استراحة البيان: فوازير... والأمر لله:بقلم - جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

غفر الله لعمنا وتاج رأسنا ونوارة الشعر والشعراء على مدى نصف قرن... بيرم التونسي, عاش فقيرا ومات فقيرا, جاع وتشرد وذاق مرارة الغربة وقسوة المنفى , ولكنه لم يتوقف عن الابداع الجميل, فملأ الدنيا شعراً وترك وراءه اجيالا من الشعراء يسيرون على دربه وينهلون من نفس المنبع الصافي الذي نهل منه, وينحازون لكل المعاني الجميلة التي انحاز لها, ويدفعون ــ كما دفع ــ ثمن اختياراتهم الصعبة... والصادقة, من أول فؤاد حداد وجاهين الى الابنودي وفؤاد نجم الى أجيال جديدة مازالت تقاوم في زمن التردي والانهيار! غفر الله لعمنا بيرم, فمع كل ما أبدعه, ابى في اواخر حياته الا ان يكون السبب في هذا الوباء الذي استشرى ليصبح حكاية كل بيت مع قدوم رمضان, بل وقبله بشهور حين تبدأ الحكايات والنوادر والمفاجآت التي تدور كلها حول... الفوازير! كان بيرم يريد ان يسلي صيامه وصيامنا ويكسب بضعة جنيهات في زمن كان بخيلا على الشعراء, وهكذا كتب بيرم (فوازير رمضان) للمرة الاولى لاذاعة القاهرة وقبل ان يظهر التلفزيون في حياتنا. كانت (فزورة) بحق وحقيق, بضعة ابيات من الشعر الخفيف الظل تحمل لغزا بسيطا يبحث له المستمعون عن حل ليسلوا صيامهم او ليفوزوا هم الاخرون ببضعة جنيهات في آخر الشهر الكريم. ورحل بيرم بعد سنوات, ولكن الفوازير لم ترحل. فقد اجتذبت مبدعا جميلا آخر هو صلاح جاهين الذي تسلى معنا سنوات كان ميكروفون الاذاعة هو الذي يجمع الاسرة في امسيات رمضان الجميلة. ثم جاء عصر التلفزيون. وانتقلت الفوازير من الاذاعة الى الشاشة الصغيرة. وكانت البداية متواضعة بعض الشيء. لم تكن الالوان قد دخلت عالم التلفزيون, ولم تكن الامكانيات كبيرة. وبدأت الفوازير التلفزيونية ضاحكة مع ثلاثي اضواء المسرح الذين قدموها لسنوات, ثم انقلبت الاوضاع مع دخول الارسال الملون والامكانيات الهائلة, وانتقل صلاح جاهين بموهبته الطاغية الى التلفزيون, ولم تعد الفوازير مجرد لغز بسيط مطلوب حله, بل تحولت الى برنامج استعراضي ضخم, تألقت فيه الفنانة نيللي التي تحولت مع الفوازير من ممثلة سينمائية درجة ثانية الى فنانة استعراضية هائلة, ونافستها الكثيرات بعد ذلك, كانت أبرزهن شريهان. الى هنا والامر كان في حدود المعقول, ولم يكن هناك الا برنامج واحد للفوازير تستعيره المحطات العربية, لكن الامور بعد ذلك اختلطت , والقنوات تعددت , والكل انتبه الى ان الزمن هو زمن التلفزيون, وانه هو الذي سيقوم بتشكيل الرأي العام, وبدأت حرب التلفزيون وقتال القنوات الفضائية والارضية على المشاهد بكل الوسائل... والمسلسلات الى الفيديو كليب, ومن كشف السيقان وارتداء الميني والميكرو جيب الى كشف العقول في برامج الكلام الذي (لا يودي ولا يجيب) ! والمهم في كل ذلك ان الفوازير بقيت مرتبطة بشهر رمضان, رغم انها لم تعد (فوازير) بل مجرد حدوتة استعراضية, ورغم انها لا علاقة لها من قريب او بعيد بشهر الصوم الكريم, ومع ذلك اصبح اليقين عند اهل التلفزيون واصحابه ان الصيام لا يجوز في غيبة الفوازير, وان رمضان سينقصه الكثير اذا غابت عن الشاشة الصغيرة نيللي او شريهان أو على الاقل جيهان نصر أو ابراهيم نصر أو اي نصر كان! وبدأت حرب الفوازير في كل مكان, واصبحت المعارك على بطولة الفوازير حديث كل عام. فالفوازير هي فرصة اثبات النجومية للنجمات, او الباب الى الشهرة او زواج المليونيرات للمبتدئات, والتعاقد على بطولة الفوازير اصبح حدثا قوميا يتصدر الصحف ويزف البشرى للمشاهدين. ومع زيادة الاهتمام وحدة المنافسة, ومضاعفة النفقات, وتوافر الامكانيات بدأ يسوء المستوى عاما بعد عام, لم تعد هناك لمحة عبقرية عند صلاح جاهين ولا جهد الابداع عند مخرج مثل فهمي عبدالحميد, ولا طزاجة المشاعر عند النجوم, اصبح الامر مجرد (سبوبة) بلغة اهل الفن هذه الايام, تتغلب فيها الصنعة على الموهبة, ويقاس فيها النجاح بكمية الاعلانات التي تسبق البرنامج او تتبعه او حتى تقطعه الى اوصال مفتتة. هذا العام ظهر عامل اثارة جديد في الموضوع, وتحولت الفوازير الرئيسية في التلفزيون المصري الى قضية في المحاكم قبل ان تعرف طريقها للشاشة الصغيرة, وحتى الان فان نصف المشاهدين يدعون انهم هم المؤلفون الحقيقيون للفوازير والكل يقدم ما يثبت انه سبق الاخرين للفكرة العبقرية (التي هي تقليد الممثلين لا أكثر ولا اقل) والبعض اثبت بالفعل انه اكثر وعيا فقدم ما يفيد بأنه قد سجل الفكرة من سنوات في الشهر العقاري, والبعض يكتفي بشهادة الشهود, والبعض يهدد بمنع الفوازير بالقوة, والبعض يهدد باللجوء لمجلس الامن وهو واثق ان قراره سيكون حاسما وسريعا بتشديد الحصار.. على العراق أو ليبيا! اما امثالنا من عباد الله الغلابة, فليس امامنا الا ان نقرأ الفاتحة على روح عمنا بيرم وصلاح جاهين, ثم ننسى كل ما كتبناه, ونجلس بهدوء امام التلفزيون لنتفرج على الفوازير , فنجد ان المستوى سيء, والتجديد مفتقد والمواهبة شاحبة. مع اننا لو نقلنا واقع السياسة العربية كما هو الى شاشة التلفزيون لحصلنا على أبدع فوازير في الكون كله, الا يكفي ان فوازير السياسة العربية مازالت لغزا لم نستطع حله على مدى خمسين عاما, واننا مازلنا كما كنا قبل نصف قرن ندور حول أنفسنا نبحث عن الحل الذي لا نجده أبدا, وكلما اقتربنا من خط النهاية وقفنا نردد باعجاب شديد: نقول كمان؟!

Email