استراحة البيان: الإرهاب.. وما هو ألعن منه: يكتبها اليوم - محفوظ عبدالرحمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

احدى الجهات الغربية التي تدرس ما لا نهتم به هنا عادة, قدمت دراسة لم يصلنا منها حتى الان , الا نتف صغيرة. والدراسة عن هذا الاحساس الذي يسيطر على الناس في كل يوم وهو الخوف . فنحن نخاف من الفشل, ومن الثعابين, ومن السيارات المسرعة ونخاف على ابنائنا, ونخاف من الاماكن المغلقة والعالية, ونخاف من زوجاتنا او على زوجاتنا, ونخاف من الكلاب. وانا اعرف صديقا يجمع حوله عددا من الاصدقاء يشتركون في رعبهم من الكلاب. واذكر اننا كنا جالسين في احدى ليالى الصيف في شرفة منزلي. ولما آن وقت عودته الى بيته. نظر لي بدهشة وسألني: ألن اوصله الى سيارته ولما أبديت دهشتي بدوري لرغبته هذه قال: الا يمكن ان يكون هناك كلب يمر بالصدفة؟! وذكرني هذا به عندما قفز من مكانه ونحن نتحدث مع بعضهم. وهو الأمر الذي أثار دهشة الجميع, وفسره صديقنا بأنه سمع نباح كلب فأصابه الذعر. ولم يكن فينا من سمع هذا النباح, ولكن يبدو ان الخوف يشحذ الحواس, ومما ادهشني في صديقي هذا اننا كنا نتحدث عن شخص ذات مرة, فأثنى عليه رغم معارضة بعضهم. وختم دفاعه قائلا كمن ينهي الحوار: يكفيه انه يخاف من الكلاب! واظنني خشيت ان يتحول صديقي الى صاحب جمعية او عقيدة تدعو للخوف من الكلاب. وفي هذه الدراسة التي أشرت اليها وضعوا على رأس آلاف الاسباب التي تدعو للخوف: الخوف من الموت! وهو الاحساس الذي يلازم الانسان كل يوم, والذي يحتل عنصرا مهما في الدراسات الفلسفية. واظن ان الخوف من الموت يمثل الضلع الثالث من حياة الانسان وتاريخه, مع الرغبة في استمرار الجنس, والحاجة الى الطعام. بغض النظر عن ترتيب هذه العناصر الثلاثة. فالماويون يضعون الاقتصاد (او الحاجة الى الطعام وغيره) في قمة احتياجات الانسان, ولكن آخرين يؤمنون بكل ما كتبه الشعراء والأدباء على ان الحب الذي هو تعبير عن الرغبة في استمرار الجنس هو برهان على ان هذا العنصر هو احد العناصر. اما الخوف من الموت فكان خلفه الرغبة في الخلود والذكر الحسن وللأسف لم يصلنا من هذه الدراسة الا عناوينها, واظن ان فيها رؤية لهذا الاحساس: الخوف من جميع جوانبه فليست كل جوانبه سلبية كما يبدو لأول وهلة. وبالطبع ليست كل جوانبه ايجابية. وعلى اي حال الخوف ضرورة للانسان لكي يعيش, وضرورة له لكي يستمر. ولقد تداعت كل هذه المعاني لأنني احسست بخوف غريب لعدة اسابيع,اخذت اتأمله حينا, وأسخر منه احيانا, واوشكت ان اكتب عنه قبل ذلك, ولكنني احسست بالخجل, فلما فكرت انني قد لا اكون وحدي في هذا الخوف الطريف, قررت ان افتح لك صدري فقد تكون مثلي! لقد كنت (اخاف) من الإرهاب, وهذا طبيعي بالنسبة لاي شخص يقرأ او يسمع هذه المجازر البشعة التي يمارسها ارهابيو هذه الايام, ويكفي ان ترى ضحايا الارهاب الجزائري على شاشة التلفزيون لتفسد احلامك ليلة او اكثر. ولانني امارس (الخوف) كأي رجل عاقل واجهت مشكلة رهيبة هي انني احتفظ بصورتين لرجلين من قادة الارهاب!! الصورة الاولى لجيفارا ولقد بحثت عن صورة لجيفارا لأعلقها في غرفة مكتبي الى جوار صور جمال عبدالناصر وتشيكوف. وسقراط, وطلعت حرب, واحفادي ولكنني لم اعثر على صورة, وان كنت وجدت (تي شيرت ) مرسوما عليه صورة له. واشتريت (تي شيرت) وعلقته على شماعة وانا لا أحب كلمة مشجب! وفي اليوم التالي نقلته الخادمة الى حيث توضع الملابس فلما نبهتها الى ان هذه لوحة, انتظرت اسبوعا ثم وضعت الـ (تي شيرت) في الغسالة! وكانت صورة جيفارا التي كانت تثير في نفسي احساس الفخار والعزة بوجهه الصارم وعينيه الدافئتين, اصبحت مصدر قلق لي, فنقلتها من صدر المكان الى مكان لاتكاد ترى فيه. ثم نقلتها من خلف الباب الى غرفة النوم, ثم دسستها بين الثياب, لاثبت انني لست مع (الارهاب) !! والأنكى ان الصورة الثانية كانت لكارلوس! وان كان جيفارا بطلنا في الستينات, فلقد كان كارلوس بطلنا في السبعينات. كان جيفارا احد قادة حرب التحرير في كوبا وانتصر واراد ان يكرر التجربة في بلاد اخرى لكنه لم يدرك ولم ندرك نحن ايضا ان الظروف قد اختلفت, لم ينتبه احد الى ان بذور ما سمي بالعولمة فيما بعد, كانت تنبت, وان الدولة تزداد قوة بحيث صارت حروب التحرير تنتمي الى التاريخ اذ اصبح من المستحيل على بضعة افراد ان يزيلوا السلطة مهما كان التأييد الشعبي لهم. ودفع جيفارا حياته ثمنا لتغير الظروف. وكان على كارلوس ان يغير الاسلوب, فلجأ الى خطف الطائرات, والى الاغتيالات, وهكذا ضاقت المسافة بين (الثورة) و(الارهاب) لكنني كنت اعلق صورة (كارلوس) نكاية في اسرائيل ومن يقفون الى جوارها. ولكن هاهي اسرائيل اصبحت المالكة الوحيدة للارهاب تمارسه علنا وبلا حياء, اما العنف الوطني مقابل الارهاب, فاصبح جريمة عالمية, اختلطت الاوراق وفي عصر اختلاط الاوراق, ليس غريبا ان تحس بالخوف. وربما كان لك صديق مثلي راح ضحية هذا الارهاب, وصديقي هو احد المخرجين البارزين: فخر الدين صلاح, سافر الى اليونان ليصور مسلسلا هناك, وعاد على طائرة تعرضت للخطف ثم لمجزرة قتل فيها. ولا اظن انه مطلوب مني ان ابرر (الخوف) من الارهاب ولكن ما اريد ان اتحدث عنه هو (الخوف) من الاتهام بالارهاب! فنحن نعرف اننا اسرى المصطلحات وفي شبابنا الثقافي كنا نفخر باننا علمانيون بمعنى اننا نستخدم المنهج العلمي, ولم يخطر على بال واحد منا ان هذا ضد الايمان والحمدلله ايماننا عميق, ولكن فجأة أصبح مصطلح العلمانية ضد الدين, لا ادري كيف حدث هذا, فأصبحنا جميعا ضد العلمانية التي كنا نحبذها من قبل, ونحن لم نختلف, ولكن اختلف معنى المصطلح. ايضا اختلف معنى مصطلح (الارهاب) واصبح موازيا للعنف وفي وسط الهيستيريا الاعلامية من الصعب ان يتوقف احد ليناقش المصطلح في هدوء. فإذا كان العنف هو الارهاب فان العنف ايضا كان الثورات وحروب التحرير والكفاح الوطني ولكن من يستطيع ان يقول هذا الآن, من يستطيع ان يضع الجرس في رقبة القط, والقط مسلح بالطائرات والمحاكم والاعلام. ولكن ذات صباح تداعت الى ذهني كل البطولات منذ عرفت الحياة الى القادسية واليرموك الى صلاح الدين الى حرب اكتوبر فقررت ان اقتل (الخوف) . وفتشت بين الثياب واخرجت الـ (تي شيرت) وأعدته من شيء يلبس الى لوحة تعلق والمدهش انني رأيت جيفارا أوسم واكثر صلابة. اما صورة كارلوس فلقد اختفت تماما, وانا لا اتهم الـ (سي اي آيه) ولا (الموساد) , وأؤمن انني سأجدها ذات يوم, واذا لم اجدها بين اوراقي المبعثرة, ربما رأيتها معلقة في محل ما, فاشتريها, فانا لا اظن ان اسطورة كارلوس قد انتهت. وفي يقيني (انهم) مشغولون الآن بالقضاء على اسطورة كارلوس وان شيئا يدبر في الخفاء ومن يدري ربما تحول كارلوس الى فائق, اما البطولة فتكون من نصيب الذين فشلوا في قتل خالد مشعل. وضعت صورة جيفارا امامي تماما. ونظر لها صديقي وهو يدخن البايب وقال بحكمة: ـ اتظن انك بوضعك الصورة في غرفة مكتبك ستخفيها عنهم ان الاقمار الصناعية ترصدها الآن من جميع الزوايا. وتعالى دخان البايب كما كان يحدث في روايات (شارلوك هولمز) واستمر يقول: ـ الا تعرف انهم يستطيعون تصوير ماركة ملابسك الداخلية! وبأمانة شديدة اصابني خوف اكثر من اي وقت مضى! الا الملابس الداخلية) .

Email