باكو مدينة أذربيجانية عصرية تتمسك بجذورها التاريخية العميقة

باكو مدينة أذربيجانية عصرية تتمسك بجذورها التاريخية العميقة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

باكو عاصمة جمهورية اذربيجان مدينة توحي بالعصرية وغلبة الطابع الغربي على طرز البناء، وان لم تتخل عن رموزها التاريخية. وباكو هي ميناء اذربيجان التي تصفها الصحافة الغربية بانها اقتصاديا سوف تكون عما قريب كويت جنوب القوقاز.

وتقع باكو على الساحل الغربي لبحر قزوين وهو بحر الخرز كما ورد في المصادر الجغرافية العربية، تقع جمهورية اذربيجان في القسم الجنوبي الشرقي من منطقة القوقاز، يحدها من الشمال جمهورية داغستان، ومن الشمال الغربي جمهورية جورجيا اي بلاد الكرج كما وردت في المصادر الجغرافية العربية، ومن الجنوب الغربي ارمينيا وتركيا، ومن الجنوب ايران. ولاذربيجان سواحل شرقية تطل على بحر قزوين بامتداد يصل إلى 800 كم. وباكو المدينة العصرية الشواهد على طابعها الغربي كثيرة، يلحظه الزائر في طرز العمارة المتنوعة، كمبنى دار الاوبرا الذي شيده الروس عام 1908. ويقع المبنى في منطقة نظامي (كشاسي). وتتميز الثقافة الاذربيجانية بالثراء والتنوع وتعدد المشارب والاطياف، ورغم ان الموسيقى الاذربيجانية التقليدية تعتمد على المقامات الشرقية، ورغم انها موسيقى مشبعة بروح شرقية واضحة إلا أن العديد من الملاحم الشعبية المنظومة شعرا تحولت إلى مسرحيات واوبريتات عرضت على مسرح هذه الدار.

فقد عرضت اوبرا (ليلى والمجنون) وهي مستمدة من الادب الشعبي الأذربيجاني الغني يوم افتتاحها عام 1908 واحداثها مستمدة من أشعار الشاعر الاذربيجاني الشهير محمد بن سليمان فضولي الذي عاش في القرن السادس عشر ( 1495 – 1556) وهو اول شاعر كتب أشعاره باللغة الاذرية وهي إحدى لهجات اللغة التركية وليس بالفارسية. وقد تأثر بها بعده العديد من الشعراء في القرن التاسع عشر. شكل المبنى الذي يوحي بسنوات بذخ معرفي واضح حافظ على شكله وطراز بنائه ذي الطابع المعماري الروسي. اما بداية تعارفنا مع تاريخ هذه البلاد التي نادرا ما كنا نسمع بها في عالمنا العربي، ليس قديما فقط بل حتى اليوم بعد ان حول الاعلام العالم إلى قرية صغيرة. والمتصفح لالبوم الصور القديمة لباكو، لابد ان تاخذه الاشواق إلى حياة مدينة اخرى قد لا يلحظ تفاصيلها الشرقية في شوارعها الحديثة اليوم التي كنا نتجول فيها قبل قليل، فهذا هو برج العذراء في الصور القديمة قبل ترميمه.

وهذه مئذنة مجمع قصر شيروان شاه المئذنة الاشهر في المدينة القديمة كما كانت تظهر في البوم الصور، وهناك العديد من المساجد القديمة منها ما دمر تماما واعيد بناؤه ،حتى شوارعها القديمة حافظت على ماشيد على اطرافها من مبان حتى اليوم. وهذا تاجر من تجار القوافل امام جمله يستعد لرحلة على طريق الحرير الذي يمر من هنا، الحمامات التركية، والاسكافي والحلاق والسقاء وباعة السجاد في محيط برج المدينة، وصباغ الاحذية وابار النفط حول باكو حيث يعود تاريخ اكتشافه إلى منتصف القرن التاسع عشر قبل 12 عاما على اكتشافه في الولايات المتحدة الاميركية حيث كان يستخرج من الابار بالطرق اليدوية. هنا ولد اوائل بارونات النفط وعلى راسهم كان المليونير الاذربيجاني حاجي زين العابدين تاغييف. وعربة الترامواي التي كانت تجرها الخيول ظهرت مبكرا في باكو عام 1888 التي كانت تربط وسط المدينة باطرافها وتجري عرباتها على سكة حديدية. وهذه المسارح الفخمة مازالت قائمة ومحافظة على كيانها تؤدي دورها وتساهم في اثراء الحياة الثقافية في باكو.

اما ميناء باكو الذي خلدته هذه الصور القديمة فلايزال كما هو بصورته القديمة قبل عشرات السنين ثغر البلاد على ساحل بحر قزوين ومنفذها على العالم. المآذن وبيوت المدينة القديمة مازالت كما هي ولازال يطلق على الجزء القديم من باكو اسم (ايشري شهر) وتعني اللفظة (المدينة القديمة)، مبنى محطة القطار الرئيسية في باكو الذي شيد عام 1880 مازال مكانه موجودا ومازالت المحطة تستخدم من قبل المسافرين إلى هذا اليوم. وصور باكو الشرقية القديمة تبقى ثرية وكثيرة ومتنوعة اثرت في شواهدها المادية مراحل تاريخية متعددة، ولكن الاهم من ذلك كله ان الشعب الأذربيجاني بقي متعلقا بتاريخه ومحافظا على قيمه ورموزه الدينية، والدليل الحركة النشطة لبناء المساجد الحديثة الواسعة، والعناية بترميم المساجد القديمة التي استؤنفت بعد اعلان الاستقلال ل، رغم وجود بعض من بقايا رموز الحقبة الشيوعية البائدة، ربما تركت في اماكنها كي تذكر الانسان هنا، بذلك الوهم الكبير الذي لم يجن منه ابناء البلاد غير العذابات والمحن.

ويعتز الشعب الاذربيجاني بماضيه الاسلامي، و يتطلع اليوم إلى مستقبل لا ينفصل عن الجذور، لذلك فليس من المستغرب ان يلحظ الزائر تنامي ظاهرة زيادة عدد المساجد الجديدة التي شيدت في فترة ما بعد اعلان الاستقلال عما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي لتمثل هذه الظاهرة عودة حقيقية ملموسة من قبل هذه الشعوب إلى دينها وهويتها. وقد شيد مسجد مهيب مبني على الطراز التركي العثماني بالتعاون مع الجمهورية التركية، بماذنه الرشيقة المدببة ويقع بمحاذات ابرز معلم من معالم العاصمة باكو وهي حديقة الشهداء، هذه الحديقة التي تضم رفات العديد من الشهداء الذين سقطوا دفاعا عن استقلال الوطن عن الاتحاد السوفييتي، لتحكي هذه المقبرة فصلا دمويا أخيرا انتهت به علاقة هذا البلد المسلم بالشيوعية المقبورة التي حكمته اكثر من سبعين عاما بالحديد والنار.

باكو القديمة

لاتزال أسوار مدينة باكو القديمة المسماة (ايشري شهر) محافظة على القها القديم، شيدت على شاكلة حصون وقلاع القرون الوسطى تاخذ الزائر إلى عهود الازدهار التاريخي التي شهدتها المدينة في عصورها القديمة. وما تبقى اليوم يعود إلى زمن الخانات الذين حكموها، وأبدعوا أبنية معمارية بقيت إلى اليوم محافظة على رونقها وبهائها، و الحارة القديمة المحيطة بالمجمع، بأزقتها الضيقة التي تشبه حارات كثيرة ضيقة في مدن عربية وإسلامية شرقية، دخلناها وكأننا ندخل حارة من حارات حي البيازين في غرناطة أندلس الأمس، ومئذنة مسجد شيروان شاه مازالت شامخة رغم عوادي الزمن و70 عاما من التعسف الشيوعي وطمس متعمد لكل ما يرمز إلى دين الإسلام. بعد الدخول من البوابة الرئيسية، تواجه الداخل باحة مجمع القصر الأولى، قصر شيروان شاه الذي يعد تحفة معمارية بكل المقاييس، ونافورة ماء تتراقص، وتداعب الخيال، فتأخذ الزائر إلى نوافير ساحة الأسود في قصر الحمراء.

شيد هذا المجمع المعماري التاريخي الاثري الفريد في عهد شيروان شاه خليل الله الأول، في القرن الخامس عشر الميلادي، وهو يعد احد أشهر المواقع الأثرية في اذربيجان التي ترجع إلى العصور الوسطى، واهم المواقع المعمارية التي تحمل سمات وثقافة عمارة دولة الخانات الصفويين الذين حكموا أذربيجان. يشمل هذا المجمع المسكن او قصر الحاكم. وإلى يسار الداخل من الباحة الرئيسية توجد قاعة الاجتماعات، و ما كان يعرف بـ (الديوان خانة او الديوخانة)، تعلو المدخل الذي يتميز بالارتفاع كثير من الزخارف والنقوش الإسلامية البارزة، اضافة إلى المدخل زينت الجدران من الداخل بالنقوش والآيات القرانية التي رسمت بالخط العربي الجميل مما يجعل منها تحفا معمارية خالدة، كما تكثر في الداخل القباب والأقواس التي تعلو مداخل القاعة العديدة. في هذا المكان كانت تعقد الاجتماعات التي كان يتراسها شيروان شاه مع رجال حكمه من الوزراء والمستشارين والقواد.

كما يستقبل فيها كبار ضيوف الدولة من الامراء والمبعوثين الدبلوماسيين الزائرين لعاصمة البلاد.والمبنى من الداخل عادة ما يكون سابحا في ضوء النهار المنتشر بشكل لافت وذلك لكثرة النوافذ والابواب التي تحيط به من كل جانب.تتميز القاعة بمساحتها الواسعة ونظام الاضاءة الطبيعية خاصة اثناء النهار وذلك لكثرة الابواب والتوافد والقباب المفتوحة وكما يتميز المبنى بطرازه المعماري الاسلامي حيث تنتشر الاعمدة والاقواس التي تعطيه مسحة جمالية وتمنحه روعة وتفرد.

وهناك العديد من القطع الاثرية والتماثيل الصخرية التي تلفت انتباه الزائر كونها لا تقل روعة وحرفية عما يحويه مبنى المجمع، تتناثر في الممرات والباحات الخارجية وقرب هذه الاعمدة الرشيقة المحيطة بقاعة الحكم، يحمل بعضها نقوش وايات قرانية كتبت بالخط العربي، وهي بقايا بوابة مراد ومسجد ( كي قباذ) الذي شيد في القرن السادس عشر، صفوف القطع الصخرية المصفوفة هنا تعرف باحجار (بايل). وقد جمعت وجلبت إلى هنا عام 1950 م وهي من اثار البوابة والمسجد في منطقة قلعة سبايل، وهي قلعة كبيرة مازالت اثارها قائمة بالقرب من شبه جزيرة (بايل)، والتي تقع في الجزء الجنوبي الغربي من مدينة باكو العاصمة. من بوابة اخرى يمكن مشاهدة مبنى حمام القصر حيث كان مخصصا لسكان المجمع ومرتاديه، وضيوفه، والمبنى وهو يعبر عن تقليد قديم حيث كان انتشار الحمامات التركية في ارجاء اذربيجان دارجا.

إلى يمين الباحة الرئيسية تقود سلالم إلى باحة اخرى رصت فيها العديد من القطع الاثرية التي حفرت عليها النقوش والايات القرانية قرب ما يعرف بضريح الدرويش، وهو مبنى يوجد بداخله قبر الشيخ يحيى الباكوي نسبة إلى باكو، وكان يعتبر الاب والمرشد الروحي لشيروان شاه خليل الله الاول وكان عالما صوفيا اشتغل ايضا بعلوم الفلك والفلسفة. وحرص شيروان شاه على ان يضم هذا المبنى رفات معلمه وأستاذه تقديرا له واحتراما.

وحملت قوافل الفاتحين الأوائل إضافة إلى تعاليم الدين الحنيف اللغة العربية، وضرورة بناء مساجد لإقامة شعائر الإسلام، ونشر تعاليمه، بشكل واضح وجلي. ويعتبر مسجد الجمعة الذي شيد عام 744م في مدينة (شماخي) التي تبعد مسافة 120 كم غرب العاصمة باكو في منطقة جبلية جميلة يجللها اللون الاخضر حيث الغابات المحيطة بالقرى المنتشرة حولها، وهو ثاني مسجد ينشأ في منطقة جنوب القوقاز بعد مسجد الجمعة الذي أنشئ في مدينة (دربند) التي سماها العرب الأوائل (الباب والأبواب) والتي تقع اليوم إلى الشمال من هذا الموقع داخل حدود جمهورية داغستان. يبلغ طول حرم المسجد 46 مترا ونصف المتر، وعرضه 17 مترا وهو يتكون من ثلاثة اجزاء مستقلة لكل جزء محرابه الخاص ومدخله.

وشيد المسجد الحالي على انقاض المسجد التاريخي القديم الأول والذي كان قد شيد في القرن السابع الميلادي والذي حطمه زلزال مدمر، وقد اعيد بناء هذا المسجد عدة مرات على مر العصور. احتوى مسجد الجمعة في مدينة شماخي على معظم التقاليد المعمارية التي أنشئ بموجبها المسجد الأول، والتي تحمل السمات الهندسية المعمارية لإقليم ( شيروان). غير بعيد عن مبنى المسجد، شيدت مقبرة إسلامية سميت مقبرة ( القباب السبعة )، وتعد هذه المقبرة أنموذجا رائعا من نماذج الثقافة المادية التي تركها المسلمون الأوائل. وأينما اتجهت في أذربيجان تجد صورة قديمة أو رسما ذا دلالة بالنسبة للعربي المسلم القادم من جزيرة العرب، مررنا بعدة رسوم وصور نحتت على الجدران للجمل والعربي الذي يقوده على طريق الحرير التجاري الذي يمر من هنا، هذا النحت مررنا به ونحن ننوي التوجه إلى مدينة (برذعة) قاعدة الفتوحات للجيوش العربية الإسلامية ودار الإمارة ونقطة انطلاق جيوش الفتح إلى جبال القوقاز منطلقين من العاصمة باكو الواقعة في أقصى الشرق إلى مدينة برذعة الواقعة في أقصى الغرب.

وبعد مغادرتنا مدينة شماخي برز تساؤل مشروع عن سبب تسمية المدينة بهذا الاسم الذي يبدو قريبا للاذن العربية، وهو كذلك بالفعل، فرجعنا إلى البلاذري وكتابه » فتوح البلدان« حيث يذكر سبب هذه التسمية فيقول: حدثني محمد بن إسماعيل عن جماعة من مشايخ اهل برذعة، قالوا الشماخية التي في عمل شروان نسبت إلى الشماخ بن شجاع كان قد ملك شروان في ولاية سعيد بن سالم الباهلي أرمينية. أكملنا بعد ذلك مسيرنا بعد خروجنا من مدينة شماخي، فممررنا بتلك القرى العربية المحيطة بمدينة شماخي، التي كان يسكنها أحفاد أبناء القبائل العربية التي هاجرت إلى هذه البقاع منذ زمن قديم، كان بودنا ان نتقصى أخبارهم ونقف على طرق معيشتهم اليوم، وهو موضوع رأيناه مثيرا للاهتمام، يحتاج منا العودة يوما ما إلى استقصاء وتقصي أحوال هذه القرى بعد مرور هذه الفترة الزمنية الطويلة. واصلنا رحلتنا بعدها متجهين غربا إلى مدينة برذعة.

وعلى مشارف مدينة برذعة توقفنا عند مجرى نهر الكر، هذا النهر الذي ورد ذكره في الكثير من المصادر التاريخية والجغرافية العربية، لما له من أهمية كبيرة في عملية انتشار الإسلام في هذه البقاع. وصفه ياقوت الحموي في معجم البلدان بانه، نهر بين ارمينيا واران ـــ واران هي المناطق الشمالية من أذربيجان اليوم – بينه وبين برذعة فرسخان، ثم يجتمع هو ونهر الرس بالجمع ثم يصب في بحر الخزر، وهو بحر طبرستان (بحر قزوين). ووصفه الاصطخري فقال الكر نهر عذب، مرى، خفيف، يجري ساكنا ومبدؤه من بلاد خزران ثم يمر ببلاد ابخاز من ناحية اللان من الجبل فيمر بمدينة تفليس – وهي مدينة تبليسي عاصمة جمهورية جورجيا اليوم – ومن جانبيه كنجة وشمكور ( مدينتان تقعان اليوم في اذربيجان )، ويجري على باب برذعة إلى برزنج إلى البحر الطبري – اي بحر قزوين – بعد اختلاطه بالرس.

بعد نهر الكر وباتجاه مدينة برذعة مررنا بمدينة يفلاخ وهي مدينة صغيرة تقع إلى الشرق من مدينة كنجة التاريخية على نهر الكر، ليس فيها ما يلفت الانتباه سوى نصب تذكاري بسيط مررنا به عند مدخلها، وقد قطعنا الان 265 كم بدا بباكو العاصمة في اقصى الشرق باتجاه برذعة التي تقع في اقصى الغرب على حدود ارمينية.

بداية تعارفنا مع مدينة برذعة كانت من مبنى رخامي حديث البناء الذي يتوسط ساحته تمثال للرئيس الاذربيجاني الراحل حيدر علييف. في طريقنا لرؤية اخر ما يمكن رؤيته من اثارها، تداعت صورة برذعة التاريخية كما رسمتها كتابات البلدانيين العرب، يذكر الاصطخري انها مساحتها كانت اكثر من فرسخ في فرسخ، وليس مابين العراق وخراسان بعد الري واصفهان مدينة اكبر منها. وكان المسجد الجامع وبيت المال ودار الامارة في المدينة نفسها بعد ان اتخذها الولاة العرب المسلمين دارا للامارة بدل دبيل (وهي مدينة دفين وتقع اليوم شرق ارمينيا) وقاعدة لجيوش الفتوحات الاسلامية. وكان معظم مبانيها مشيدا من الطوب المحروق والخشب.

ووصف ابن الاثير لغارة الروس على مدينة برذعة سنة 232هجرية – 944/943 ميلادية مشهور، ويظهر ان برذعة لم تقم لها قائمة بعد تفشي وباء الطاعون بين الجنود الروس واضطرارهم إلى الجلاء عنها. هذه المدينة التي وصفها المقدسي ايام مجدها بانها بغداد هذه البلاد ولكنه يذكر ان اسوار المدينة كانت لعهده مهدمة، وان البلاد المجاورة كانت خرابا بلقعا، واما على عهد ياقوت الحموي فكانت برذعة عبارة عن قرية يحيط بها كثير من الخرائب.

والمسجد الجامع في مدينة برذعة اليوم، وهو مسجد متواضع يوجد في مركز المدينة القديمة ،وقد شيد هذا المسجد على الطراز الفارسي، في منطقة تحيط بها الاشجار تقريبا من كل جانب، تماما كما وصفها البلدانيون العرب، بانها مدينة كثيرة الاشجار وكثيرة الخيرات، تجمهر بعض الناس حولنا عندما علموا باننا جئنا نستطلع تاريخ المكان، وعبروا عن امتنانهم وفرحتهم لان اخوانهم العرب التفتوا اليهم اخيرا حسب قولهم.

داخل المسجد لا يختلف عن خارجه في التواضع، يبلغ عدد سكان المدينة اليوم حوالي 183000 نسمة، يعيش 83000 منهم في المركز، وتتبعها 110 بلديات، ويحيط بها اكثر من 19 موقعا تاريخيا متنوعا من مساجد وقلاع وجسور ومراقد ومقابر وحمامات، ومن الجدير بالذكر انه مازالت تحيط بمدينة برذعة العديد من القرى التي تحمل إلى اليوم اسماء عربية مشابهة للقرى التي توجد حول مدينة شماخي التي ممرنا ببعضها، مثل قرية خان عرب، وقرية عربلر ( اي العرب ) وهي قرية قديمة تبعد 10 كيلومترات عن مركز المدينة.

ولم تترك الهزات الأرضية المتعاقبة والغزوات الخارجية التي تعرضت لها مدينة برذعة شيئا من ايام مجدها الغابر، حيث كانت وعلى مر العصور عاصمة للملك الألباني ومقرا للكنيسة المسيحية الألبانية القوقازية، قبل الفتح وانتشار الإسلام. الاستثناء الوحيد ربما من الآثار الإسلامية الذي سلم من تدمير الهزات والزلازل الأرضية وان لم يسلم من التشويه، هو الضريح الذي يعود إلى احمد زوخيبانا الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن الرابع عشر الميلادي وقد شيد على يد المعمار احمد ابن أيوب النخشيفاني، وهو عبارة عن برج اسطواني الشكل زين بالرسوم والنقوش الاسلامية التركية الطابع والايات القرانية، وان كانت اثار عبث الزمان ظاهرة في مبنى الضريح من الخارج. كما شاهدنا بقايا الاسوار الطينية التي كانت تحيط بالمدينة القديمة.

وفي الطريق إلى مدينة كنجة التي وردت في المصادر الجغرافية العربية باسم ( جنزة ) في جمهورية اذربيجان، تراود المرء اخيلة عديدة لمدينة خرجت العلماء والشعراء والفنانين العديدين الذين اثروا الحضارة العربية الاسلامية، تستقبل زائرها باحد المباني المهيبة، ضريح شاعرها وشاعر اذربيجان الاشهر نظامي كنجوي (1209 – 1141 م)الذي ترى عين الزائر تماثيله في كل ميدان من ميادين مدن اذربيجان. قرب الباحة المحيطة بمبنى هذا الضريح الذي شيد بعد اعلان الاستقلال عام 1991 م، فوق هذه الارض المستوية وقربها كانت تقوم مدينة كنجة القديمة قبل ان يدمرها زلزال عنيف ضربها في القرن الثاني عشر ليجعلها اثرا بعد عين، واكمل دمارها الجيش المغولي الذي استولى عليها عام 1231.

انطلقنا في البداية إلى وسط المدينة، إلى شارع خاطاي حيث توجد الحديقة العامة التي تعتبر متنفس سكان المدينة، وحيث يقع مسجد الجمعة هذا الذي أمر ببنائه الشاه عباس الصفوي بطرازه المعماري الفارسي اللافت، الذي يعود تاريخ بناءه إلى عام 1620، ويدعى مسجد ( تاتلار)، بمئذنتيه التوامين والذي يعتبر اليوم ابرز معالم المدينة الاسلامية، تحيط بموقع المسجد الساحة العامة التي تتوزع فيها مبان تعود إلى طرز البناء التي كانت سائدة في ابان العهد السوفييتي البائد. اغلب هذه المباني رسمي، حكومي كمبنى المحافظة الذي يرفرف فوق ساريته عادة علم جمهورية اذربيجان الجديد الذي رفع بعد الاستقلال عما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي.

تعتبر هذه الساحة مركزا لتجمع اهالي المدينة في المناسبات بل وحتى في الايام العادية، جو المدينة في الصيف حار حيث وصلناها في شهر اغسطس، وتزدان الساحة بالحدائق ونوافير المياه الجميلة ترطب الجو وتخفف شيئا من حرارة الصيف فيهرع السكان إلى ظلال اشجار الحديقة الوارفة. وعرفت كنجة تاريخيا، كإحدى نقاط الالتقاء للقوافل التجارية المارة بطريق الحرير الشهير القادمة من الصين وبلاد ما وراء النهر والذاهبة إلى اسيا الصغرى ومن هناك إلى أوروبا، وقد اتخذها تجار القوافل كإحدى محطات الاستراحة المهمة للتزود بالمؤن والبضائع من الاقمشة القطنية والحريرية التي اشتهرت بها المنطقة. لذلك فليس من المستغرب ان يعني بها حكامها على مر العصور حيث شيدت القصور والمساجد والحمامات والحدائق الباذخة الأنيقة ليجعلوا منها قبلة للزوار.

لم يبق من آثار كنجة التاريخية القديمة بعد توالي الهزات الأرضية والكوارث الطبيعية والاعتداءات البشرية وما فعله الشيوعيون في هذه المدينة المسلمة، ومع ذلك نجت اجزاء من أسوار قلعة المدينة القديمة التي يعود تاريخ إنشائها إلى القرن السادس عشر الميلادي. وبعض أجزاء من السور الذي كان يحيط بالمدينة القديمة ويسير بمحاذاة نهر (كنجشاي) وهو النهر الذي اخذ اسمه من اسم المدينة وهي تقع عليه غير بعيد عن نهر الكر الشهير.

ناخيشيفان ــــ النشوى

بعد زيارة كنجة، انتقلنا إلى مقاطعة ناخيشيفان، واسمها الرسمي اليوم جمهورية ناخيشيفان المستقلة ذاتيا التابعة لجمهورية أذربيجان الأم، وهي تحوي العديد من الآثار المعمارية التاريخية الإسلامية الباقية خاصة في مدينة ناخيشيفان العاصمة، ولعل من ابرزها، ضريح السيدة مؤمنة خاتون، زوجة الحاكم الاتابكي الأمير بهلوان، كما يعرف كذلك بـ ( القبة الاتابكية)، وهو عبارة عن برج اسطواني الشكل ذا قبة مخروطية، ويعود تاريخ بنائه إلى عام 1186. زينت جدران الضريح بالنقوش والزخارف الإسلامية ومبنى الضريح شيد على طراز العمارة التركية السائدة في ذلك العصر، وشيد من قبل المعماري الشهير ابوبكر اغلو عجمي.

أما الأثر المعماري الآخر فهو ضريح يوسف بن كثير، الذي يتميز بناؤه بالملامح المعمارية الشرقية التي تعود إلى مناطق آسيا الصغرى والأناضول. ان علاقة العرب المسلمين بهذه البلاد قديمة قدم الفتوحات العربية الإسلامية لهذه الأصقاع، بلاد مباركة خرج منها محدثون وحفاظ وفقهاء وعلماء مسلمون كثر، ورد ذكرها في اغلب المصادر الجغرافية والتاريخية العربية، وقد سماها البلدانيون العرب في مصنفاتهم ( النشوى)، ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان نشوى بفتح اوله وثانيه وثالثه، والنسبة إليه نشوي، مدينة بأذربيجان، ويقال هي من أران، تلاصق أرمينية وهي المعروفة بين العامة بنخجوان ويقال نقجوان.

قال البلاذري: النشوى قصبة كورة بسفرجان فتحها حبيب بن مسلمة الفهري في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه وصالح أهلها على الجزية وأداء الخراج على مثل صلح أهل دبيل. ينسب إليها جماعة من اهل العلم والفضل منهم حداد بن عاصم بن بكران ابوالفضل النشوي خازن دار الكتب بكنجة، روى عن ابي نصر عبد الواحد بن مسرة القزويني وشعيب بن صالح التبريزي سمع منه ابن ماكولا. والنشوى او ناخيشيفان اليوم هي اقليم منفصل جغرافيا عن باقي جمهورية أذربيجان، ويتطلب الوصول إليه المرور اما عبر أذربيجان الغربية التابعة لإيران، او عبر أرمينيا.

ويتيح هذا الإقليم لأذربيجان الاتصال الجغرافي مع تركيا من خلال نافذة عرضها 8 كم حيث يلاحظ الزائر طراز المساجد المشيدة حديثا على الطراز التركي العثماني. ويتكلم شعبها اللغة الأذرية. أما مساحتها الإجمالية فتبلغ 5500 كيلومتر مربع. ويبلغ إجمالي عدد السكان حوالي 310000 نسمة. تتميز مساجدها بمساحاتها الواسعة وقبابها المرتفعة التي زينت بالزجاج الملون وبالزخارف والنقوش المميزة والآيات القرآنية التي كتبت بخط الثلث الجميل، هذه المساجد التي تذكر بمساجد مدينة اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية وهي في الحقيقة لا تقل روعة عنها، يؤمها الكثير من المصلين كبارا وصغارا في أيام الجمع والأعياد بل وحتى في الأيام العادية.

انتشرت فوق أراضي جمهورية اذربيجان، بشكل عام، العديد من الشواهد المعمارية التاريخية المتعددة المشارب والمدارس، التي تحكي قصة تنوع ثقافي وديني ثري شهدته هذه البلاد على مدى تاريخها.فقد تأثرت أذربيجان بالفرس وبالبيزنطيين، فدخلت في سيادة هؤلاء مرة وأولئك مرة أخرى، فتأثرت بحضاراتهم ولكنها تمكنت من الحفاظ على خصائصها الحضارية القومية، رغم تنافس الدولتين في نشر قيمهما الحضارية في اراضيها اذ كانت بيزنطة تعمل على نشر المسيحية في اذربيجان، وتبحث الاسطورية عن طرق تمكنها من توسيع دائرة نفوذها في المنطقة حينما يبذل كسرى الساساني يزدجرد الثاني جهودا من اجل القضاء على مظاهر المسيحية فيها وادخال الزرادشتية في اذربيجان ويبعث إلى البلاد ثلاثمئة من المجوس لنشر طقوسها فيها.

كانت الثقافة حينئذ كالسلعة ينفرد بها الخاصة من الناس دون العامة ياخذونها ويعطونها ويرسلونها، الساسانيون احيانا والروم البيزنطيون احيانا اخرى مع قادة جيوشهم إلى اذربيجان بعد غزوها ولهذا السبب كانت المراكز السياسية هي المراكز الحضارية. ويشير بعض المؤرخين إلى ان مدينة ناخيشيفان انشئت في القرن السادس عشر قبل الميلاد، وطبقا للأساطير القديمة المتناقلة فان المدينة كانت قد أنشئت من قبل النبي نوح عليه السلام، وقد اطلق عليها الاغريق والرومان اسم ناخيشوانا، وتعني الكلمة (الماء العذب).

ومنهم من قال انها سميت من قبل الرومان بهذا الاسم نسبة للنبي نوح عليه السلام اي (مدينة نوح)، وكانت ناخيشيفان المدينة عاصمة شهيرة للدولة الاتابكية في القرن الثاني عشر الميلادي التي امتدت إلى كنجة ووصلت إلى العراق وبلا د الشام وهناك رواية تقول ان أجداد القائد المسلم الشهير صلاح الدين الأيوبي تعود جذورهم إلى هذه الانحاء لوجود العديد من الأكراد الذين مازالوا موزعين بين ناخيشيفان وماجاورها من المدن والبلدات المحيطة بها. وتاريخيا تبقى المدن الأذربيجانية مثل باكو وكنجة وقبلة وبرذعة وبيلقان وناخشيفان وغيرها من المراكز متميزة عن سائر المدن بأسواقها ومعابدها وكنائسها ومنازلها وخانقاواتها وحماماتها. وكانت هذه المدن منذ القدم مراكز مهمة لوقوعها على طرق التجارة القديمة وطريق الحرير الشهير الذي يمر من هنا.

جولة وتصوير : عمار السنجري

Email