استراحة البيان : هذه الشرارة المقدسة: بقلم: جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

آخر أمسية شعرية شهدتها, خرجت منها مسكونا بسؤال أظن انه يشغل الكثيرين: هل انتهى زمن الشعر الجميل ؟ كان على المنصة أربعة ممن تتردد اسماؤهم في الساحة الشعرية, صعدوا كالطواويس الى المنصة, وبدأوا في القاء شعرهم ليذبحوننا مرتين, مرة بالقصائد (!!) نفسها, ومرة اخرى بالالقاء الكسيح المليء بالاخطاء اللغوية والبعيد عن روح الشعر الحقيقي. وأنا من عشاق الشعر.. أعشقه مكتوبا بدم القلب, واعشقه ايضا حين يصافح اسماعنا بالاداء الجميل, واعتبر ان الالقاء الجميل للقصيدة حياة جديدة لها. اتذكر في شرخ الصبا, كيف كنا ندور في المنتديات الادبية وراء (شعرائنا) .. نعم فقد كنا نعتبر الجيل الطالع من الشعراء الشبان هم شعراؤنا, وبينما كان العقاد يشن حملته الضارية عليهم.. كنا نعيش معهم زهو الشباب ونفتح الجديد ونتذوق معهم عطر الشعر الجميل. عشنا مع احمد عبدالمعطي حجازي وصلاح عبدالصبور ثم امل دنقل وجيله من الشعراء, امسيات لا تنسى. لم يكن الشعر ثرثرة فارغة ولا تلاعبا بالالفاظ ولا غرقا في التراكيب الغريبة. وكنت اعشق القاء حجازي لقصائده, كان يسيطر على القاعة وعلى القصيدة, وكان الجمهور يفعل معه ما يفعله مع أم كلثوم وعبدالحليم... يحفظ قصائده ويطالبه بها في الامسيات وهو يعد بأن يلبي وان يسهر حتى الصباح... وكم سهرنا حتى الصباح! كلما فتحت ديوان المتنبي, يثير في نفسي سؤال: هل كان الرجل يقرأ شعره بنفس العبقرية التي يكتبه بها؟ هل كان من يفتن الناس بالنص وحده وهو كاف ويزيد, ام انه كان يضيف اليه انشادا جميلا؟ وكيف يكون الحال اذا اجتمعت عبقرية النص مع عبقرية الانشاد؟ بالطبع لم يكن المتنبي مثل شوقي الذي لم يكن يحسن القاء شعره, وكان ينوب عنه في هذه المهمة كثيرون منهم كامل الشناوي وسعيد عبده. ولكن هل كان سيد من ينشدون الشعر كما كان سيد من يبدعونه؟ في أمسيات الشعر يختلف التأثير بالقدرة على امتلاك تلك الشفرة السحرية التي تصلك بالجمهور وفي الظروف التي تحيط به. اتذكر هنا امسية حزينة عشناها مع اربعة من كبار شعرائنا ذات يوم. كانت المناسبة هي ذكرى الاربعين على وفاة جمال عبدالناصر, وكانت قاعة نقابة الصحفيين المصـريين لا مكان فيها لقدم, وكان الشعراء هم نزار قباني والفيتوري وصلاح عبدالصبور وحجازي, وكانت قصيدة نزار قتلناك يا اخر الانبياء قد انتشرت, كالنار في الهشيم على طول العالم العربي مع الضجة التي صاحبتها. ومع ذلك فلم يكن نزار في افضل حالاته في تلك الامسية, ومثله كان عبدالصبور ولعلع الفيتوري بقصيدته, وتجلى حجازي ببكائيته الملتاعة الرصينة. عقب الامسية عدت الى منزلي لاقرأ مرة اخرى قصائد الشعراء الاربعة وكلها كانت جميلة ووجدت نفسي اقف طويلا امام ختام قصيدة حجازي وهو يقول: إن رحلة حبنا ستكون حربا لا يقر لها قرار وما أقسى الحرب التي كانت على مدى ربع قرن, ومازالت. وما أصدق نبوءة الشاعر حتى ولو كانت قاسية. وعلى العكس من قسوة نبوءة حجازي, كانت نبوءة العبقري الراحل فؤاد حداد. سألته يومها: كيف فعلها؟ كيف كتب البيت المعجزة (الأرض بتتكلم عربي) عقب الهزيمة في 1967؟ وقال عم فؤاد: لقد الهمتها اولا, كنت اسير كالمجنون بعد العاصفة, حين جاء في الالهام فخرجت (الارض بتتكلم عربي) وبعدها اكملت: الارض بتتكلم عربي وقول الله ان الفجر لمن يغشاه ما تطولش معاك الآه وبعدها اتممت الديوان كاملا, وما اجمله من ديوان في حب الوطن وعشق الارض. ومع حرب اكتوبر كان عم فؤاد اسعد الناس, وكان يهتف: أنا الذي قلت ان الآه لن تطول... ولم تطل! في مكتبتي تسجيل جميل لعبدالرحمن الابنودي وهو درس في التواصل بين الشاعر وجمهوره يستحق التدريس. التسجيل من بداية الثمانينات, وكانت مصـر تمر بأزمة طاحنة بعد زيارة السادات للقدس وكامب ديفيد والصدام مع القوى الوطنية. وكان السادات حريصا على اختراق المثقفين. وقد بوغت الجميع حين رأوا في الصفحات الاولى للصحف اليومية صورة السادات وهو يستقبل الابنودي ليطلب منه ان يكتب عملا فنيا كبيرا عن حرب اكتوبر! وكانت ضجة في اوساط المثقفين كانت اثارها مازالت باقية حين وقف الابنودي في احتفال سياسي كبير ليلقي شعره وسط قاعة تهتف ضده! واستغرق الامر وقتا طويلا في محاولة التهدئة, حتى امسك الابنودي بالميكروفون ليقول ابياتا خارج القصيدة التي كان سيلقيها يصرخ فيها: يا ناس ياهوه انا مش عميل حد انا شاعر جاي من ضمير الشعب ثم يبدأ الابنودي في القاء قصيدته الجميلة عن عصر الانفتاح ورويدا رويدا تستجيب القاعة, وتبدأ اسلاك الاتصال بين الشاعر وجمهوره في العمل, وينتهي الامر بالاندماج الكامل وتبدأ القاعة في استعادة مقاطع القصيدة حينا والمشاركة فيها حينا اخر وتجىء الذروة مع تساؤل الابنودي المرير: هذا زمان الاونطة والفهلوة والشنطة تعرف تقول (جودنايت) وتفتح السامسونايت وتبتسم بالدولار؟ تقفل بيبان الوطن وتقول بتفحتها وترمي مفتاحها وتبيع في امك وأبوك! ورغم مرارة هذه المقاطع من القصيدة فان روحا من البهجة النبيلة الهادئة تسيطر على الموقف وتلمحها في صوت الابنودي وفي آهات الناس. لقد استعاد الجمهور شاعره, واستعاد الشاعر نفسه, وانفتحت امام الجميع طاقات من الابداع.. في الشعر, والسياسة, وفي الحياة الانسانية بكل ما فيها من تحديات ومواجهات, وانتصارات وهزائم, واخطاء وانجازات, وايام تزهو بالفرحة, وايام تكسوها الاحزان. ومع الشعر الجميل دائما... لا تطول الآه... واذا طالت فلكي تنفتح بعد ذلك ابواب الفجر الموعود.

Email