كيف غيّرت «أرض الفرص» مسارات التاريخ؟

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يحتوي التاريخ الإنساني على تجارب حضارات وأمم عديدة، منها من استطاع أن يرسم لنفسه بصمة خاصة ونجاحات لم تكن محصورة لفترات محددة واستفادت البشرية من الخلاصات التي تم التوصل إليها عبر جهود الأمم المميزة التي اهتمت بالدرجة الأولى بعقل الإنسان وإتاحة الفرصة له واحترام رأيه في المجالات المختلفة، باعتبار أن التباين والاختلاف يولد التنوع ويضيف قيمة للعلم ويساعد الإنسان في حياته.

الواقع أن توفير الفرص والبيئات المساندة للموهوبين أسهم بشكل بارز في إحداث نقلات مهمة في مسار الحضارة البشرية، وعزز أيضاً في قوة الدول وقدرتها على التطور. وهكذا نجد عبر التاريخ، أن الامبراطوريات الكبرى هي التي ساهمت في تقدم الحضارة البشرية، وذلك لسببين: الأول خلقها للفرص، وثانياً إتاحتها للموهوبين الانتقال إليها. وعلى غرار التاريخ، نجحت دول ومدن عديدة، في عالم اليوم، أن تكون جاذبة للمواهب والابتكارات، وتعد دبي نموذجاً رائداً لأرض الفرص، وساهمت في إيقاف نزيف الخبرات العربية باتجاه الغرب، بإيجادها بيئة علمية ومهنية متطورة قائمة على المزج الحضاري بين الثقافة العربية والانفتاح على العالم. وفي العموم، يشهد التاريخ أنّ سياسات إتاحة الفرص والتشجيع على الابتكار كانت في قلب حركة التطور البشري، وكانت لكل مرحلة من مراحل التاريخ هناك «أرض للفرص» ومواهب تبحث عن «أرض الفرص».

مقومات

أستاذ التاريخ الحديث المعاصر من الجامعة الأردنية، د. إبراهيم الشرعة قال في تصريح لـ«البيان» إن هنالك نظريات تاريخية عديدة تتحدث عن نشوء الحضارات، وتبين أن الدولة حتى تتطور وتتقدم يجب أن تمتلك مقومات معينة، إما بشرية، أو عسكرية، أو علمية وغيرها من المقومات، فالدول عبر التاريخ حتى يصبح لها ثقل وذات وزن وتأثير محلي وإقليمي وعالمي لا بد من أن يكون لديها مقوم مميز، ومن أهم النظريات التي بينت أساس التقدم هو وجود النخب والصفوة، وهم مجموعة من الأشخاص المبدعين الذين يحاولون التغيير للأفضل، وفي الدولة اليونانية والرومانية وأيضاً الفرعونية كان هنالك أمثلة كثيرة. يضيف الشرعة: «إن الدول أيضاً لا تعيش بمعزل عما يحيطها، وهنالك حالة من التأثر والتأثير، وهذا تأكد من خلال دراسات كثيرة لأمم وحضارات سابقة، فالتعاون كان موجوداً بينهم مما يتضمن انتقال الأفكار والأنظمة، فمثلاً في الامبراطورية الرومانية حتى نهاية اليونانية، من أهم الأمثلة ما هو معروف بالديكابولس وهو حلف تجاري اقتصادي يتشكل من مدن عشر، وهذه المدن تعد مجموعة بسبب لغتهم وثقافتهم وموقعهم ووضعهم السياسي، حيث كانت كل مدينة منها وكأنها دولة مستقلة، توصف المدن أحياناً بأنها رابطة، على الرغم من أن بعض العلماء يعتقدون أنها لم يتم تنظيمها رسمياً كوحدة سياسية كانت مدن الديكابولس مركزاً للثقافة اليونانية والرومانية، وهذا النظام عمل على الاستعانة بسكان المناطق وبالتالي البحث عن الفرص، وتطوير المناطق والزراعة وأيضاً امتازوا بتطوير المكاييل والموازين، وهذا مثال على التأثر والتاثير». وبين أن الإنسان بطبعه مكتشفاً ومبدعاً ولكنه يحتاج إلى الأرضية الصلبة التي تحميه وتقف إلى جوار أفكاره.

نهضات مرتبطة بالعلوم

من جهته أوضح أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأردنية د. مجد الدين خمش في تصريح لـ«البيان» أنّ الابتكارات والاختراعات ساهمت بشكل أساسي في تقدم البشرية، وفي ازدهار وارتقاء المجتمعات وفي مسار الإنسانية، فمثلاً كان لسلسلة الاختراعات الإسلامية التطبيقية دور كبير في تسهيل ذلك، فقد أتاح اختراع المسلمين للسفينة ذات الشراع المثلث الشكل، والتطويرات اللاحقة عليه الإبحار لمسافات بعيدة، لا سيما في المحيط الهندي.

أضاف خمش: كما كان الأوروبيون قبل ذلك قد أرسلوا البعثات إلى الأندلس لتعلم العلوم الطبية، وعلوم الفلك، والكيمياء، وتصنيع التقنيات المادية والعسكرية حيث عادت هذه البعثات إلى الممالك الأوروبية ونشرت العلوم والتقنيات العربية فيها، لا سيّما في المجالات الطبية والعسكرية. وشكّل ذلك عاملاً أساسياً في نهضة أوروبا علمياً وعسكرياً وصناعياً والتي توّجت فيما بعد بالثورة الصناعية الأولى في بريطانيا في بدايات القرن الثامن عشر. وبحسب خمش: فإن المستشرقة وعالمة اللاهوت الألمانية زيغرد هونيكه أوردت في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب) أن الخوارزمي عمل على تأليف كتب في علم الجبر انتقلت فيما بعد إلى أوروبا، وأصبحت من المراجع العلمية المهمة في أديرتها، وجامعاتها. وأسهمت هذه الكتب في نقل الأعداد العربية، الخوارزمية، إلى أوروبا حيث تعلمها الأوروبيون واستبدلوا بها الأرقام الرومانية القديمة مما سهل عليهم عمليات الحساب والتجارة.

بدوره، أكد أستاذ علم الاجتماع د. محمود السرحان أن الدول هي المسؤولة الأولى عن توفير البيئات الآمنة والداعمة للمفكرين والمبدعين، ولدعم أيضاً التفكير الريادي للمواطنين، سعياً لإدماجهم في العملية التنموية الشاملة نماء وإنماء، فلا تنمية شاملة بمعزل عن استثمار طاقات الشباب من خلال توفير الفرص لهم التي فعلياً ستعود عليهم بالنفع والخير، وأيضاً تنعكس إيجاباً على مجتمعهم من خلال التقدم والنمو.

أضاف السرحان: «الدول التي تسعى لتوفير الفرص وتحفيز الدافعية لدى العقول المبدعة، هي بذات الوقت تخطط لتحقيق الازدهار في كافة المجالات».

وبين السرحان: «لقد نجحت العديد من البلدان في تجسيد هذه السياسات والاستراتيجيات في تحقيق التنمية الكاملة والمستدامة بكافة أبعادها وأنماطها وفي مقدمتها دولة الإمارات المتحدة عبر انتهاجها لسياسة التنويع في مصادر الدخل والمرونة والانفتاح على الثقافات المختلفة والأخذ بالتدابير التي من شأنها أن تحفز الاقتصاد».

Email