استراحة البيان : الكاتب عندما يموت مرتين:يكتبها اليوم : محفوظ عبد الرحمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

سألتني المذيعة تحت عنوان (هؤلاء علموني) فلما تركتني, كنت غارقا في التفكير حول سلامة موسى أولا: لانه أحد الذين علموني, وثانيا لانه كان له كتاب هام تحت نفس الاسم الذي اتخذته المذيعة عنوانا لبرنامجها (هؤلاء علموني) . وعندما تحس بالحنين الى كاتب ماذا تفعل؟ تعود الى كتبه. وهكذا فعلت. فصدمني انني لم أجد في مكتبتي كتاباً واحداً لسلامة موسى. وكدت لا اصدق هذا, فلما صدقته, لم أصدق ما يحدث. فلقد كان في زمن من الازمان كاتبي المفضل. وها هو بعد سنوات طويلة وقد تطاير فلم يبق منه شيء. وترقرقت الدموع في عيني. وبكيته مرة اخرى! ولقد قرأت سلامة موسى في وقت مبكر, اذ كنت آنئذ في المدرسة الثانوية, وكنت قد قرأت المنفلوطي واحمد شوقي وجبران خليل جبران, وميخائيل نعيمة, فأتى كاتب آخر انكر على هؤلاء الاسلوبية, وصرخ بان اللغة يجب ان تكون معبرة تماما عن المعنى. وان الحياة هي علم. وان رجال العصر هم دارون وفرويد وماركس. ووجدت هذه الآراء هوى في نفوسنا ونحن دون السابعة عشرة. ووضعنا سلامة موسى امام العقاد, وكأن المفكرين يجب ان يكونوا احزابا متناقضة. وبلغ اعجابي بسلامة موسى أنني كنت اسافر الى القاهرة, وكان ذلك شيئاً هائلاً- لاستمع الى محاضراته في نادي الشبان المسيحيين حيث كان يلقي محاضرة كل يوم ثلاثاء. وعندما اتيت الى القاهرة لأدخل الجامعة كان من اوائل اهتماماتي ان اتعرف على سلامة موسى. ولم يكن ذلك صعباً. ولسوء الحظ كان ذلك في الوقت الذي اتهم فيه بأنه تخلى عن مبادئه, وعمل في دار اخبار اليوم. وفي حدود ما اذكر- فالمكتبة خالية من كتبه, اعتقد انه لم يكتب شيئاً هاماً آنئذ. وتعرفت على سلامة موسى وكان يسكن بيتاً متواضعاً في حي الضاهر بالقاهرة. ولما عرفته لوقت طويل ادركت ان آراءه التي بهرت بها في الخمسينات تحولت الى عقيدة لا تقبل المناقشة وكان يغضب غضباً شديداً عندما يعارضه احد. وهو نفس ماكنا نأخذه على العقاد. تحولت آراؤه الى نظريات لا تقبل المناقشة. بل تحولت الى ميزان من خرج عنه خرج عن كل شيء. ولم يدرك سلامة موسى ان الزمن يتطور. وان آراءه بدأت تدخل في تفكير عصر مضى. ولم ينتبه الى مأساة استاذه الذي اختفى الآن تماماً من خريطة الفكر العربي وهو شبلي شميل. واعتقد انه كان كاتباً لبنانياً من الذين اتوا الى مصر في اوائل هذا القرن هروبا من الاضطهاد في بلاد الشام. أو بحثا عن مركز حضاري. ولا اعرف ما كتبه شبلي شميل الا نقلاً عن سلامة موسى. وكان شبلي شميل أول من قدم نظرية التطور لدارون واعتبرها محور افكاره. ولكنني فيما بعد عرفت ان شبلي شميل لم يكن كاتبا محصورا في الاسلوب العلمي المحدد الذي روج له سلامة موسى. فلقد وقعت في يدي بطريق الصدفة مسرحية صدرت في 1916 عن الحرب الاولى من تأليف شبلي شميل. واذهلني هذا الاكتشاف خاصة وان سلامة موسى لم يشر الى اي اهتمام ادبي لاستاذه. ولعل سلامة موسى كان يكره الأدب. ولم نكن نعرف ذلك في حينه. ولو كنا عرفناه لما كانت له هذه المكانة في نفوسنا. وعندما كنت معجباً بسلامة موسى كنت احتفظ بكتبه في طبعاتها المختلفة, ولكن مكتبتي فقدت في الغزو المغولي, والمغول الجدد هم شباب العائلة الذين انتهزوا فرصة سفري للعمل في الخارج. ونهبوا المكتبة حتى وصلت الى الارض. ورغم غضبي لهذا الا انني كنت أحس الرضا, ظنا مني انهم اخذوا هذه الكتب ليقرأوها. ولكن صار الآن في يقيني انهم نهبوها ليبيعوها بأبخس الاسعار! وجددت المكتبة بعد ذلك لكنني لم افكر ابداً في سلامة موسى حتى وجدت هذا الموقف المأساوي: ان اقرب الكتّاب الى شبابي لم يبق منه لدي شيء. وهو الذي كان موجوداً بطبعاته المختلفة, كما كان في مكتبتي بعض النصوص الخطية, واحدها لم ينشر الا بعد وفاته. وجعلني هذا افكر في الكتّاب الذين لمعوا ثم اختفوا ولم يخلفوا وراءهم الاثر المرجو واذكر ان كاتب القصة الذي كان يسبق جيلي هو ابراهيم الورداني؟ ومن يعرف الآن ابراهيم الورداني. واذا عرفه احد هل يستطيع ان يقرأ له. وأظن ان للكاتب نشاطين, الاول هو ما يبقى للزمن, والثاني ما يشغل به الناس في عصره. وان هذا قد يختلط بذاك, وان الكاتب في النهاية يصفي ما يريد, وبالطريقة التي يريدها. ولا اظن ان الكثيرين يعرفون ان الكاتب الاسباني سرفانتس كان كاتباً مسرحياً. وانه عاش حياة طويلة من الفشل الذريع, حتى كتب (دون كيشوت) فإذا بها تتحول الى انفجار في عالم الكتابة ويتفق عدد من النقاد على انها أهم رواية في تاريخ الادب. لأنه ضاع كل ما كتبه سرفانتس ولم يبق منه الا هذه الرواية لأنها نعي ساخر لعصر الفروسية الذي لم يكن يجرؤ احد قبله على ان يمسه. واذا تحدثت عن جيلي وما كان يقرأ, سأجد ان احد اساتذتنا الكبار هو احمد حسن الزيات. فاين هو الأن؟ لقد كان جهده الاكبر في اصدار اعرق مجلة ادبية عربية وهي (الرسالة) ولا يعرف الكثيرون انه اصدر الى جوارها لفترة مجلة قصصية بعنوان ( الرواية) وكانت من اوائل المجلات التي نشرت قصص نجيب محفوظ. وكان أحمد أمين هو القمة المواجهة للزيات وكان يصدر ايضاً مجلة ادبية هامة هي (الثقافة) ويراها البعض تفوق (الرسالة) . والحديث عن احمد امين يغريني بالحديث عن كتابه الهام: فجر الاسلام, ضحى الاسلام... الخ. لقد قرأ التراث العربي وحققه, وكتب هذا الكتاب الهام فكان تقريبا أول رؤية عصرية متكاملة لهذا التراث الهائل. لكن الناس يجدون فيه كتابا من الكتب. ولا يدري احد انه لولا أحمد أمين لتأخرت الدراسات العربية سنوات. وحصاد طه حسين فيه شيء لزمانه وشيء للتاريخ, فلقد أجهد نفسه في ان يعرف بالادب الامريكي الذي يعبر حتما عن الشعب الامريكي (شتاينبك وكالدوين) وعرّف بالقرامطة وثورة الزنج وقارن بين هؤلاء الآخرين وبين ثورة سبارتاكوس. وكل ذلك يعرفه الآن اي تلميذ في سنة اولى ثقافة.! ولكن هل يهتم الكاتب حقاً بأن يترك بعده ما يبقى؟ هل حاورت سلامة موسى وقلت له: لقد كتبت خمسين عاما, واصدرت عشرات الكتب, واحدى أهم المجلات الثقافية. ولكن ماذا تركت للمستقبل؟ من يدري ربما قال لي: انا يشغلني عصري. لا يهمني ما يحدث بعد وفاتي. لدى دور أؤديه, أما ما يبقى فلا يعنيني. هذا اذا لم يضف الى ذلك انه احيانا يبقي ما يبقي بالصدفة. وهذا الحديث يثيره ان الكاتب يهمه ان يصل الى قارئه. وانه يكتب لكي يؤثر في الناس. وان الكاتب حريص على ان يترك للاجيال القادمة افكاره. ولكن لكل نظرية من يخالفها. واذكر اننا كنا معجبين بمدرسة (الديوان) التي اتت بمفاهيم جديدة عن الشعر وانتقدت نقداً مريراً احمد شوقي. وكانت مدرسة الديوان مكونة من ثلاثة اشهرهم عباس محمود العقاد ثم ابراهيم عبد القادر المازني واخيراً هذا العبقري المجهول عبد الرحمن شكري. ويبدو انه قد حدث خلاف داخل ( الترويكا) الادبية وان هذا الخلاف اثر في شكري. ويبدو ايضا ان شكري كان شديد الحساسية, فانسحب من الحياة الادبية, بعد ان ترك بصمة نقدية, وقصائد جميلة. وبعد فترة افترضت الحياة الادبية ان عبد الرحمن شكري رحل عن عالمنا وخرجت دراسات تهتم به وتثني عليه, بل واحيانا تنحاز له ضد زميليه الكبيرين العقاد والمازني. ولم نتخيل ان عبد الرحمن شكري مازال على قيد الحياة وكيف تخطر الفكرة على بالنا والجميع يتعاملون ويكتبون على انه كاتب راحل. الى ان جاء يوم قرأنا نعيه في صفحة الوفيات. واصابتنا دهشة كبيرة. واكتشفنا انه ترك الكتابة والزحام عليها. وذهب ليعيش في مدينة رشيد الساحلية. وانه وصل الى اعلى المناصب في التعليم فلقد كان مدرساً للغة الانجليزية. ولابد انه كان يقرأ ما يكتب عنه أو بعضه. لكنه رفض ان يخرج عن صمته. فإذا كان الوسط الثقافي يقول انه قد مات. ربما كان هو ايضا يقول ان هذا الوسط قد مات ايضا بالنسبة له. أعود الى قصتي الاولى.. من هذه الصدمة العنيفة واكتشافي انني لا احتفظ بكتاب واحد لسلامة موسى. مررت ببعض المكتبات التي اتعامل معها. والمدهش انني لم أجد فيها للأسف كتابا واحداً له!

Email