استراحة البيان: التي أحببتها مرتين:بقلم - سعيد حمدان

ت + ت - الحجم الطبيعي

مثلها كاسرائيل, لا يمكنك دخولها, فالختم الاسود الذي يحمله جوازك يصرح لك بدخول كافة اقطار العالم ما عدا اسرائيل وجنوب افريقيا . الاولى عدوتك, فلماذا الثانية؟ انها ايضا عدوتك انت الانسان. في هذه البقعة من العالم صورة حية لصفحات سوداء من تاريخ الانسانية, صفحات حسبنا سوادها من ظلام العصور التي سادت فيه, وانها اصبحت في ذمة التاريخ لم يبق منها سوى الذكرى والعبرة فاذا بها حية لاتزال تسكن الانسان الذي اخترعها وآمن بها وزرعها في الارض ليموت بنيرانها وتعيش هي من بعده. انها جرثومة الاستعمار والاستبداد والعنصرية. فجنوب افريقيا حكم عليها الاستعمار ان تشرب من كأس الذل والاستعباد ونهب الخيرات ولكن مرارة الكأس التي ذاقتها هذه البلدة اشد قسوة من غيرها من البلدان, انها كأس يسجلها التاريخ من جديد ضد البشرية لان المرارة التي بداخلها تحولت الى سم ابيض عانى ويلاته واوجاعه رجل القارة السوداء. ففي جنوب افريقيا كل شيء للرجل الابيض, فالارض وما فيها له وحده, واهل البلد ايضا ملكه, هو الحاكم وهو القانون. ولو نهب المستعمر الابيض خيرات هذه الارض على تنوعها وغزارتها واكتفى لما ترك كل هذا السواد في عيون اهل هذه القارة وفي قلوب احفادهم, ولما احدث كل هذا الصدى السيء في العالم كله وفي سجل التاريخ, فمستعمر جنوب افريقيا سرق ذهب مدينة الذهب ومعادنها واستنزف ارضها واحتكر خيراتها وتجارتها واستعبد انسانها وعلمها شيئا واحدا, ان الجنس الابيض هو السيد وبقية الاعراق هي في الدرك الاخير وانها وجدت لتخدمه فقط فعاش سيد الارض عبدا في بلده. محرما عليه التعلم, لا يسكن في احياء البيض الراقية, بل لا يحلم بمجرد السير على طرقاتها, لا يأكل في المطعم الذي يأكل فيه الابيض. لا يركب المواصلات التي يستخدمها الابيض, ولا يدخل مكاتبهم أو أسواقهم أو اي مكان هم فيه, واذا اقترب الاسود من بعضهم بالصدفة فعلى الابيض ان ينظف نفسه ويعقمها! ووظيفة الاسود ان يكون خادما او من عمال المناجم او كاتبا اذا كان يملك واسطة كبيرة. اما بيته فهو في الاحياء القذرة ومساكن الصفيح خارج المدن الرئيسية والتي اشتهرت بها المدينة. هذا حال انسان جنوب افريقيا حتى جاء مانديلا ورفاقه وبدأت رحلة العصيان والغضب وتحطيم الاسطورة, ليسمع العالم بكاء جنوب افريقيا بصوت وكفاح وسجن مانديلا. وطبيعي ان نتعاطف مع الانسان المظلوم الذي يقدم حياته لوطنه, طبيعي ان نحب مانديلا وان يسكن قلوبنا وان تحرك صورته مشاعرنا وان نحاول ان نكون معه بهذه المشاعر, طبيعي ان نحلم بزيارة هذه الارض المظلومة وهذا الوطن الذي انجب مانديلا. وطبيعي ان يكون هذا الحلم صعب المنال بل مستحيلا قبل عشرين سنة. ومع تحطم قيود السجن الطويل وهبوب رياح الحرية وارتفاع راية العدالة وعودة جنوب افريقيا الى العالم والحياة. زرتها مثل كثير من عشاقها الذين لم يحلموا برؤيتها زيارة محملة بالقلق والمغامرة والخوف الشديد. فماذا ستجد فيها غير شبح التخلف والخراب والحرمان والاوبئة واللصوصية الذي يسكن مختلف دول هذه القارة. الصدمة الاولى التي تستقبلك بها جنوب افريقيا تبدأ عند مدخل المطار, ففي مختلف المكاتب وعند أكشاك الزهور والهدايا ومن تقابلهم من رجال الامن والنظافة تشاهد مزيجا من الوجوه السوداء والبيضاء يمشون مع بعض. يعملون بجانب بعض وان كانوا على درجات مختلفة, يبتسمون لبعض, يصدمك هذا التقارب, لكنك تشعر ان لمانديلا سحرا خاصا هذا بعضه. الصدمة الاهم للزائر الضيف هي المدينة التي جاء اليها ان لم يكن قد تعرف عليها بالصور والشروحات المطولة, فهي بلد لا يصدق العقل ان تكون في افريقيا. انها تأخذ من هذه القارة اجمل ما فيها وهو طبيعتها الساحرة واسمها, فجنوب افريقيا قطعة من اوروبا, قطعة من العالم الحديث المتطور. ووصف هذه الجنة الافريقية يحتاج الى استراحة اخرى... فالى الملتقى.

Email