لماذا توقف التعاون النقدي العربي وما هي المواقع التي يمكن أن يقوم عليها؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاحد 29 رجب 1423 هـ الموافق 6 أكتوبر 2002 بعد فشل التنفيذ لاتفاقية تسهيل إجراء المدفوعات الجارية وانتقال رؤوس الأموال بين الدول العربية الموقعة عام 1953، توقف التنفيذ لكل الإتفاقيات والخطوات اللاحقة التي أعدت لتفعيل التعاون النقدي العربي، بل أقول أن هذا النوع من التعاون ظل يتبادل بين الدول العربية كشعار فقط ولم تتم فيه أية خطوات تنفيذية حتى الوقت الحاضر، بالرغم من أهميته كأساس قوى للتعاون الاقتصادي العربي وبالرغم أيضا من إنشاء صندوق متخصص لتنفيذه هو صندوق النقد العربي. ففي عام 1953 وقع مندوبو الدول العربية إتفاقية تسديد مدفوعات المعاملات الجارية وانتقال رؤوس الأموال بين الدول العربية التي لم يتم تنفيذها حتى الآن، بالرغم من أنها كانت تعالج موضوعين رئيسيين للتعاون النقدي العربي، وموضوع تسوية المدفوعات الناتجه عن المعاملات الجارية بين الدول العربية، وموضوع انتقال رؤوس الأموال بين هذه البلدان. وفيما يتعلق بتسوية المعاملات الجارية فإنه، بموجب النصوص الواردة بالإتفاقية، يلتزم كل عضو بالتزامين هما: تسهيل تحويلات المعاملات الجارية إلى باقي الدول الأعضاء مع منح هذه التحويلات أقصى ما يمكن من معاملات تفضيلية، وذلك في حدود أنظمة الرقابة على النقد وأنظمة الاستيراد والتصدير السارية في كل من هذه الدول، لأن الإتفاقية لم تحاول أن تلزم أي عضو بالغاء أنظمته الداخلية،ولكنها عالجت فقط الوضع الذي يؤدي فيه تطبيق الأنظمة إلى عرقلة المعاملات بين الدول العربية. وتبدو أهمية النصوص الواردة بهذه الإتفاقية إذا علمنا أن الدول الأوروبية التي وقعت إتفاقية نقدية بينها في ذلك الوقت، أخذت الكثير من القواعد النقدية الأوروبية أساسه، كما أنشأت إتحاد المدفوعات الأوروبي الذي حقق أهدافه النقدية في عام 1959 عندما أعلنت الدول الأوروبية قابلية عملائها للتحويل وانضمت جميع هذه العملات إلى ما يسمى «بالعملات الحرة ». ولكن للأسف فإن الدول العربية التي وقعت إتفاقية تسهيل إجراء المدفوعات الجارية وانتقال رؤوس الأموال بين الدول العربية الموضحة أعلاه، لم تقم بتنفيذه حتى تجمدت الإتفاقية تماما، واتجه الفكر العربي في مجال التعاون النقدي إلى مشروعات نقدية أخرى، حيث كانت هناك بعد ذلك فكرة إنشاء إتحاد مدفوعات عربية على غرار إتحاد المدفوعات الأوروبي الذي حقق نجاحا واضحا لصالح الدول الأوروبية والذي قادها إلى إنشاء السوق الأوروبية المشتركة، غير أن فكرة إتحاد المدفوعات العربي أيضا لم يكتب لها النجاح بل لم تر النور حتى الآن. ولما كان ذلك في غير صالح الدول العربية، خاصة وأن التعاون النقدي العربي له أهميته الكبيرة في كل الأنواع الأخرى للتعاون الاقتصادي العربي، وفي إجتماع عاصف بمجلس الوحدة الاقتصادية العربية بالقاهرة عام 1975 ناقشت لجنة تنسيق السياسات النقدية بالمجلس أسباب عدم تفعيل فكرة إتحاد المدفوعات العربي بالرغم من مطالبة الكثيرين بتنفيذها، وبالرغم من أهميتها لانسياب التجارة العربية البينية دون عوائق، غير أن هذه المناقشة الحادة كانت بداية فكرة جديدة هي إنشاء صندوق النقد العربي الذي يمكن أن يتولى صياغة إتفاقية محلية لإقامة تعاون نقدي عربي كبديل عن الإتفاقية والفكرة المصاغة قبل ذلك بسنوات. ومن هنا فإن نشأة صندوق النقد العربي لم تكن نتيجة دراسة وتحليل لأوضاع عربية اقتصادية، ولم تكن أيضا بناء عن حاجة لتعزيز التعاون الاقتصادي العربي الذي تردى في السنوات الماضية بالرغم من إنشاء عما يزيد عن عشرين منظمة تعمل في مجاله، كما أن إتفاقية مجلس الوحدة الاقتصادية العربية كانت تتضمن النصوص اللازمة لإقامة تعاون نقدي عربي دون الحاجة إلى إنشاء منظمة خاصة لذلك. وعلى ذلك فإن نشأة صندوق النقد العربي، الذي ساهم للأسف في وقف التعاون النقدي العربي، لم يكن له ضرورة نقدية ولا اقتصادية، وكما أوضح بعض الاقتصاديين العرب الأمناء أن هذه النشأة ربما كانت نتيجة فكرة وردت على لسان أحد المدعوين لحفلة من الحفلات العربية العديدة، وفي معرض سرده لفكرة عابرة وردت على لسانه على سبيل الضحك قال فيها «لماذا لاننشئ صندوق نقد عربيا على غرار صندوق النقد الدولي، فنحن لا نقل أهمية عن الذين أنشأوا الصندوق الدولي» وقد يكون هذا العضو أحد الذين تولوا رئاسة صندوق النقد العربي في الفترة الأولى من حياته وبعد إنشائه بتاريخ 11/2/1977 والتي كانت نشأة مفاجئة كغيره من المنظمات العربية المشتركة الأخرى والتي اكتشف فيها أكبر سرقة في تاريخ المنظمات العربية المتخصصة (حوالي ثمانين مليون دولار أميركي). لقد مضى اليوم أكثر من ربع قرن على إنشاء صندوق النقد العربي ولم يتم أية خطوات تنفيذية على طريق التعاون النقدي العربي، ولا أجد أية مبررات مقنعة لهذا التجمد، وما إذا كان ذلك يرجع إلى تعقيدات التعاون النقدي وصعوبة ميكانيكيته، أم يرجع لعدم فهم القيادات التي تناوبت على رئاسته لطبيعة هذا التعاون، مع أن هناك بنودا صريحة وواضحة في الإتفاقية المنشئة للصندوق تنص على أهمية هذا التعاون وأهدافه منها: ـ تسوية المدفوعات الجارية بين الدول الأعضاء بما يعزز حركة المبادلات التجارية. ـ استقرار أسعار الصرف بين العملات العربية، وتحقيق قابليتها للتحول فيما بينها، والعمل على إزالة القيود على المدفوعات الجارية بين الدول الأعضاء. ـ دراسة سبل توسيع استعمال الدينار العربي الحسابي وتهيئة الظروف المؤدية إلى إنشاء عملة عربية موحدة. فهل هناك أحد من رجال النقد أو الاقتصاديين العرب يدعي ان أيّاً من هذه البنود قد تحقق أو أنه يوجد حاليا خطوات تمهيدية لتحقيقها، وليس ذلك تقليل للأنشطة التي يقوم بها الصندوق حيث أنه له جهاز تنفيذي كبير يتكلف سنويا ما يزيد عن خمسة ملايين دولار أميركي،ويقوم بأنشطة في إتجاهات عديدة، إلا التعاون النقدي العربي الذي نشأ من أجل تحقيقه بين الدول العربية!! ويسرني أن أقرأ في أعداد قادمة تعليقا كتابيا عن مدى صحة هذا الكلام من أحد قيادات صندوق النقد العربي الحاليين أو السابقين، فقد أكون مخطئا؟ وفي مقابلة ناجحة منذ سنوات مع معالي محافظ بنك الامارات العربية المتحدة طلب مني أن أعدد المجالات التي يمكن أن يقوم فيها تعاون نقدي عربي يقود إلى تكامل اقتصادي عربي ويساعد في إنشاء السوق العربية المشتركة وقد أسعدني حديث معاليه ويسرني أن أستعرض فيما يلي المواقع التي يمكن أن ينطلق منها التعاون النقدي العربي، علما بأنها تتفق مع الاهداف الواردة في الإتفاقيات النقدية العربية السابقة، على أن التنفيذ العملي أصبح هو المطلوب بعد توقف كل الإتفاقيات وكل النظريات التي تطالب بتفعيل التعاون النقدي العربي دون بحث عن أهميتها: أولا: ضرورة توسيع إستخدام الدينار العربي الحسابي في كل المعاملات النقدية بين الدول العربية، وهو هدف من أهداف صندوق النقد العربي الذي لم يتم تنفيذه حتى الآن، علما بأن النواحي الفنية التي تحكمه ليست معقدة حيث يمكن أن يرتبط الدينار العربي بالدولار الأميركي الذي ترتبط به أغلب الدول العربية أو بوحدة حقوق السحب الخاصة أو بوحدة تتكون من سلة جديدة تتضمن «الدولار الأميركي واليورو الأوروبي والين الياباني»، وبذلك تحديد سعره يوميا كعملة منفصلة تنضم إلى قائمة العملات الأجنبية التي يتم تحديدها يوميا في أغلب الدول العربية، كما أنه من خلال تنظيم نقدي فني يمكن أن تتم به كل المعاملات النقدية بين الدول العربية دون خسائر لأي منها، على أن يعهد بهذا التنظيم إلى البنوك المركزية العربية والتي لن تتأثر نقديا نتيجة هذا العمل. ثانيا: تنفيذ التحويلات النقدية المتعلقة بالمعاملات التجارية البيئية تصديرا واستيرادا بالدينار العربي الحسابي، وذلك عن طريق حساب يفتح لدى كل بنك مركزي عربي يضاف إليه قيمة الصادرات ويخصم منه قيمة الواردات، وذلك بالعملات المحلية الخاصة بكل دولة عضو، وعلى سبيل المثال إذا رغب أحد التجار المقيمين في الامارات في استيراد بضاعة من مصر بمبلغ قدره مليون جنيه مصري فإن البنك المركزي المصري يقوم بسداد المليون جنيه مصري للمصدر المصري ويقوم بخصمها من الحساب المفتوح بالدينار العربي الحسابي باسم الامارات لديه وبسعر الصرف المعلن للدينار العربي الحسابي يوم التصدير، كما يقوم المستورد في الإمارات بسداد القيمة بالدرهم إلى بنك الامارات العربية المتحدة المركزي في نفس اليوم، ويقوم البنك المركزي الأخير بإضافة القيمة بالدينار العربي الحسابي إلى حساب مصر لديه في نفس اليوم أيضا، ويحدث العكس عند تصدير الإمارات سلعا إلى مصر وهكذا. ثالثا: بالنسبة للمواطنين العرب المتنقلين داخل المنطقة العربية للسياحة أو للأعمال الحرة أو للعمل لدى بعض المؤسسات فإنه بوسع كل مواطن أن يفتح حسابا جاريا لدى أي بنك محلي في الدولة المسافر إليها، وذلك بالدينار العربي الحسابي ويعنيه مبالغ من عملة محلية بالدينار العربي الحسابي الذي يشتريه من البنك المركزي في الدولة المقيم بها، أو يشتريه نتيجة بيع عملته إلى البنك المحلي في الدولة التي سافر إليها، ثم يقوم بالسحب عليه بالعملة المحلية في الدولة الأخيرة طوال فترة إقامته بها،وقبل عودته إلى بلده يمكنه بيع الفائض لديه بهذه العملة المحلية للبنك المحلي المفتوح به حسابه الجاري، ويأخذ مقابل لهذا الفائض عملة الدولة التي يقيم بها،كما يمكنه في حالة عودة مفاجئة أن يبيع الفائض لديه بالعملة المحلية في دولته التي عاد إليها، وذلك إلى البنك المركزي التابع لدولته. وأضرب مثالا لذلك، إذا حضر كويتي إلى مصر للزيارة أو للعمل، فإنه يمكنه فتح حساب لدى البنك الأهلى المصري بالدينار العربي الحسابي بالمقابل بالدينارات الكويتية التي يقدمها للبنك، ثم يقوم بالسحب عليه بالجنيهات المصرية طوال فترة إقامته، وعند سفره يودع الفائض من الجنيهات المصرية في حسابه لدى البنك الأهلي المصري، ثم يقوم بسحب رصيد الحساب الجاري إذا أراد بالدينارات الكويتية وبالسعر المعلن يوم السفر بين الدينار الكويتي والدينار العربي الحسابي، ومن هنا فإن الفيزا كارت يمكن أن تقوم بدور كبير في تسهيل العمليات النقدية للمواطنين العرب المتنقلين بين الدول العربية، على أن تستخرج بالدينار العربي الحسابي ويتم اعدادها فنيا من موظفي البنوك العربية المختصين بهذه العمليات. أنه تنظيم نقدي جديد اقترح إنشاؤه بين الدول العربية ومن واقع خبرتي الطويلة في مجال العمل بمؤسسات النقد العربي بأبو ظبي والبنك المركزي المصري (طوال ثلاثين عاما) وفي بعض البنوك المركزية العربية الأخرى، وسوف أكون سعيدا إذا تم الأخذ به أو حتى مجرد دراسة مدى إمكان تنفيذه من البنوك المركزية العربية أو مناقشته في الاجتماع السنوي الذي تنظمه هذه البنوك سنويا. ان توقف التعاون النقدي العربي وتجميده بين الدول العربية ليس في صالح التعاون الاقتصادي العربي ولا العمل العربي المشترك، حيث مازلنا نعتمد فيه على الشعارات والنظريات ونبتعد فيه عن العمل الفني التكنيكي الذي أعتمدت عليه أوروبا في تقدمها الاقتصادي وفي إنشاء السوق الأوروبية المشتركة والسوق الأوروبية الموحدة وأخيرا في إقامة الإتحاد الأوروبي. بقلم: يحيى المصري

Email