هل نحتاج إلى انهيار بحجم «انرون» كي يشتد عود الأنظمة الرقابية؟

نشاط الشركات في ميزان مركز دبي لأخلاقيات الأعمال

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الطابق الثاني من غرفة تجارة وصناعة دبي، هناك مكتب صغير لا يتسع لأكثر من أربعة موظفين، لكنّه يطمح إلى لعب دور حيوي كبير، يدخل في صميم الدورة الاقتصادية الهادرة في دبي، يرصد أخلاقية العمل الذي تقوم به الشركات، ويعمل إلى جانبها شريكاً رئيسياً، كما الضمير بالنسبة إلى الإنسان.

هكذا، تشير اللافتة الصغيرة إلى «مركز دبي لأخلاقيات العمل»، حيث يجلس الكس زلمي خلف مكتبه، يرد على هاتفين في الوقت ذاته، يسابق الوقت وجهاز «الفاكس»، يتفقد مواعيده التي اتفق على إجرائها مع رؤساء شركات هامة ويؤكد في كل مرة:

«لا نعمل بقوة التشريع ولا القانون، نحن هنا لكي ننشر التوعية ونقدم النصيحة للشركات التي تريد أن تدخل المستقبل من الباب الملائم». يتحدث زلمي عن باب الإفصاح والشفافية والحوكمة التجارية والالتزام بالوعود .

وغيرها من أخلاقيات العمل التي تعتبر رئيسية للحاق بركب قافلة دبي السائرة على خطا رؤية استراتيجية واضحة للمستقبل، وهي الأخلاقيات التي تحتاج إليها بعض الشركات اليوم أكثر من أي وقت مضى.

«ماني، ماني، ماني». تلك أغنية طريفة من فيلم أميركي شهير تناول فضيحة شركة انرون في أوائل التسعينات، ولمن لا يعرف، أو خانته الذاكرة، فإنرون التي كانت أكبر سابع شركة على مستوى العالم، انهارت بين ليلة وضحاها، مخلّفة حكاية مؤثرة عن نهاية الشركات التي لا تعتمد مبادئ الشفافية في عملها، وتتورط في لعبة جمع المال الجشعة من دون أن تولي أي اعتبار لأخلاقيات الممارسة والتفكير.

ولكن، ألا يظن البعض أن هناك شركات عاملة اليوم في دبي، قد بدأت تغني ذات اللحن؟ يعتقد زلمي أن الأنظمة الرقابية في منطقة الخليج لا تزال غير مؤثرة بشكل كبير في مجال الأسواق المالية، حيث لم تصل الشركات المدرجة في هذه الأسواق إلى مرحلة تصبح فيها مطالبة باتخاذ خطوات جدية وحاسمة في مجال الإفصاح والشفافية.

ومن هنا، أخذ المركز على عاتقه مهمة التفاوض مع أصحاب الأسهم من جهة والهيئات الرقابية في الأسواق المالية من جهة أخرى، إضافة إلى شركات الخدمات المالية، من اجل إطلاق حوار حول التحديات الأساسية التي تواجه الشركات في مجالات الإدارة الرشيدة وتفعيل النظام الرقابي بناء على مشاركة بين القطاعين العام والخاص.

* هوية مربكة

لكنّ تحديين رئيسيين يبدوان ماثلين اليوم أمام المركز الذي مضى على إنشائه حوالي سنة ونصف. التحدي الأول هو عدم تمتع المركز بأي سلطة مستمدة من قوة التشريع أو القانون، بحيث يكون له كلمة فاصلة في ملفات الأزمات الأخلاقية لعمل الشركات.

فالمركز لا يفرض على الشركات المدرجة في الأسواق المالية، أو العقارات، على سبيل المثال لا الحصر، أن تقدم بيانات دقيقة عن أوضاع مجالس إداراتها، أو سير آلية اتخاذ القرارات وإرساء العطاءات، أو مستوى الخدمات والالتزام بوعود العلامة التجارية. لكن زلمي، الذي لا يحتفظ في مكتبه بـ «مطرقة» القضاء، لا يتكلم، في المقابل، لمجرد الكلام:

«لسنا هنا من أجل الاصطياد في الماء العكر وتسجيل المواقف للتاريخ فقط، لسنا قضاة، لكننا لسنا مبشرين في الوقت ذاته». فهو يصف وظيفة المركز الذي يديره، تحت مظلة غرفة صناعة وتجارة دبي، بأنه «مضخة للوعي الأخلاقي للعمل، تصنّع المعايير التي تؤطر بدورها في أنظمة لرقابية محددة تتحول إلى قوانين رادعة».

لكن، الا نحتفظ، في بلادنا العربية، بتجارب سيئة، أو في أبسط الأحوال «غير مثمرة» مع الجهات التي تقول ان دورها فقط هو «نشر الوعي»؟ «الوعي ليس كل شيء، هو مجرد خطوة أولى من شأنها أن تورط الشركات في عناوين الأجندة الإصلاحية التي نسعى الى ترسيخها.

على سبيل المثال، لا نقول لشركة مدرجة في السوق المالي: يتوجب عليك أن تفصحي عن بياناتك لأن القانون يقضي بذلك، بل لأن ذلك من شأنه أن يزيد من ثقة المستثمر ويزيد، نتيجة الأمر، من القيمة السوقية للشركة».

ويعتبر أن مشكلة الإفصاح ماثلة في عمق الكثير من الأزمات التي مرت بها الشركات في دبي في الفترة الأخيرة، ويعطي مثالا على ذلك، قضية التلاعب في السوق المالي بما يخص أسهم «بنك دبي الإسلامي».

ويعتقد أن التفسير الأشمل لما حصل يتعلق بالحاجة إلى قوانين صارمة تجبر الشركات المدرجة في السوق عن الإفصاح الفوري وضمن درجات عالية. وما يمنع من سيطرة الشفافية بدرجة كاملة اليوم، ليس فقط غياب القوانين الواضحة في هذا المجال.

وإنما غياب الوعي عند المستثمر الذي لا يزال يتعاطى مع أسواق المال باعتبارها تشبه الحسابات المصرفية الادخارية، بفارق أن مردودها أكبر: «هدفنا تحريض المستثمر على مراقبة وضع الشركات .

والتأكد أن التقارير الصادرة عن تلك الشركات تعكس بدقة وضعها الحقيقي وأن وضع مجالس الإدارة يتوافق مع شروط هيئة الأوراق والسلع المالية. المستثمر يتحمل مسؤوليته، وحين انهارت شركة انرون، كان ذلك على رؤوس المستثمرين قبل أصحابها والعاملين فيها».

أما التحدي الآخر الذي يواجه مركز دبي لأخلاقيات العمل، فهو هويته التي قد يظن البعض أنها حكومية، كون المركز يعمل في إطار غرفة تجارة وصناعة دبي، مما يطرح تخوفات لدى الشركات أن تكون الحكومة راغبة «بدس الأنف» في شؤونها الداخلية؟

يقول زلمي ان المركز يعمل حالياً بالفعل تحت مظلة الغرفة، وهو أنشئ أساسا بمبادرة منها، لكنه في المستقبل القريب، سوف يتحول إلى مركز مستقل يدير شؤونه مجلس أمناء يتألف من 23 عضوا من الشركات ويحكم بحسب آليات النظام الداخلي للمركز. وهذه الخطوة، سيكون لها تأثير ايجابي على تمويل نشاطات المركز.

حيث سينتقل من المرحلة الحالية التي يتلقى فيها التمويل من الغرفة ومن بعض الشركات الراعية لرسالته، إلى مرحلة أخرى يتوكل فيها مجلس الأمناء هذه المهمة، إضافة إلى المردود المتأتي من الخدمات التي يقدمها المركز إلى الشركات المستفيدة.

ويذكر هذا الإجراء، بنموذج مركز دبي للتحكيم الدولي، الذي بدأ مركزا تابعا للغرفة، قبل أن يتحول إلى هيئة مستقلة، وان كان يعمل حتى اليوم تحت مظلة الغرفة.

وبالوصول إلى مرحلة مجلس الأمناء سيتمتع المركز بليونة أكبر للقيام بمهامه تجاه القطاعين الخاص والعام. اذ يضع اليوم جملة من البرامج الموجهة إلى أعضاء مجالس إدارة الشركات الخاصة، او المملوكة لعائلات، مثل برنامج المنتدى الذي يهدف إلى التحول تدريجيا لصيغة تشبه المعهد تجمع هؤلاء على أساس برنامج تدريبي خاص يركز على الحوكمة:

«كذلك نعمل مع الإدارات التنفيذية للشركات في القضايا التي تتعلق بإدارة الأزمات المرتبطة بأخلاقيات العمل، عن طريق صياغة دليل للأخلاقيات يتم تعميمه على الموظفين والموردين ومن ثم تدريبهم على استخدامه ومساندتهم في وضع أنظمة إدارية من أجل التأكد من الالتزام بتطبيق الدليل».

* اعمار ودانة غاز

والعجلة تدور

وبالرغم من اعتراف مركز دبي لأخلاقيات العمل بوجود تجاوزات كثيرة حصلت في الفترات الماضية، إلا أن زلمي يعرب عن تفاؤل كبير بشأن المرحلة اللاحقة. فالفرصة لم تكن سانحة للتغيير في يوم من الأيام، بقدر ما هي موجودة اليوم:

«المعادلة بسيطة: لدى دبي خطة استراتيجية للانتقال إلى مركز عالمي للأعمال والخدمات وأن تكون لاعبا رئيسيا على الساحة الدولية. ولكن هذا الانتقال السريع يحتاج إلى شروط ومهيئات من أهمها مسائل الشفافية والنزاهة. نقول للمؤسسات إنه إذا أرادت أن تكون جزءا من هذا الانتقال عليها ألا تغفل هذا الملف.

اليوم، نحن متفائلون، فقبل 4 سنوات من اليوم لم تكن هناك حاجة ملحة لوجود مركز يشجع على الأخلاقيات المرتبطة بتنفيذ الأعمال. اليوم، الشركات أكثر حماسة من الماضي للقيام بخطوات جدية في هذا المجال».

على سبيل المثال، أعلنت شركة «اعمار» العقارية مؤخرا عن إنشائها مجلسا استشاريا مهمته التأكد من المعايير الأخلاقية الخاصة بعمل الشركة ومشاريعها الكبيرة.

كذلك «دانة غاز» التي حرصت من اليوم الأول للإعلان عن تشكيلها على القيام بخطوات جدية في هذا السياق.

ويرى أن حاجة الشركات اليوم إلى الانتقال إلى الأسواق العالمية.

وطموحها إلى إدراج أسهمها في أسواق المال العالمية، يفرض عليها جملة من الخطوات الجدية في مجال الشفافية والإفصاح:«لم يعد الأمر ترفاً أو برستيجاً، انه حاجة ضرورية للشركات».

وفي غمرة التفاؤل لا يفوته التأكيد على أن «كل شيء جائز»، وقد يحدث في السوق أزمات سببها الخلل في تطبيق معايير أخلاقيات العمل: «لا نتمنى حصول ذلك، ولكن في حال حصل، من شأن ذلك أن يزيد من حماسة الشركات للقيام بخطوات جدية».

* الشركات العائلية

لا يعتقد زلمي أن الشركات المملوكة من العائلات تعاني من أزمة شفافية، بالمعنى الضيق للمفهوم، لكنه يقول إنها تواجه الكثير من التحديات التي ترد إلى كون الجيل الجديد من العائلات لا يفكر بالطريقة ذاتها التي فكر بها الأجداد والآباء:

«لدى الجيلين الثالث والرابع طموح كبير إلى الخروج بالشركات، أو أقسام منها، إلى النشاط العالمي، لذلك سيكون عليهم مواجهة قضايا الشفافية بوعي وجدية».

وإذا كانت طبيعة هذه المواجهة تعتبر «أشرس» في حالة الشركات المدرجة في الأسواق المالية كونها تتعاطى مع المستهلك العام الذي يطلب حماية حقوقه، إلا أن الشركات العائلية مقبلة أكثر على الدخول في هذا الخضم عبر تحول المزيد بينها إلى شركات مساهمة عامة.

وعن التصريحات الصحافية التي صدرت عنه في وقت سابق حول معارضته لنظام توظيف الأقارب في الشركات كونه يؤثر بشكل سلبي على بيئة العمل، يقول زلمي ان هناك قوانين في الغرب تمنع هذا الأمر، «إلا أنه لا يتوجب علينا اقتباس القوانين الأميركية أو اليابانية وإسقاطها على بيئتنا المحلية فالضوابط يجب أن تأخذ بعين الاعتبار التقاليد الاجتماعية.

الضوابط ليست مجردة، والأساس ألا يتم التوظيف على أسس غير تنافسية أو تنفي الكفاءة، لأن ذلك من شأنه أن ينشئ تكتلات من المصالح الشخصية التي تتعارض مع مصلحة المؤسسة. ونحن، من خلال عملنا في المركز نسعى إلى وضع الضوابط التي تحسم تعارض المصالح لمصلحة المؤسسة لا الأشخاص العاملين فيها».

كتب ـ إبراهيم توتونجي:

Email