برنارد روز (المخرج) فيلمه أنا كارنينا بكادر عريض لصحراء ثلجية يركض فيها رجل تطارده مجموعة كلاب ثم يسقط في حفرة عميقة داخلها دب شرس وعلى اطرافها جرذان نهمة ... سيكون هذا الشخص هو الراوي وهو في الوقت ذاته احد ابطال الرواية - الفيلم واسمه ليفين. يستيقظ ليفين (الفريد مولينا) من حلمه المزعج ويبدأ في سرد رواية عذبة عن روسيا الام وعن مجتمع بطرسبورج وعن الصراع الباطن في الشخصيات. يعمل المخرج برنارد روز على طريقة السينما الكلاسيكية في تسلسل احداث فيمله, ربما لان الرواية التي كتبها ليو تولستوي (1828 - 1910) تنهج ذلك النهج الكلاسيكي المحافظ الذي كان يسم الرواية الروسية في القرن التاسع عشر. تدور احداث الفيلم تاريخيا في مطلع العام 1880 وجغرافيا في مدينتي موسكو وبطرسبوج وبعض المناطق الريفية التابعة لهما, وعبر قراءة سريعة لاحداث الفيلم : يقع الكونت فرونسكي (ضابط شاب ووسيم) في غرام انا كارنينا (الساحرة جمالا) والمتزوجة من احد النبلاء فتحمل منه سفاحا ثم تلوك الالسن سمعتها في مجتمع بطرسبورج, وتطلب الطلاق من زوجها ولكنه يرفض ويمنع عنها ابنها ويطردها من المنزل عندما تحاول رؤيته, فتعيش فترة في ايطاليا مع الضابط بعدما اجهضت حملها, ثم تعود الى روسيا ولكنها تصبح حبيسة جدران المنزل حيث لا احد يتقبل سلوكها فتصبح عصبية وشديدة الغيرة على عشيقها الذي ظل يمارس حياته الطبيعية ويرتاد الاماكن والمنتديات والحفلات برفقة امه واحدى صديقاتها الشابات, فتتعاظم آلام انا كارنينا النفسية لجهة شوقها لابنها ولغيرتها من الشابة التي ترافق عشيقها, فتلجأ الى الشراب والمخدرات ثم ينتهي بها الأمر الى الانتحار تحت عجلات قطار . هذا الملخص السريع لقصة انا كارنينا التي لعبت دورها الممثلة الفرنسية الناعمة صوفي مارسو وهو ثاني فيلم امريكي تقوم مارسو ببطولته بعد القلب الشجاع الذي لعبت فيه دور البطولة الى جانب ممثله ومخرجه ميل جيبسون عام 1995. وفي هذا الفيلم اعطت صوفي مارسو (31 عاما) للشريط نكهة عذبة بحضورها العفوي البرىء وبملامحها الطفولية التي خدمت كثيرا شخصية المرأة الرومانسية العاشقة التي قصدها تولستوي في روايته, وكانت مارسو قد جاءت الى السينما من باب المراهقة لتلعب دورا في فيلم الحفلة للمخرج الفرنسي كلود بينوتيه ثم تحولت بعده لتصبح حلم الشباب الفرنسي. ولمع نجمها بعد عام 1980 لتلعب ادوارا اكثر تعقيدا في (قلعة ساغان) و (عيد الفصح) . ولعل هذا الفيلم المهم قد اضاف شيئا لمسيرتها السينمائية لانها دخلت الى نادي الكبار حيث لعبت ممثلات قديرات في السينما العالمية شخصية انا كارنينا حيث عولجت هذه الرواية سينمائيا ثلاث مرات في الاولى كانت غريتا غربو عام 1935 اما في المرة الثالثة فكانت للنجمة الشهيرة جاكلين بيسيه لحساب محطة تلفزيونية, ناهيك عن المرات التي قدمت فيها شخصية انا كارنينا في الاتحاد السوفييتي السابق ولعل اشهرها المسلسل الذي حمل اسمها ولاقى رواجا كبيرا حين عرض اوائل الثمانينات. والى جانب شخصية انا كارنينا العاشقة كانت هناك شخصية ليفين راوي القصة الشهم والطيب الذي يبدأ الفيلم بوقوفه شاخصا يراقب الاميرة الموسكوفية كيتي وهي تتزلج ويتعلق بها تعلقا شديدا ولكنها لم تكن تفكر به بل كانت تفكر بالكونت فرونسكي الجذاب الوسيم الذي يجيد الرقص والتعبير بشكل جيد عن عواطفه في حين كان الكونت يفكر بآنا كارنينا كما قلنا آنفا, ولكن الاميرة كيتي سرعان ما تقرر الزواج من ليفين البسيط وصاحب القلب النبيل بعدما المت بها ازمة صحية وبعدما ادركت انه يحبها حبا حقيقيا فيعيشان في سعادة وهناء في ضيعته وسط فلاحيه الذين يشاركونه ويشاركهم احلامهم وافراحهم وامالهم, وكانت شخصية ليفين هذا اقرب ما تكون الى شخصية تولستوي ذاته الذي حاول في اواخر حياته ان يطبق المبادىء التي عرضها في مؤلفاته وقد ادى اصراره على تطبيق تلك المبادىء وتصميمه على التخلي عن جميع ممتلكاته لفلاحيه الى نشوب خلاف خطير بينه وبين زوجته, وانضم اولاده اليها فيما عدا ابنته الصغرى الكسندرا التي صاحبته حينما ترك بيته عام 1910 ووافته المنية في العام نفسه وهو في محطة للقطار برفقة الكسندرا. تمثل شخصية ليفين صراعا طبقيا داخليا بين حبه للخير وانتصاره للبسطاء من جهة وبين انتمائه لمجتمع النبلاء من جهة اخرى, ولكن لم يرد المخرج برنارد روز ان يدخل فيلمه في مسألة الصراعات الطبقية التي مهدت لقيام الثورة الشيوعية مطلع القرن الحالي وكان هذا حلا ذكيا ليجعل فيمله اقرب للرومانسيات العذبة وتفاصيلها التي تجذب المشاهد حيث الورود التي تحيط لقاء العاشقين وحيث المناظر الطبيعية الساحرة والبحيرات الهادئة والريف الساحر والثياب المزركشة والنظرات الحالمة وكل ذلك في اطار حوار راق لم يبتعد كثيرا عن روح الرواية بالاضافة الى الموسيقى المستوحاة من اعمال خالدة لتشايكوفسكي (بحيرة البجع) وبعض سوناتات البيانو التي يتصاعد ايقاعها بتصاعد احداث الفيلم وكذلك الرقصات المؤداة باتقان شديد في قصور بطرسبورج والتي دلت على تقنية عالية لدى صناع الفيلم في بناء المشاهد والايحاء بالاجواء التي كانت سائدة انذاك. اذا كانت حركة المخرج الذكية الا يدخل فيلمه في تلك النقطة الدقيقة من شخصية ليفين المعذبة الباحثة عن الحقيقة والطارحة للاسئلة عن هدف الانسان في الحياة وعن قيمة ذلك الهدف, وهذا بحد ذاته دلالة اكيدة على خواء المجتمعات المخملية في روسيا القيصرية ولا يعني هذا انتصارا للثورة البلشفية بقدر ما يعني ان الحياة كانت قاسية في ذات القصر بين السادة والسادة وبين الخدم والخدم .. تبقى الاشارة الى التقنية العالية التي تحمل الطابع الامريكي من مؤثرات صوتية ومشاهد مبهرة وكادرات عملاقة ولوحات راقصة, ميزت هذه النسخة من الفيلم عن سابقاتها. الفيلم من انتاج الولايات المتحدة - 1997 ومن اخراج برنارد روز وتمثيل صوفي مارسو والفريد مولينا وسكوت جلين ومدة عرضه 108 دقائق. كتب - حسين درويش

Email