استراحة البيان : ياوابور قل لي رايح على فين؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

ثمة ود قديم يجمع بين الداعي ـ كاتب السطور, وبين قطار السكة الحديد... وبالذات الجيل العتيق من الوابورات كما يسميها المصريون او هو الباجور (تصحيفا عن لفظ فابور الانجليزي بمعنى البخار) ــ القاطرة السوداء التي يعمل على متنها سائق ينعم دون خلق الله بمزية شد حبل من اعلى فتطلق صفارة القطار تشق البراري ملتاعة, ثاقبة... كم كانت تثير في نفوس الهاجعين والمترقبين والمتلهفين اشواقا ووعودا وذكريات حول الغائب الى ان يعود, والمهاجر الى ان يؤوب والقادم بعد طول ترحال يتلقاه الزمان على محطة السكة الحديد الريفية ببراءة المحبة وشوق حقيقي ملهوف واصيل وكأنما يصدق على كل منهم بيت الشاعر المصري مجاهد عبدالمنعم يقول: الصاحب لمَّا يلقى الصاحب بعد غياب ينفض عن معطفه بالشوق غُباره الى جوار السائق الذي لا تكاد ترى من جسمه سوى رأس تعلوه قلنسوة البيرية ومن تحتها عينان مترقبتان تجيلان الطرف مابين رصيف المحطة وما بين الطريق المنبسطة الى امام وسط اعمدة التلغراف تعبّدها الفلنكات الخشبية كأنما تمتد الى مالانهاية ــ الى جواره تلمح رجلا يرتدي أوفرول الشغل تعلوه باستمرار بقع الزيت وهباب الفحم ــ لا عجب ان يعمد اهل الكار الى هذا الرداء فيخلعون عليه اسم (العفريتة) ... هذا هو العطشجي في يده الكوريك يغترف به اكوام الفحم الحجري ويلقم بها معدة الوابور المشتعلة ابدا بألسنة نيران لا تخبو... وهي التي تولد طاقة البخار التي تدفعه الى امام وهو يجر من خلفه عربات شتى هي بدورها صورة منقولة لعالم الحياة ذاتها... البشر, الحيوان, المتاع الزهيد... عالم يختلط فيه زائرو اولياء الله الصالحين في هذه البلدة او تلك القرية, مع الشحاذين الذين قسموا محطات القطار فيما بينهم ونال كل منهم امتيازا او منطقة نفوذ يشتغل في محيطها ولا يجوز له ان يتعداها والا تعدى على رزق زميل في الحرفة وانتهك بذلك شرف المهنة... ثم هناك النشالون وهم الاتعس والادنى حظا... قصاراهم سرقة دجاجة شاردة من سلة في قطار او اختلاس قروش معدودات من جيب فلاح هي كل ما يحتكم عليه في ذلك اليوم من حطام دنياه... اين هم من نشالي المدن الذين تتلمس اناملهم المدربة الخبيرة اوراق الجنيه الخضراء ــ ام مأذنة كما كانوا يسمونها اشارة الى الرسوم المنطبعة على عملة الجنيه ــ الباوند يوم ان كانت قيمته تفوق في الخزانة قيمة زميله الاسترليني على سن ورمح... تلك هي الصورة القديمة ـ الاصيلة المنطبعة في الذاكرة عن القطار او القطر او الباجور يوم ان كان يدار بقوة البخار وقبل ان تدخله او تداخله طاقة المازوت وبعدها الكهرباء فتفسد علينا الصور القديمة التي طالما الفناها واسعدت مخيلتنا... ولا عجب ان نألف قطار السكة الحديد, أو هي السكة حديد, كما اسماها اخوتنا في السودان, كيف لا... وقد استدعت مصر ــ على عهد الوالي عباس باشا حفيد محمد علي الكبير ــ السيد ستيفنسون الانجليزي الذي اخترع قطار السكة الحديد ـ استدعته الى القاهرة ولما يمض على تسيير اول قاطرة بخارية عشرون سنة او اقل قليلا وكان تكليفه بانشاء اول خط سكة حديد خارج انجلترا شخصيا وهو الواصل بين القاهرة والسويس ثم بين القاهرة والاسكندرية وكان ذلك في عام 1852... ورغم ان المخترع الانجليزي اشرف في البداية على المشروع, الا ان المسيو مرييه الكاتب الفرنسي المعاصر لتلك الفترة يذكر في دراسته عن (مصر الحديثه (ص 102) ان المهندسين العرب هم الذين تم على ايديهم انشاء هذه الخطوط الرائدة للسكة الحديد, وربما اعتبرها ابناء ذلك الزمان شأنا قوميا وربما كان دافعهم تقديم خدمة جليلة لابناء وطنهم... وربما بادلهم مواطنوهم هذا الشعور الجميل بمشاعر اكثر حرارة ودفئا تجاه قطار السكة الحديد وقد دخل في تلافيف الحياة والوجدان في مصر. هاهو الشاعر الشعبي المجهول في الصعيد الاعلى ــ الجواني كما قد نقول ــ ينسج انشودته الفلكلورية مخاطبا القطار المتجه الى وجه قبلي في هزيع الليل الاخير: ... ياوابور الساعة اتناشر يامجبِّل ع الصعيد (والمجبّل هو المتجه الى الناحية القبلية صوب الجنوب) وهاهو الشاعر احمد رامي ينشد ابياته الجميلة التي عاشت للزمن مدة ستين عاما عبر حنجرة عبدالوهاب مخاطبا القطار: ياوابور قل لي رايح على فين. وهنا يحقق الشاعر قدرة المزج بين بساطة العامية وبلاغة الفصحى حين يقول: قرّبت غريب, وبعدت قريب وجمعت حبيب على شمل حبيب والقرب نصيب والبعد نصيب ماتقول ياوابور رايح على فين...الخ اما صاحبنا الساخر حسين شفيق المصري ـ ابونواس الجديد الذي حدثناك عنه في حديث سابق فيدلي بدلو حول السكة الحديد ويختار ان يقلد شاعرا كان من معارضي الحكم العثماني في الربع الاول من القرن واسمه ولي الدين يكن وكان صاحب اسلوب خشن الى حد ما ولذلك قال شفيق مقلدا الاسلوب في سخرية من على لسان الشاعر: الحب اخرج مقلتي بصباعه وكوى الحشاشه باللهيب... بتاعه ذهب (الوابور) الى بلاد احبتي ياليتني متعلق بذراعه ناهيك من بعد عن الحكاية التي رددها الناس عن اهل اقليم الشرقية ـ شرق الدلتا وفيهم بداوة وشهامة وسخاء دفعهم كما تقول الحكاية الى ان عزموا القطار على مائدة طعام... ورغم ان اخوتنا الشراقوة ينكرون الامر ويرونه من هجائيات ابناء الاقاليم الاخرى فنحن لانرى فيه بأسا او نراه رمزا لدفء الشعور الانساني تجاه سائر الكائنات من حيوان او جماد ما دام فيها منافع للناس ولا نرى من تثريب مثلا على الامريكان ونحن نعايشهم وقت كتابة هذه السطور وهم يحتفلون ـ وحق الله ـ بعيد ميلاد كوبري شهير هو ترايبورو بردج ـ اشهر جسور ولاية نيويورك ويقيمون الحفلات التي يحضرها كبار الرسميين وافراد الشعب حيث يتحلقون حول كعكة عيد الميلاد مرددين في جدية وحماس (هابي بيرث داي) ... اكثر من هذا فأنت تتلقى في بريد منزلك العامر اكثر من دعوة رسمية رصينة بتوقيع السيد مدير عام الطرق والكباري في نيويورك ومؤداها حضرة السيد المحترم... يسرنا ان نوجه اليك الدعوة للمشاركة في تبني (نعم تبني) الجسر الفلاني او الطريق الاكسبريس العلاني... والمشاركة في التبني تعني بالطبع التبرع من اجل صيانة المرفق الحيوي في مواصلات المدينة وفي خدمة اهلها وفي المقابل سيكتب اسم حضرتك على لوحة الآباء المحترمين الذين اسبغوا فضلهم وحنانهم الآبوي على الجسر أو محطة الركاب او حديقة البلدية او الطريق السريع ثم ان البلدية لا تكذب خبرا ولا تهزل في مثل هذه الامور... انها تقدم الى الاب الفاضل الحادب والحنون شهادة خاصة به لا بأس عليه ان يعلقها لزوم الافتخار الوالدي في حجرة الاستقبال... شهادة تفيد ان السيد المفضال متزوج وانه بلغة الغرائب... يعول زوجة واربعة أولاد و... محطة سكة حديد. يكتبها اليوم: محمد الخولي

Email