زاوية أخرى

«قل للمليحة»

ت + ت - الحجم الطبيعي

اشتكى أحد تجار المدينة كساد بضاعته التي اشتراها من الشام إلى أحد أصدقائه الشعراء، وكان هذا التاجر يشارك صديقه الشاعر همومه، فأخبره بأنه أتى ببضاعة من الشام تتكون من خُمُر (جمع خمار)، لونها أسود، ولم تلاقِ بضاعته أي رواج أو قبول لدى نساء المدينة، اللاتي تعودن أن يلبسن الخمر الملونة، ولم يقبل أحد منهن على شرائها. فما كان من الشاعر إلا أن قال لصاحبه التاجر، سنساعدك ببضع أبيات يروجن لبضاعتك. فأصبح الشاعر ينشد في المجالس مردداً:


قل للمليحة في الخمار الأسود            ماذا فـعــلت بناســـك متعــبد
قد كان شــــمر للصــــلاة ثيابـه         حتى خطرت له بباب المسجد
ردي عليـــه صــلاته وقـــيامـــه      لا تقتليه بــحـق ديــن مـحـــــمـد


ومع انتشار هذه الأبيات التي خلدها التاريخ في المدينة، بدأت النساء بشراء الخمر السود، التي كان يرفضن شرائها، وبدأ تاجرنا يبيع بضاعته. وعند التأمل في هذه القصة، نجد أن الإبداع في التسويق قام بدوره بطريقة مبهرة لذلك الزمان، إذ فهم الشاعر كيف يوصل ما يريد إيصاله إلى أذهان الناس، وباستخدام أداة مناسبة (وهي الشعر)، أقل ما يقال عنها إنها مستحبة لدى العرب وأهالي المدينة، فقد فهم الشاعر جمهوره من النساء، وفهم كيف يصل إلى وجدانهم، وبأسلوب شيق وجميل.


وإذا كان بإمكان التسويق إنقاذ التجار من كساد بضاعتهم، كما رأينا، فما الذي يعوق جهودنا في هذا الزمان من تسخير التسويق لرواج البضاعة، وبنفس الأسلوب المبدع الذي خلده التاريخ؟، والجواب هو، إبداع مع توفيق لغوي في الطرح. المطلوب فهم الجمهور المعني، واستخدام أفضل الوسائل للوصول إليه، وملامسة الوتر الحساس لديه، إذ لا يمكن كما نرى ونسمع هذه الأيام من لغة ركيكة، أقل ما يقال عنها إنها مترجمة بدون توفيق، ومقحمة لمعنى لا يبدو سلساً، أن توصلنا إلى الغاية المطلوبة، ولا يمكن أيضاً اعتماد أساليب قد لا تلاقي قبول أو استحسان الناس، بسبب تباين المستويات الفكرية، واختلاف الخلفيات التي يأتون منها، لأنها على الأغلب لن تأتي بنتيجة.

وليس من المستحسن، استخدام حيل تسويقية لا تراعي ذكاء المستهلك وفهمه لمتطلباته. كما لا يمكن تغيير سلوك الأفراد بطريقة دائمة وموفقة، من غير إبداع، ومراعاة ثقافة وتوقعات المستهلك، وبأسلوب أصيل، وقادر على الوصول للهدف، وفي هذا الأمر، يكمن تحدٍ يواجه المسوقين باستمرار، ويعيق الوصول إلى الأهداف المرجوة.


أستأذنكم في القول بأن الإبداعية التي تنجح التسويق، إن لم تأتِ في أوعية لغوية سلسة وموفقة ومتجانسة، يفهمها الكل، ويعتبرها من صميم ثقافته، ومن نفس توقعات أهل زمنه، فلن تؤدي الغرض. وأقول لكم إن الارتباط وثيق بين فهم «ثقافة الجمهور المستهدف» والأوعية اللغوية، إذن، الإبداع خطير في تغيير الأمور وسلوك الأفراد للأفضل، وفي أسوأ الأزمات الاقتصادية، إذا أخذ في الاعتبار ثقافة الفرد ولغته، واحترم مستواه الفكري وذكاءه الفطري.

Email