ورقة بحثية للدكتور فيكتور سحاب:

محمد عبد الوهاب سبق عصره بتقديم 60 مقطوعة موسيقية

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يترك موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب بصمته الخاصة على الغناء فقط ، ولكن امتدت بصمته تلك لتضفي على الموسيقى العربية أبعاداً جمالية أخرى استوحاها من وحي خياله الموسيقي الخصب.

وربما لا يعرف الكثيرون أن للفنان الراحل في مجال الإبداع الموسيقي البحت أكثر من 60 قطعة موسيقية تعتبر كاللآلئ في سماء الفن وقد استوحى معظمها من أشكال الموسيقى العربية التقليدية على مدى عطائه الفني الذي امتد لأكثر من 75 عاماً الباحث في الموسيقى الدكتور فيكتور سحاب سبر أغوار المعزوفات الموسيقية التي قدمها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وخصائصها قام د. فكتور سحاب بجمعها وتحقيقها في ورقة بحثية ليقدم لعشاق الموسيقى العربية شيئاً من التفصيل عن عبقرية عبد الوهاب وبدأها بعرض لأهم خصائص قطعه الموسيقية .وهي: أن كل مقطوعات محمد عبد الوهاب الموسيقية كان قد استوحاها من أشكال الموسيقى العربية التقليدية مثل البشرف واللونجا والتحميلة والتقسيم وغيرها .

وقدم في هذه القطع تزاوجاً بين عناصر القوالب الموسيقية وتصرف فيها وبدل وأضاف وابتكر أشكالاً جديدة لم تكن موجودة قبله.كما طور مضمون المقطوعة بوضعه أساليب متنوعة من التعبير الموسيقي وقد واجه محمد عبد الوهاب حملة هجوم كبرى من معاصريه ، نظراً لكم الحداثة التي أتى بها في مقطوعاته الموسيقية والتي كانت شيئاً غريباً وجديداً في ظل التقليدية والموسيقية البحتة في ذلك العصر ، استعصى على الكثيرين استيعابه ولكن إصرار «عبد الوهاب»، على المضي فيما بدأه.

والذي جعله يسير عكس التيار من تقديم موسيقاه بحتة غير عابئ بالخسارة المادية التي كانت متوقعة حينها حيث لم يكن هناك تفتح بعد ولا إقبال على الموسيقى الصرفة جعله فيما بعد ينشئ شركة أسطوانات هدفها الرئيسي نشر مؤلفاته الموسيقية البحتة ولم يُلق بالاً بمنطق الربح والخسارة .

ونجح على المدى الطويل بدأ عبد الوهاب مع مطلع ثلاثينيات القرن الماضي في إصدار عدد من الأسطوانات ضمنها تقاسيم على العود مستوحاة من المقامات الموسيقية المعروفة سيكا، حجاز كار - كورد ولم يكن في هذا مختلفاً عن معاصريه من كبار الملحنين كالسنباطي والقصبجي إلا إنه تميز عنهم بابتكاره عدداً لا يحصى من أشكال المعزوفات مستعيناً في هذا بمعرفة تامة وخبرة طويلة بالأشكال الموسيقية التقليدية.

وربما هذا هو ما يميز عبد الوهاب وفرَّده عن أقرانه القدرة الفذة على الاستيعاب والإلمام بكل القوالب التقليدية وتحويلها إلى أشكال وقوالب جديدة رائعة.

أما أهم المعزوفات التي سبق فيها عبد الوهاب عصره خاصة ، ونحن نتحدث بدءاً من مطلع القرن العشرين فهي: ـ لونجا ألون ـ «إليها» عام 1945 ـ المماليك عام 1946 ـ «بلد المحبوب» عام 1947 ـ الخيام عام 1962 وتميزت تلك المعزوفات باحتلاف بعضها عن بعض في نوعية الإيقاع المستخدم فاللونجا يغلب عليها طابع الفوكس ذو الأصول البلقانية والسماعي إيقاعه سماعي.

وقد ظهر تطوير عبد الوهاب لشكل المعزوفة التقليدي عام 1933 حينما وضع معزوفة «فكرة» وهي تحميلة تقليدية مع تقديمه في العام ذاته معزوفة فانتازيا نهاوند .

وقدم فيها تزاوجاً جميلاً بين التحميلة واللونجا ثم أخذ عبد الوهاب في المزج بين أشكال الموسيقى فتارة نجده يمزج بين التحميلة واللونجا أو التقاسيم واللونجا وتارة بين التحميلة والتقاسيم مما أضاف شكلاً مميزاً وجديداً على القوالب الموسيقية يحمل بصمته الخاصة ليصبح عزفاً وهابياً صرفاً.

ومن أهم المعزوفات التي مزج وزاوج فيها عبد الوهاب بين أشكال القوالب الموسيقية - لغة الغيتار عام 1935 ـ حبي عام 1937 - غزل البنات عام 1949 ـ أنا وحبيبي وكوكتيل عام 1951 ـ أماني العمر عام 1954 ـ حبيبي الأسمر عام 1957.

ولعل أهم ما تمتاز به معزوفات موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب بأنها تجسيد المعزوفة بمعنى أننا نستطيع أن نستشعر المقطوعة ونلمسها كأنها مجسدة أمام ناظرينا لكمية ما تحمله من صدق وتميز وقدرة على التعبير فالتعبير الموسيقي لعبد الوهاب يدور بين ثلاثة أنماط هي: ـ التمثيل:

كما لو كانت الموسيقى ترى ولا تسمع فقط ـ التصوير: وهو وصف شيء أو حدث بصورة موسيقية مجردة ـ التعبير: التعبير عن المشاعر البشرية بصورة موسيقية كالفرح والخوف والحماس والحزن من أهم أنماط موسيقى معزوفات عبد الوهاب .

وتبلغ قمة الروعة عندما يمزج بين الأنماط الثلاثة التمثيل والتصوير والتعبير في مقطوعة واحدة ويمكن أن تضرب مثالاً على ذلك كما يقول د. فكتور سحاب بمعزوفة حبيبي التي قدمها عبد الوهاب عام 1953 ففيها تجسيد حي لدلال المحبوب.

وفي مقطوعة قمر 14 سنة 1978 لا يمكن أن نتصور سوى جلسة شعبية حول فتاة جميلة تتهادى في خطوات راقصة وفي مقطوعة المستحيل استخدم تداخلاتٍ صوتيةً وهمهمات غريبة لإحداث الإحساس المخيف في نفس المستمع كما استخدم جملاً موسيقية لم يختمها النهايات المعروفة لها.

وقدم عبدالوهاب في معزوفة «القافلة» التي ألفها عام 1955 الإيقاع ومقام حجاز ليدل على الطبيعة الصحراوية التي تسير فيها القافلة أما في مقطوعتي إليها 1945 وقبلها مقطوعة من الشرق 1943 قدم المعزوفة بتعبير تجريدي راقٍ جداً وبلغ عبد الوهاب في هاتين المقطوعتين الذروة الفنية في المعزوفة العربية.

وشدد الدكتور فيكتور سحاب على ضرورة أن نحافظ على هذا التراث الموسيقي الضخم والثورة الموسيقية التي ابتدعها عبد الوهاب بمزيد من البحث والتحليل وألا نتوقف عند حدود الاستماع، كما اقترح أن نتناول بمزيد من التحليل والتدقيق في التراث الآلي لكبار الملحنين أمثال القصبجي والسنباطي وفريد الأطرش ومحمد فوزي بدلاً من التراث المتعلق بالقرن التاسع عشر فقط كمصدر.

وحيد للتعرف على التراث الموسيقي العربي الآلي نظراً للدور الكبير الذي لعبه عبد الوهاب ورفاقه المحدثون الذين استعانوا بالقوالب الموسيقية القديمة والتراثية وطوروها وأضافوا إليها من حسهم الفني العالي وتعديلاتهم المتميزة التي أوجدت قوالب موسيقية جديدة على أعلى مستوى.

وطالب المؤلفين الموسيقيين العرب في تقديمهم للمؤلفات الموسيقية الحديثة الاستعانة بالقوالب الموسيقية التقليدية الخاصة بالموسيقى العربية مثل القالب، البشرف، التحميلة بعد أن يضيفوا إليها ويطوروها بما يتناسب وروح العصر بدلاً من اللجوء للقوالب الغربية كالسوناتا والسيمفونية والكونشيرتو حتى نضمن بقاء روح الموسيقى العربية بعيداً عن التغريب.

القاهرة ـ «البيان»:

Email