شهد الأسبوع الجاري رداً غارقاً في الأسف والألم من جانب سام ألتمان وغيره من قادة «أوبن إيه آي»، حيال الدعوى القضائية التي رفعها إيلون ماسك ضدهم، وكتب قادة الشركة: «نشعر بالحزن لانتهاء الأمور إلى هذا المآل مع شخص كنا نكن له احتراماً كبيراً.. شخص ألهمنا لنصبو للأفضل، ثم جاء ليخبرنا بأننا سنفشل، فأسس شركة منافسة ثم رفع دعوى قضائية ضدنا».
أعتقد إذن بأنهم لم يعودوا يبجلون المؤسس المشارك لشركتي تسلا وسبيس إكس، والاستياء مُتبادل هنا، بالنظر إلى اتهام ماسك موظفي ألتمان، بـ«خيانة بالغة» و«تخريب مهمة أوبن إيه آي»، وبذلك، تحولت العلاقة الودية التكنولوجية إلى بغضاء لا شك فيها.
ولطالما كان إيلون ماسك مستعداً للمشاحنة، ففي العام الماضي، تحدى مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي لدى «ميتا»، لخوض نزال في حلبة داخل قفص، كما شنّ هجوماً على المعلنين المترددين على موقع «إكس» ونعتهم بأقذع الألفاظ، ولكنه أخذ في الاستعداد التدريجي لهذا الأمر قبل إعلانه صراحة على الملأ. وفي شكوى برسالة بريد إلكتروني إلى «أوبن إيه آي» في سنة 2017، كتب ماسك: «أنا مجرد أحمق لتقديمي تمويلاً مجانياً لشركة ناشئة»، مهدداً إياها بسحب دعمه المادي.
هكذا يتحدث رائد الأعمال الحقيقي، الميّال إلى الإشفاق على نفسه. وذات مرة، كتب مانفريد كيتس دي فريس، المحلل النفسي والأكاديمي المختص بالإدارة، إن المؤسسين «كثيراً ما يكونون منشغلين بتهديد يعرضهم لنوع من أنواع التسلّط الخارجي أو المساس بإرادتهم، وهم يعيشون في خوف من أن يكونوا ضحايا».
وقد تأتي الجوانب الإيجابية لدى رواد الأعمال، مثل طاقتهم وثقتهم بأنفسهم وسعيهم للإنجاز، وكذلك استعدادهم لخوض معارك في مواجهة احتمالات عسيرة، بجانب مظلم؛ إذ يتّسم الكثير منهم بالنرجسية والعدوانية حين يشعرون بالتهديد، وتبعاً لقول كيتس دي فريس، هم «مرفوضون يحتاجون لخلق بيئتهم الخاصة». وينطبق هذا الأمر على ماسك، الذي ينتمي إلى عُصبة من روّاد الأعمال كانوا ألمعيين محركين للمياه الراكدة، وكذلك محاربين مُكرسين للأمر، ووجد توماس إديسون وقتاً بين اختراعاته لخوض «حرب تيارات» مع جورج ويستينغهاوس في أواخر القرن التاسع عشر، فذم غريمه علناً واتهمه بتعريض حياة الناس للخطر عن طريق تقنية التيار المتردد.
واندلعت أيضاً الكثير من الخلافات في داخل الأسر، وشملت المعارك القضائية على «هانكوك بروسبكتنغ» الأسترالية بين جينا رينهارت وعدد من الأبناء، وكذلك النزاع السابق بين أنيل وموكيش أمباني على «ريلاينس إندستريز»، وبرز موكيش بصفته أثرى الرجال الهنود، وأقام حفلاً هذا الأسبوع شهد حضوراً من المشاهير كمقدمة لزفاف نجله أنانت في كوجارات.
وقد تأتي هذه المواجهات بنتائج إيجابية في بعض الأحيان، ولدينا على سبيل المثال الأخوان آدي ورودي داسلر، اللذان أسسا «أديداس» و«بوما»، وقد شهدت مدينة هرتسوغن آوراخ البافارية انقساماً بسبب سجالهما، ودُفِن كل منهما في طرف بعيد عن الآخر في مقبرة المدينة، وكان الخلاف ضاراً بالعلاقات الأسرية، ولكن إصرار كل منهما على التفوق على الآخر أسفر عن اثنتين من أبرز العلامات التجارية للملابس الرياضية على مستوى العالم.
وغالباً ما تكون التوترات محفزة لروّاد الأعمال؛ فالاستياء من التجريح أو التجاهل يمكن أن يكون عاملاً محفزاً على رحلة مضنية في تسليط الضوء على أن الآخرين قللوا من شأنهم، وكان يمكن لشركة لامبورغيني أن تظل محصورة في إنتاج الآلات الزراعية، لولا سخرية إنزو فيراري من عدم إلمام فيروتشيو لامبورغيني بما يكفي لكي يكون بمقدوره صنع سيارات رياضية.
وأطلق ستيف جوبز العنان لإهاناته بحق بيل غيتس في خضم تنافسهما في الحوسبة الشخصية، وقال الشريك المؤسس لشركة أبل لوالتر إيزاكسون، كاتب سيرته الشخصية: «كان بيل ضعيف الخيال ولم يخترع شيئاً قط»، وأثار هذا النزاع سؤالاً قديماً بين المتنافسين، وهو: من الذي سرق الأفكار من الآخر؟
ولكن الخلاف لم يكن ذا محصلة صفرية، فكلا الشركتين، أبل ومايكروسوفت، ضمن الأعلى تقييماً على مستوى العالم، وكان غيتس من بين المدعوين لاحتفالات أمباني هذا الأسبوع. وانتهى الأمر بغيتس إلى أن يكون بارداً، فذكر، بعد وفاة جوب: «حفز كل منا الآخر، حتى كمنافسين». هذه هي الحقيقة، على الرغم من حقيقة الاعتراف بها بعدما يكون غبار المعركة قد انقشع.
وربما كان من اللطيف لو فكرنا في أن هؤلاء القادة يشغلون أنفسهم بالجدل، وكان من الممكن أن يحققوا المزيد لو واصلوا التركيز على أعمالهم، ولكن الإنتاج والعدائية يمكن أن يكونا متلازمين، ويمكن للشمائل التي تجعل رواد الأعمال ناجحين أن تجعلهم لا يُطاقون، بل ترهقهم هم نفسياً. ولكن ماسك يواصل عداءه، في كل الأحوال، ولم يأتِ هجومه على ألتمان و«أوبن إيه آي» إلا في خضم مشاحنته مع لاري بيدج، الشريك المؤسس لـ«غوغل» وشركتها الأم «ألفابيت»، وصّرح ماسك في سنة 2013، في أثناء جدال في مستقبل الذكاء الاصطناعي:
«يجب ألا يتحكم لاري في مستقبل الذكاء الاصطناعي»، وبدأ ماسك في تمويل «أوبن إيه آي» بعد استحواذ «ألفابيت» على «ديب مايند»، وحتى إنه حاول منع إتمام الصفقة. وبغض الطرف عن مكمن قلقه من خروج الذكاء الاصطناعي عن السيطرة في مؤسسة هادفة للربح، فإن خلافه مع بيدج ساعد «أوبن إيه آي» على التغلب على «غوغل» وأن تصبح قيمة الشركة بمليارات الدولارات.
ولا تعجب ماسك الطريقة التي دخلت بها «أوبن إيه آي» شراكة مع «مايكروسوفت»، بدلاً من أن تظل متماشية مع رؤيته، ولكنه مع ذلك خلق الشركة، ولم يكن لـ«تشات جي بي تي» أن يظهر علينا لو كان ماسك أقل مشاكسة.
وإذا كان ماسك صعب المراس وغير ناضج وفظاً، فهو ليس وحده، فالأمر ينطبق على هؤلاء الذين ما زالت علاماتهم التجارية قائمة اليوم، وقد يكون صادماً لن نعلم بعيوب الكثير من روّاد الأعمال، بيد أن الأمر ليس مصادفة، إذ إن الميل إلى التشاحن يمثل جانباً من طبيعتهم الشخصية، ويبقى ثمّة جانب آخر إيجابي مهم.
