استراحة البيان: دلــف وأخواتها

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان الاستاذ يحيى حقي يكتب مثل صائغ اللؤلؤ ليتخير انفس واجمل حبات الدر الكريم ويعمد الى نظمها ضمن عقد يتلألأ رقة ودقة وجمال ا, كان يبدع رواياته ويكتب مقالاته بفن محكم وابداع منتقى وحساسية مرهفة الى درجة الشفافية تجاه اللغة العربية: جمالها, رونقها, دقة الفاظها ايقاع موسيقاها. لم يكن بالغريب اذن ان ينعى العم يحيى حقي على شباب الادباء في زمانه, وفي زماننا ايضا انهم يصدرون عن منطق محاباة لالفاظ بعينها وتعابير تتردد وتتكرر مثل الدرهم الممسوح في كتاباتهم وكم من الفاظ ومصطلحات كانت اقرب الى الموضات الشائعة يلوكها الكاتبون ويحشون بها السطور ويصدعون بها ادمغة القراء الفاظ وتعابير من قبيل الحداثة وما بعد الحداثة والبنيوية وآليات النص ومن قبلها كانت موضات الاستبطان والواقعية الاشتراكية, والفن للفن والمعادل الموضوعي الى آخر ما كانت تفرزه ماكينات الغرب في اوروبا وامريكا ومن ثم تعمد الى تصديره الينا او نعمد نحن الى استيراده ومحاولة ترجمته, واقحامه في تلافيف فكرنا وابداعنا العربي وتقديمه الى الناس, منهم من يفهمه, ومنهم من يحاول ومنهم من يعجز ولكنه لا يعترف بالعجز والا فهو الخروج من جنة المثقفين, وتكون النتيجة ان يردد الكل... الفاهمون وانصاف الفاهمين وغير الفاهمين الفاظا ومصطلحات تتسلل الى مفردات حياتنا واجروحية لغتنا فتزيد الناس عجزا على عجز او معاظلة من فوق معاظلة ولا حول ولا قوة الا بالله. ثمة لفظ بعينه كان يغيظ الاستاذ يحيى حقي عند الادباء من كاتبي القصة القصيرة وقد ازدهر فنها منذ عقد الخمسينات, وهذا اللفظ هو فعل (دلف او يدلف) ويفيد عند الفيروز آبادي في القاموس المحيط مشى مشية المقيد او المثقل بالحمل الثقيل, لكن يبدو ان الاخوة القصاصين منذ الستينات اعجبهم رنين الفعل فاسرفوا على انفسهم وعلى القراء في استخدامه حتى فاض الكيل بالاستاذ يحيى حقي فكتب يقول ما معناه: ما حكاية دلف هذه مع القصاصين الشبان هذا الغلو المتيم بفعل دلف محشوا بين السطور بالامس, حولوا الى مجموعات قصص قصيرة اراجعها لنيل جائزة نادي القصة, جلست الى مكتبي في هدأة ليل اقرأ الاقاصيص تناثرت من حولي الفاظ دلف ويدلف. من قبيل: ودلفت القطة من الباب وهي تموء في تثاؤب, او: ودلفت الحسناء يسبقها اريج عطرها الفواح من باب الفندق, او: دلفت ام بسطويسي من الباب ممسكة بمقشة الهجوم على جارتها ام عويس... الخ, القصد: راجعت القصص وكم اغاظتني حكاية دلف هذه واغلقت الدفاتر واطفأت المصباح ثم دلفت بدوري الى غرفة النوم. مع هذا كله كانت حكاية دلف واخواتها من اهون ما يكون على وجدان الناس وكانت مشكلاتها كوم, بالمقارنة مع بعض ما تنشره الصحف العربية السيارة والمحترمة والذائعة في زماننا وهو كوم آخر كما يقولون. انك تقرأ عناوين لا تفهم او لا تكاد تفهم وخاصة في ابواب الثقافة والفكر والادب, وكأنما يتبارى اصحابها في الابهام والغموض ربما ليتحدوا ذكاءنا نحن, عباد الله الذين يقرأون او ليدللوا على مدى شطارتهم في ان يأتوا بما لم تأت به الاوائل وهي خيبة بالويبة كما ترى لان السادة الاوائل كانوا يكتبون ما يفهمه معاصروهم ومن ثم كانت دورة الاتصال او التواصل بينهم وبين جماهيرهم من امتن ومن اكفأ ما يكون وربما تصور المرء ان الزملاء الكاتبين يحيطون كتاباتهم بكل هذه السحابات من الغموض والالغاز لانهم مثلا, اعضاء تنظيم سري اعلن الحرب على القراء, او افراد عصابة تعمل تحت الارض مافيا ثقافية تتبادل فيما بينها الفاظا كودية (نرجو ان يكتبها الزميل الطابع بالدال وليس بالراء فلا علاقة لهذا الامر بجمهورية كوريا الآسيوية وكانت من النمور سابقا وكان الله الآن في عونها وهي تستجدي ــ مع النمور ايضا ــ على ابواب صندوق النقد الدولي) نقول انها الفاظ كودية مقصور فهمها على اصحابها يحتكرون هذا الفهم لزوم المرتد عن الفتاكة الفكرية ان صح التعبير. ولسنا نظلم احدا وها نحن نختار لك مقاطع (فظيعة) من مقالة (رهيبة) يصدق عليها, في رأينا المتواضع وصف الفتاكة الفكرية التي تجعل المرء يشكك بداية في ذكائه حتى ولو كان من النوع المتواضع الذي تتمتع به في كل حال. في منتصف ديسمبر الماضي نشرت جريدة عربية ذائعة الصيت وتصدر من لندن مقالة بقلم زميل همام مفضال وصفته الجريدة بانه كاتب من العراق يقيم في فرنسا سوف (نهدي) اليك الى فهم سيادتك بالذات ثلاثة مقاطع منها: يقول الكاتب في المطالع: (... على المرء ان يفهم ويظل ضمن زمنه, التبديد محضور في الزمن, حتى الحضر نفسه لا ينبغي ان يبدده الزمن, فالزمن مطلوب منه ان يحافظ على الحضر, كل مأساة العالم, قوته وضعفه كامنة في تبديد الحضر بالرغم من وقاحة الزمن) . ويقول الكاتب نفسه في وسط المقالة: (... هوية صاحب الهوية التي لا يضيع وقته يدور من حول التجربة يطوف فقط كشبح من حولها لا شأن لها به اذ لا يمكن من المحال اقلاق التجربة بالهوية تهوى التجربة تضييع الوقت لكنها غير قادرة عليها فالهوى ليس من صلب التجربة لا يمت بصلبها رخو وهي صلبة ولا هواية التجربة ليست لا هوى ولا هواية) . .. اخيرا... وبعد هذا الاسهاب ــ الذي رأيت ــ في الشرح والايضاح والتفسير, وبعد هذه المقومات الناصعة الابانة يخلص, نقول يخلص زميلنا الكاتب الى محصلة المقالة البالغة العمق, يقول عند سطور النهاية بالحرف الواحد والله العظيم: (المحض يتحول بقوة المحض, الذي كان قبل ان يمر فيه المحض, كان محض وجود او كينونة دون تضييع وقت في هويته دون هاوية لكن عندما مر المحض في... لنقل للتوضيح (واخد بالك!) (فينا) حول كينونة الهوية, او هوية الكينونة او وجود الكينونة والهوية الى هاوية... الخ... الخ. بالذمة ده كلام؟ انك تقرأ كتابات السير جيمس جينز الانجليزي حول اسرار الكون فتشعر انك امام صديق حميم يحدثك في لغة سائغة بالغة الوضوح, وتقرأ كتابات احمد زكي او عبدالحليم منتصر او سمير حنا فتحس ان اسرار علوم البيولوجيا او الفيزياء او الكيمياء تفتح امامك مغاليقها حيث اللغة العربية تقدمها وتعرضها في ديباجة مشرقة ولفظ فصيح وبليغ. اين هذا كله من محضة المحض حتى قبل التحول محض الكينونة والهوية والوجود, اعطانا ضربة التحول كقسمة او القسمة كضربة تحول لا زيادة ولا نقص...) . نسيت ان اقول لك ان هذه المقالة الفريدة في بابها ـ مهداة الى المخرج العربي ـ المصري... يوسف شاهين! يكتبها اليوم: محمد الخولي

Email