الاقتصاد الأميركي وخطر الانكماش

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاحد 17 ربيع الاول 1424 هـ الموافق 18 مايو 2003 حسنا، أننا نواجه خطراً جديداً اسمه الانكماش، هكذا تقول لجنة السوق الفيدرالية المفتوحة «فومك» التي تعتبر هيئة صنع القرار الرئيسية في بنك الاحتياطي الفيدرالي، لقد جذبت هذه الكلمات الانتباه الى شيء كان يبدو تحفة تاريخية نادرة حتى عهد قريب. ان الانكماش يعني هبوطاً عاماً في الاسعار، وهذا لم يحدث في الولايات المتحدة منذ فترة الركود العظيم 1928 ـ 1930، ومع لجنة «فومك» لم تذكر كلمة «الانكماش»، فان جمهرة مراقبي البنك الفيدرالي استنتجوا انها قصدت «الانكماش» وانها قلقة جداً. والانكماش ينجم عن العرض المفرط «في كل شيء في الرقائق الحاسوبية الى مقاعد الطائرات» في مقابل الطلب الضئيل. وتنخفض الاسعار في خضم تنافس الشركات على كسب الزبائن. وان مشكلة انخفاض الاسعار نتيجة للفائض في القوة العاملة ورأس المال هي مشكلة عالمية. وفي المانيا أدت مستويات الطلب الضعيفة الى ارتفاع متواصل في معدلات البطالة منذ 13 شهراً. مهما يحدث، فان بيان لجنة «فومك» ـ الذي ردد صداه البنك المركزي الأوروبي الاسبوع الماضي ـ يشير الى تغير تاريخي. فمنذ اوائل الستينيات هيمن التضخم «الذي بلغ ذروته عام 1979 عند معدل 13.3%» على الاقتصاد، وقد ادى ارتفاع وانخفاض التضخم على أسعار الفائدة وسوق البورصة واسعار المساكن والاجور. والتقليل من اهمية التضخم يعني اننا دخلنا في عهد جديد تظلله تهديدات غير مألوفة. يبدو ان التضخم انهزم. ففي شهر مارس الماضي، سجل مؤشر اسعار المستهلكين ارتفاعاً بنسبة 3% عما كان عليه قبل عام. ليس في ذلك ما يثير الاعجاب والدهشة، لكن الجزء الأكبر في نسبة الارتفاع نبع في ارتفاع اسعار النفط الآخذة بالتراجع الان. وإن ما يعرف بالتضخم «الجوهري» ـ أي باستبعاد اسعار الطاقة وسوق الاسهم غريبة الاطوار ـ يرتفع بمعدل 1% سنوياً، وفضلاً عن ذلك فان أسعار عدة سلع هامة آخذة بالانخفاض منذ سنين، فلقد انخفضت الاسعار منذ شهر مارس 2000 بنسبة 2.8% للسيارات و3.4% للاجهزة الكهربائية المنزلية «بما في ذلك الغسالات وأفران المايكروويف» و9.9% للملابس الرجالية و57% للكمبيوترات الشخصية. وتعكس هذه الهبوطات في الاسعار التكنولوجيا الجديدة والادارة المحسنة والمنافسة المحتدمة، بما في ذلك في قطاع الواردات: لكن تدني بعض الاسعار لا يحدث انكماشاً اذا ـ كما هي الحال الان ـ كانت هناك اسعار اخرى ترتفع بسرعة، ومنذ مارس 2000 ارتفعت رسوم الدراسة بالكليات والجامعات بنسبة 19.5%، كما ارتفعت الاسعار بنسبة 16% لدور الرعاية و10.5% لتصليح السيارات و8.8% لحلاقة الشعر. ويقال في كثير من الاحيان ان الانكماش لا يمكن ان يحدث لان الخدمات «التي تشكل 60% في مؤشر اسعار التجزئة، تغطي كل شيء من الرعاية الصحية الى الاسكان» لاتشهد مكاسب ذات صلة بالانتاجية والاسعار لا تهبط. لكن هذا المنطق في الجدال أضعف مما يبدو عليه، فالهبوطات الكبيرة في الاسعار للبضائع «السيارات، الكمبيوترات... الخ» قد تغمر الارتفاعات المتواضعة في أسعار الخدمات. وبعض الخدمات في الواقع تستفيد من مكاسب الانتاجية، وعلى سبيل المثال فان اسعار خدمات الهاتف المتحرك انخفضت بنسبة 14.6% منذ مارس 2000. وفي مجالات اخرى، تنخفض اسعار الخدمات «أسعار تذاكر الطيران، اسعار الغرف الفندقية» لانها لابد ان تتبع قانون العرض والطلب. ولنفترض جدلاً ان الانكماش حدث؟ لماذا يعتبر ذلك الوضع سيئاً؟ الاسعار المتدنية سوف تتيح للناس شراء اشياء أكثر بأجورهم ذاتها، وهذا سوف يفيد الاقتصاد. كلام سليم، لكن الانكماش يشكل اخطاراً عدة: الاسعار المتدنية قد تخفض ارباح الشركات، وتضر بسوق الاسهم وتضغط على الشركات لتسريح العمال وخفض الاجور، الاسعار المتدنية قد تؤدي بين ليلة وضحاها الى انخفاض معدلات الفائدة الى حدود قريبة من الصفر، مما يجعل من الصعب على بنك الاحتياطي الفيدرالي تحفيز الاقتصاد. الشركات والمزارعون ربما يتخلفون عن سداد اقساط قروضهم، التي تبقى ثابتة، في حين تنخفض الاسعار التي يتلقونها، والمستهلكون ربما يؤجلون مشترياتهم ظناً منهم ان الاسعار ستنخفض أكثر في المستقبل. في فترة الركود العظيم تجسدت هذه الاخطار على أرض الواقع. فما بين 1929 و1933 انخفضت اسعار التجزئة بنسبة 24%، وأعلن آلاف المزارعين والمشاريع التجارية عن افلاسهم، وأفلست حوالي 40% من البنوك. وبحلول عام 1933 كانت معدلات البطالة قد وصلت الى 25%، ومع ان بنك الاحتياطي الفيدرالي خفض اسعار الفائدة، فان الاقتصاد لم يستجب إلا ان الانكماش لا يؤدي دائماً الى كارثة. فما بين 1870 و1896 انخفضت الاسعار بمعدل 1.2% كل سنة، طبقاً لدراسة اعدها خبير الاقتصاد مايكل بوردو من مؤسسة «روتجرز» وانجيلا ريديش من جامعة بريتيش كولومبيا. وبرغم الهبوطات المتكررة والازمات المصرفية حينذاك، فان الاقتصاد استطاع ان ينمو بمعدل 4% سنوياً. وارتفع معدل دخل الفرد بنسبة 1.6% سنوياً، وانتشر التحول الصناعي على نطاق واسع، وفي 1870 حتى 1890 تضاعف حجم انتاج الفولاذ والحديد خمس مرات، وتضاعف انتاج السيجار اربع مرات وانتاج السكر ثلاث مرات. وأحدثت شكاوى المزارعين في انخفاض الاسعار ردة فعل شعبية قوية لكن العمال والشركات استطاعوا التكيف مع الوضع. قبل حوالي عام، نشر بنك الاحتياط الفيدرالي دراسة اعدها خبراء اقتصاديون عن الانكماش في اليابان، والنتائج الرئيسية التي خلصت اليها الدراسة هي ان اليابانيين لم يتوقعوا حدوث الانكماش وان الاجراءات المضادة التي اتخذوها كانت ضئيلة جداً ومتأخرة جداً. وقالت الدراسة انه حالما يصبح احتمال الانكماش قائماً، يجب على الحكومة القيام بتحفيز اقتصادي «يتجاوز المستويات المتبعة عادة»، درهم وقاية يساوي قنطار علاج، وربما يكون هناك ضرورة حتى لخفض اسعار الفائدة أكثر وزيادة العجوزات المالية مؤقتاً. هذا الدرس يجعل واشنطن غير مرتاحة حتى الان. بقلم: روبرت صامويلسون

Email