فاجأ بنك إنجلترا المركزي العالم أمس بإقرار أكبر زيادة في سعر الفائدة منذ 27 عاماً، في الوقت الذي قدم فيه تحليلاً وتقييماً دقيقاً ونزيهاً لحالة الاقتصاد البريطاني، بحسب الاقتصادي العالمي محمد العريان، الذي يرى أن استقلالية البنوك المركزية عن باقي السلطات في الدولة نزاهتها الفكرية واستقامتها التحليلية أمر حيوي حتى يتجاوز العالم التحديات الاجتماعية والاقتصادية الراهنة.

وفي تحليل نشرته وكالة بلومبرج للأنباء قال العريان الرئيس التنفيذي لشركة هارفارد مانجمنت كومباني المسؤولة عن إدارة أصول واستثمارات جامعة هارفارد الأمريكية وعضو مجلس هارفارد الاستشاري العالمي، إن بنك إنجلترا المركزي قدم اليوم نوعاً من الصراحة في التحليل والأمانة الفكرية غير معتاد من جانب البنوك المركزية الكبرى في العالم. في الوقت نفسه فإن الصورة القاتمة التي قدمها البنك المركزي للاقتصاد البريطاني سيكون لها تأثيرها على الاقتصاد العالمي، وإن لم يكن ذلك بسبب الظروف الفريدة التي تمر بها بريطانيا.

 وفي بيان أصدره بنك إنجلترا المركزي أمس أعلن زيادة سعر الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس بموافقة 8 أعضاء مقابل عضو واحد في لجنة السياسة النقدية.

 

ارتفاع التضخم

 

وحذر البنك من احتمال ارتفاع معدل التضخم في بريطانيا خلال أكتوبر المقبل إلى 13%، مستبعداً عودة التضخم إلى المستوى المستهدف وهو 2% قبل 2025. كما حذر من أنه في ضوء الأوضاع السياسية الراهنة، تواجه بريطانيا احتمال ركود الاقتصاد، والذي يمكن أن يبدأ خلال الربع الأخير من العام الحالي، ويستمر طوال العام المقبل. ويعني هذا انكماش إجمالي الناتج المحلي بنسبة 2% وانخفاض مؤلم في الدخل الحقيقي للكثير من الأسر البريطانية.

 

مجرد تمنيات

 

 ويقول العريان الذي تولى منصب الرئيس التنفيذي لشركة بيمكو للاستثمار حتى عام 2014 في تحليله إنه وعلى عكس ما يحدث كثيراً مع مجلس الاحتياط الاتحادي (البنك المركزي) الأمريكي لم يسارع أحد برفض تقييمات بنك إنجلترا المركزي باعتبارها «مجرد تمنيات» أو «مضحكة» أو «لا يمكن تفسيرها» أو «غير مبررة تحليلياً» وهي العبارات التي يستخدمها كثيراً المسؤولون السابقون في مجلس الاحتياط الاتحادي الأمريكي للتعليق على بيانات المجلس.

لقد جاء بيان بنك إنجلترا المركزي صريحاً ومباشراً. كما جاء محفزاً لمناقشات وتحليلات جادة، والأهم من ذلك يدفع إلى التحليل العميق لما يطرحه ريشي سوناك وليز تراس المتنافسان على منصب رئيس وزراء بريطانيا خلفاً لرئيس الوزراء المستقيل بوريس جونسون.

وأعاد بنك إنجلترا المركزي تذكير العالم بأن البنك المركزي المستقل سياسياً عن باقي السلطات يستطيع أن يقوم بدور «المستشار الموثوق فيه» المستعد لتقديم الرؤى النزيهة من الناحية التحليلية، والتي قد تجد المؤسسات الأخرى ذات الحساسية السياسية نفسها إما غير راغبة في تقديمها أو عاجزة عن تقديمها.

 

نتائج سلبية

 

ويرى العريان أن منهج بنك إنجلترا المركزي لا يخلو من المخاطرة بالطبع. فمثل هذه الصراحة يمكن أن تدفع المستهلكين والشركات إلى تصرفات تؤدي إلى نتائج سلبية، بدلاً من أن تحفز مؤسسات صناعة القرار على القيام بتحركات مناسبة تؤدي إلى نتائج اقتصادية واجتماعية أفضل. ومع ذلك فالأمر يستحق المخاطرة، خصوصاً عندما يكون البديل هو فقدان البنك المركزي لمصداقيته المؤسسية، وتآكل فاعلية التوجيهات المسبقة لسياسته النقدية، ويصبح أكثر عرضة لخطر التدخلات السياسية في عمله.

ويشير العريان إلى أن الموقف في بريطانيا يختلف بشكل واضح عنه في الدول الأخرى. فالتحديات الاقتصادية التي تواجه المملكة المتحدة معقدة ليس فقط نتيجة أسعار الطاقة التي ترتفع باطراد وإنما أيضاً نتيجة الأوضاع السياسية، وتغير طبيعة العلاقات التي تربط بريطانيا بشركائها التجاريين الرئيسيين وخصوصاً دول الاتحاد الأوروبي عقب خروجها من الاتحاد في العام الماضي. لكن هذا لا يعني أن التداعيات في الدول الأخرى لا تحتاج إلى هذا القدر من الاستقامة التحليلية والنزاهة الفكرية الذي تحلى به بنك إنجلترا المركزي. بالعكس فهي تحتاج لهذا القدر أيضاً.

 

4 عناصر

 

ويرصد العريان في تحليله أربعة عناصر أخرى، أولها صعوبة تحديد «أفضل أول» سياسة نقدية للتعامل مع الأزمات، في عالم تأخرت فيه البنوك المركزية في التعامل مع التضخم في الوقت المناسب. وثاني هذه العناصر هو التذكير بأنه في عالم مثل هذا يمكن أن يتعايش التضخم المرتفع مع الركود الاقتصادي. أما العنصر الثالث فهو تأكيد حاجة البنوك المركزية إلى التعامل بحسم نسبي مع احتمالات تدهور الطلب الاستهلاكي نتيجة ارتفاع معدل التضخم.

وأخيراً التأكيد على حاجة الحكومات والمؤسسات الدولية إلى دعم جهود احتواء التضخم وتشجيع الإنتاجية والنمو الاقتصادي، وحماية فئات السكان الأشد احتياجاً.

 ورغم ذلك فربما يكتشف بنك إنجلترا المركزي خلال الأيام القليلة المقبلة أنه ليس سهلاً أن يكون حامل الأخبار غير السارة بغض النظر عن مدى نزاهته ولا حسن نواياه. ولكنه في كل الأحوال يقدم الآن المثل والقدوة للبنوك المركزية الأخرى، باعتباره بنكاً ملهماً، وكما لو كان قادراً على القيام بدور المحفز على التعامل بطريقة أكثر شمولية مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه بريطانيا.