الصراع بين روح المقاومة وذهنية الاستسلام في حواري دمشق القديمة

«حسيبة». . تراجيديا عن النساء السوريات في بداية القرن العشرين

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

قد يكون مسلسل «حسيبة» واحداً من تلك الأعمال الدرامية السورية التي ظُلمت وغُيب ذكرها في هذا الموسم الرمضاني، ليس لخلل فني فيه، بل بسبب ازدحام المسلسلات على الفضائيات العربية، واستحالة متابعتها جميعا خلال شهر من الزمن، والمسلسل من إخراج عزمي مصطفى وتأليف خيري الذهبي، وهو مأخوذ عن رواية له بالعنوان ذاته صدرت في أواسط التسعينات، ونالت حظها الوافر من الاهتمام والتقدير.

تأخذنا الأحداث والشخصيات في مسلسل «حسيبة» إلى بدايات القرن العشرين، كي تغوص عميقاً في حقبة زمنية هامة من تاريخ سوريا، هي حقبة الثورات والنضال من أجل الاستقلال، ترسم بأناة تفاصيل البيئة الدمشقية من عادات وتقاليد وأنماط عيش في البيوت والبساتين،

ترصد أوجه الصراع الاجتماعي والسياسي بين ممثلي الفكر الحر الثائر على الاحتلال وأسباب القهر، وبين ممثلي الفكر المتقوقع في الماضي والمتصالح مع سلبيات الواقع ورموز استبداده، تثير الأسئلة العالقة منذ ذلك الزمن وتضع معالم الإجابة المرة.

وإذا كانت الخلفية التاريخية التي يقوم عليها المسلسل دقيقة، من حيث تتابع الوقائع والمرور على ذكر الشخصيات الفاعلة المعروفة آنذاك كيوسف العظمة وسعيد العاص والقسّام، غير أن العمل يؤرخ لحياة العامة من البشر نساء ورجالاً،

يؤرخ لحياة أولئك الذين تمردوا على الطغيان الاجتماعي والسياسي وقضوا كجنود مجهولين في ساحات الجهاد، وفي الأطر الحزبية والأسرية، يقدمهم عبر مجموعة من العلاقات الاجتماعية التصادمية والخطوط الدرامية المتشابكة التي تتخذ من الشخصيات النسائية أبطالاً لها بالدرجة الأولى.

تبدأ تفاصيل الحكاية من مجاهدين مهزومين هما صياح (تيسير ادريس) وابنته حسيبة (أمل عرفة) وقد تركا الجبل بعد انتهاء ثورة حسن الخرّاط، وتخفيا في بيت قريب لهما (أسعد فضة) هو صاحب دكان في حواري دمشق القديمة،

ومنذ تلك اللحظة لذلك التداخل الحزين والمحفوف بالمخاطر لعالمين مختلفين جذرياً، تبدأ معالم الصراع بالبروز والتبلور بين ذهنية المقاومة وذهنية التقوقع والاستسلام، وبين الذكورة الشرسة والمتغطرسة والأنوثة المقموعة والحالمة بواقع أفضل، صراع مرير يتقاطع في سياقه المستوى الفردي بالمستوى الجمعي، والهموم الخاصة بالقضايا الكبرى، صراع لم تُحسم نتائجه لصالح حياة كريمة حتى اللحظة للأسف الشديد.

في قلب هذا الصراع تتجذر صورة المرأة بأبعادها التراجيدية ومذاقها الشعري، فبعد المجاهدة «حسيبة» التي رفعت بندقيتها في وجه المحتل وثارت على الخرافات والغيبيات، بعدها تظهر خالدية (أمانة والي) تلك الرسامة الرقيقة التي ظُلمت وأُهينت على يد زوجين اثنين،

وقبعت في بيت والدتها امرأة مطلقة وهي لما تزل في العشرين، وحين ابتليت في عقدها الثالث بهوى من هو أصغر منها سنا، الأجير عبدو (عبد المنعم العمايري) وقررت أن تقتنص حقها من الفرح والحياة، وأن تتحدى الظروف وتتزوجه، وقف الجميع ضدها بما في ذلك الرجل الذي أحبت، فانفصلت عنه وانتحرت بعبير الورود.

هكذا تتقدم صور النساء الأخريات: سجينات وناشطات سياسيات وبنات هوى وزوجات مقموعات وعاشقات، نساء حاولن جاهدات المطالبة بحقوقهن والتغلب على الظلم الاجتماعي ودفعن الثمن باهظا، وهذه اللوحة التراجيدية المتكاملة والمتناغمة التي صاغها المسلسل عن نساء تلك الحقبة، هي التي منحته جمالياته ومذاقه الخاص والمختلف عن أغلب المسلسلات التراثية التي تحاكي البيئة الدمشقية.

دمشق ـ تهامة الجندي

Email