لكل سجادة حكاية (4)

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما شرعت في كتابة هذه السلسلة من " لكل سجادة حكاية " لم اكن أتوقع أن تثير اهتماما واسعا لدى القراء ، لكن العكس هو ما حدث ، فقد لاقت هذه السلسلة متابعة جيدة، بل و كشفت لنا حكايات أخرى من حكايات السجاد ، بل وبادر بعض القراء للتواصل معنا.

في تعليق مقتضب على أحد حلقات " لكل سجادة حكاية " كتب الاستاذ يحي زايد يقول أن لديه سجادة عمرها يزيد عن مائة عام ، ولها قصة طويلة وتأثير كبير في حياته .

طلبت منه أن يحكي لي قصة سجادته وزرته في مكتبه بأبوظبي ،حيث عاينت السجادة التي بالفعل أذهلتني بروعتها، وبصمودها في وجه الزمان ، رغم المعاملة القاسية التي لقتها في مسيرتها .

اسم هذه السجادة " سوشتلت " ولها حكاية طويلة مع الاستاذ يحي زايد ، كتبها بنفسة وأرسلها لنا في " البيان الالكتروني " ، ونحن بدورنا ننشرها هنا كما وردتنا دون تحريف أو تعديل .

هي بالنسبة لي سجادة علاء الدين ، فهي الفرشة التي جمعت عليها طفولتي ونشأتي ، وهي سريري الذي كان يجمع شملي ، ولا أنس القاعة الكبيرة في منزلنا ذات الأرضية الرخامية الملونة بعناية فائقة وجمال أخَّاذ ويحميني من الصقيع المتدفق منه والبرد القارص تلك السجادة التي لا تتعدى مساحتها بضعة أمتار لإنها كانت فرشتي ومحيط حركتي".

أتذكر كلمات جَدّي رحمه الله الذي أتى بتلك السجادة كهدية لتكون فرشة تقي شقيقي الأكبر من برودة الأرض و بأن تلك السجادة كانت الشيء الوحيد الذي أستطاع أن يحمله - بعد إنهاء عمله قصرياً في البحر - لكي يفترشها في قطار الشرق الذي أستقله من تركيا عائداً إلى مسقط رأسه الإسكندرية بمصر ، وتلك العودة كانت إشارة توقف لعمله و دامت لفترة طويلة حيث أضطر لعدم العودة لباخرته التي كانت تجوب المتوسط ، تاركاً باخرته وحيدة بالقرب من جزيرة كريت مضطراً للعودة بالبر عبر تركيا حيث صدرت التعليمات بتوقيف الملاحة البحرية للبواخر البريطانية بسبب الفوضى التي أحدثها العنف الألماني المنذر بحرب عرف بعدها أنها حرب عالمية وأسماها التاريخ بالحرب العالمية الأولى.

استقل قطار الشرق وتوقف في فلسطين ليشتري بعض المقتنيات المقدسية وليظل رفيقاً للقطارات حتى وصل إلى الإسكندرية. ومات رحمه الله ولكنه ترك لي صفحة أقرأها طوال عمري حتى إنها أثرت في حياتي ومستقبلي ، وربما بسببها عشقت فن الرسم وكنت ماهراً في إستخدام الألوان قبل المهارة في الإمساك بالقلم الرصاص ، ولكن الأهم هو موضوع تلك السجادة لإنه كان قصة ورمز ومدرسة فأثرت في حياتي وتوجهاتها حيث قضيت طفولتي مرافقاً لمهارة الرسم وما أن كدت أضع قدمي في ضرب الفن لأجدني رافضاً فكرة الإستمرار في دراسة الفنون الجميلة والإتجاه صوب دراسة إدارة الأعمال ، نعم فقض قضيت أربعة سنوات مع الإدارة والتنظيم لإجد أن التوجه لم يكن كافياً وكان بالأحرى أن أضيف عالماً دراسياً أكثر ضرورة وهو الدراسة الإجتماعية .

ففي سجادتي قصة التنظيم والإدارة وهذا الموضوع وجهني للإدارة والقيادة ودراسة علم التنظيم وكيف خلق الله سبحانه وتعالى الكون في عملية إدارية نموذجية دائمة لا تتوقف على مدى الحياة ، وسبحانه من آدم عليه السلام إلى أن يقبض الله سبحانه وتعالى الناس جميعاً وعملية النظام والمنظمات ونظم الحكم والإدارة تتوارد وتتعيش بين النصر أو الهزيمة أو في النجاح أو الفشل ولكن الحكمة تقول أن الجوهر شيء والمضمون شيء آخر ، فإن كان الشكل المرئي في الخريطة التنظيمية حيث المواقع والوظائف و المسؤوليات والسلطات ، فإن هناك بعداً أهم وهو الواقع الإجتماعي والفكر الذي تستند عليه عقيدة التنظيم ذاته .

بإختصار ..

ربما يجد البعض في السجاد تحفة تزين بها الجداران ( الفن للفن ) ، ولكنها عند والدتي وبالتي عندي تحولت إلى مدرسة ( الفن للحياة) ، نعم مدرسة أخذت بيدي وأنا أبحث وأتفهم الحياة منذ نعومة أظفاري ، وإنها لنصيحة لكل أب ولكل أم أن يهتم بالأرض التي يربي عليها أطفاله ، وعليه أن يدرك أن الموكت والسجاد الفاخر وسيراميك الأرضيات ليس مدعاة للزخرفة وترف العيش ، وتماماً مثل أجدادنا عندما كانت الأرض تشكل لهم معلماً مهما وأثراً ضروريا يقتفونه ويفهمونه وعنه يقرأون الماضي ، ومنه يستدلون على موارد الحياة ، فإننا أيضاً علينا أن نهتم ببيوتنا الحديثة وبتسخير المدنية لتخدم أهدافنا الإجتماعية التي خلقنا لنعيشها وبالضرورة أن ننجح فيها لإنها الطريق إلى الله ، وقد خاب من عاش لنفسه ، ولنعود إلى سجادتي فإنه يتصدرها ملك عادل ، ربى طفله ( ولي عهده ) على الطاعة والإهتمام بشعبه ، بواسطة جهاز إداري وعسكري وإجتماعي كفء ، نعم كفء لإنه متكامل متوازن مشمول بالتخصص والإلتزام والمسؤولية .

" إنه تحكي قصة نظام حكم أعمدته ترفع راية المجتمع وليست راية الأنا ويبدو فيها الملك المطمأن وولي عهده اليانع ووزيره الملتزم وحكيمه الناصح وديوان محمول على الأكتاف لشعب يتجمل بمسؤليات العمل والدفاع والإستقرار".

ولعل في تلك الرؤية المرسومة على صفحة واحدة تعبيراً يحتاج لكتب لتشرحه ، ولكنك فقط بنظرة من عينيك التي ترى بعقلها وقلبها وخبرتها ستدرك عظمة ذلك العمل الفني الذي كان مدرسة ثمنها أن حملها جَدّي لتقيه برد وصقيع الطريق في رحاب قطار الشرق العظيم والذي إن رفعت قضبانه من على الأرض التي تقطعت أوصالها ، إِلاَّ أن سجادتي تشهد وتتذكر وإن تأثرت بسبب أستخدامها بشراسة لتقينا صقيع الرخام والمناخ ، ولكنها أثبتت أنها قوية صلبة تحتفظ بعلامات الزمن ولكنها قاومته بسبب نوعية خيوطها وطريقة نسجها وروعة موضوعها.

Email