ملامح وخصائص الاقتصاد الجديد «الرقمي»

ت + ت - الحجم الطبيعي

في العام 1998 لاحظت وزارة التجارة الامريكية من خلال تقرير لها ان التطور في تكنولوجيا المعلومات الذي قاده النمو في استخدام الانترنت قد ساهم في خلق اقتصاد اكثر صحة مما كان متوقعا له، واستنادا إلى هذا التقرير توقع الكثيرون من الاختصاصيين ان تساهم الثورة المعلوماتية اذا صح التعبير في خلق ثورة صناعية واقتصادية جديدة، حيث توقع هؤلاء ان تؤدي هذه التطورات إلى طفرة طويلة الامد مما سيساعد الاقتصاد العالمي على تحقيق قفزات متلاحقة خلال الربع الاول من القرن الجديد، فيما أبدي جانب آخر من الاقتصاديين شكوكهم فيما يمكن ان تساهم به صناعة تكنولوجيا المعلومات في رفع الانتاجية الكلية، وفي الواقع انه في الوقت الراهن لا يوجد القدر الكافي من الدلائل على ان استخدام تكنولوجيا المعلومات قد اسهم بشكل ملحوظ في زيادة انتاجية الصناعات والمشروعات التي كانت تدار بالطريقة التقليدية. ولكن وبالرغم من ان التأثير الاقتصادي الحقيقي لهذه الثورة المعلوماتية لا يمكن تقييمه بعد اذ ان ملامحه لم تتحدد بالقدر الكافي بعد الا ان هذا التأثير لا يمكن تجاهله او الغائه تماما. ان الصناعة المعلوماتية اخذت مؤخراً في النمو بمعدل يوازي ضعف معدل النمو الاقتصادي في الدول الصناعية المتقدمة والادلة الاحصائية تشير إلى ان هذا النمو سوف يستمر وبنفس الزخم خلال العقدين او الثلاثة عقود المقبلة اذ ان الاستثمار في هذه الصناعة يمثل ما يربو على اربعين في المئة من اجمالي الاستثمارات في المعدات المرتبطة بالتجارة والاعمال هذا بالاضافة إلى ان الانخفاض المستمر في اسعار المنتجات المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات ادى إلى خفض معدل التضخم العام في اقتصاديات هذه الدول. لقد ظهرت الثورة الصناعية نتيجة لاختراع المحرك البخاري في العام 1712 في حين كان ظهور الثورة الصناعية الثانية بسبب اكتشاف الكهرباء في العام 1831، ان امكانية الحصول على الطاقة البخارية ادى إلى الاستغناء عن الطاقة العضلية للانسان وعن مصادر الطاقة البدائية الاخرى كطاقة الرياح والانهار مما ادى إلى امكانية اقامة المصانع في اي مكان وليس فقط في المناطق الجغرافية التي تتوفر فيها مصادر الطاقة الطبيعية، اما فيما يتعلق بالكهرباء فإن الحاجة إلى بنية تحتية لنقلها اجل امكانية استخدامها الاستخدام الامثل لما يزيد عن نصف قرن اذ ان اول محطة لتوليد الكهرباء لم يتم انشاؤها قبل عام 1882 وقد احتاجت الطاقة الكهربائية خمسين عاما اخرى قبل ان تصبح المصدر الرئيسي للطاقة في المدن والمصانع، وبالمقارنة فإن الثورة الرقمية ظهرت واخذت في النمو اسرع بكثير من الثورة الصناعية حيث ان امكانيات الاتصال الآنية وامكانية استخدام الدوائر الميكروسكوبية الدقيقة لتحليل وتخزين قدر خيالي من المعلومات والبيانات ادى إلى تسريع هذا التحول الاقتصادي. ـ تأثير التجارة الالكترونية على الاقتصاد: نتيجة لتطور تكنولوجيا المعلومات والمحاولات المبذولة لخلق مجتمع معلوماتي ظهر ما يعرف بالتجارة الالكترونية، وبمعنى آخر اكثر وضوحا انه تم التركيز على استبدال جميع الانشطة الاقتصادية التقليدية بتلك التي تعتمد على المعلومات الرقمية، وقد اثرت هذه الاخيرة على الاقتصاد المادي اذا صح التعبير بالطرق التالية هذا بالاضافة إلى امكانية تغيير الشكل الحقيقي للاقتصاد التقليدي والذي يعتمد التواجد المادي لعوامل الانتاج والسلع والخدمات المطروحة في السوق. ـ الحاجة إلى اعادة هيكلة الاقتصاد: ان انتشار التجارة الالكترونية كوسيلة حديثة لابرام الصفقات والمعاملات التجارية صوحب بتطورات عدة منها على سبيل المثال لا الحصر تحسين الانتاجية فيما بين الشركات الصناعية وتعديل وسائل وانظمة توزيع السلع والخدمات بالاضافة إلى اعادة تشكيل النظام التجاري والصناعي السائد مما سيتطلب في نهاية المطاف إلى اعادة هيكلة الاقتصاد برمته. ـ التوسع الاقتصادي عن طريق التركيز على الاستثمار في التجارة الالكترونية: ان الاستثمار الحالي الذي تقوم به مختلف الشركات والصناعات في مجال تكنولوجيا المعلومات من اجل الحصول على منفذ إلى السوق الالكترونية سوف يؤدي إلى الدخول في مجالات عمل جديدة والتوسع فيها الامر الذي سيؤدي إلى نمو اقتصادي كبير إلى حد ما وبالتالي خلق مجالات وفرص عمل جديدة اذ ان تطور مفهوم ومجالات التجارة الالكترونية سوف يخلق طفرات معلوماتية الواحدة تلو الاخرى التي بدورها سوف تخلق مجالات صناعية جديدة ومتنوعة كصناعات تحليل البيانات والمعلومات والصناعات الخدمية وصناعة البرمجيات التي ستحتاج نوعية جديدة من الايدي العاملة الماهرة. ـ خصائص الاقتصاد الرقمي: ان الصورة الكاملة والمحصلة النهائية للتجارة الالكترونية لن تتضح الا في المستقبل، وفي تلك المرحلة المتقدمة يسود الاعتقاد بان حقبة ما تسمى بالاقتصاد الرقمي سوف تبدأ والتي ستكون لها منظور مختلف للانشطة الاقتصادية عن تلك السائدة في الوقت الراهن وهو القول بأن العديد من الاشياء سوف تظهر منها: ـ المعاملات والانشطة الاقتصادية ستكون ممكنة دون الحاجة إلى التحريك الفعلي سواء للافراد او الاشياء او الاموال الخ، وحينئذ سوف تتسارع عملية عولمة الانشطة الاقتصادية اي توحيد القوانين التي تنظمها على مستوى العالم حيث ان الحاجة إلى ذلك ستكون اكثر الحاحا اكثر من اي وقت مضى. ـ فيما يختص بالعقود فإن عملية نقل القيمة (الملكية) وتكديس الثروة (الادخار) سوف تتم عن طريق وسائل الكترونية، ولتوفير قدر معقول من الطمأنينة للافراد اثناء قيامهم بتلك الاشكال من المعاملات لابد من توفير قدر معين من الضمانات ليتمكن الافراد من طرح ثقتهم في النوع من الوسائل التي ستمكنهم من القيام بانشطتهم الاقتصادية واتمام معاملاتهم التجارية بسهولة لا سابق لها. ـ ان تكنولوجيا المعلومات التي تعتبر الدعامة الاساسية للاقتصاد الرقمي سوف تستمر في التطور بشكل سريع الامر الذي سيؤدي إلى حدوث تغييرات جذرية في المعاملات والانشطة الاقتصادية من اجل ذلك ولتجنب التخلف عن هذه التطورات فإن على المشرعين تعديل القوانين بشكل سريع ومرن لمواكبة عجلة التطور السريعة في هذا المجال. ـ ان انتشار استخدام التجارة الالكترونية والمعلومات الرقمية سيؤدي إلى دخول هذه الرسائل الالكترونية مختلف نواحي الحياة السبب الذي من اجله يجب اتخاذ جميع الاجراءات اللازمة لضمان استخدام آمن لهذه الوسائل هذا بالاضافة إلى اهمية ضمان وحماية سرية المعلومات الشخصية للمستخدمين. ـ أهمية اصدار تشريعات خاصة بالاقتصاد الرقمي: للأسباب الآنف ذكرها فإن القوانين والتشريعات الحالية (النظام القانوني والعرف التجاري) لن يكون هناك أي مجال لتطبيقها حينئذ (أي في حقبة الاقتصاد الرقمي) لذلك فإن التفكير الجاد في إقرار مجموعة من القوانين المحدثة للتعامل مع تلك المتغيرات سيكون أنسب الخيارات آنذاك. وفيما يلي بعض النقاط الأساسية التي تدعم وجهة النظر القائلة بأهمية الدور الحكومي في إصدار تشريعات تتناسب مع وضع النظام الاقتصادي الجديد والمباديء التي تحكم المؤسسات العامة للدولة عند قيامها بهذا الدور الهام. ـ الدور البناء والتجاوب السريع للمتغيرات: من المتوقع في عصر الاقتصاد الرقمي الذي تعتبر فيه التجارة الالكترونية أحد جوانبه المهمة ان تكون هناك حاجة ماسة لاعادة بناء المؤسسات العامة والانظمة القائمة حتى يتمكن الجميع من جني الفوائد التي سيأتي بها الاقتصاد الجديد اذ ان على الحكومات ان تتخذ موقفا واضحا من المستجدات وتقوم بالتقييم المستمر والبناء لعملية اعادة بناء مؤسساتها العامة وانظمتها القانونية وغير القانونية كما ان عليها الاستفادة من التقنيات والأساليب الحديثة والتأكد من أن قوانينينها وسياساتها مسايرة للعصر ومواكبة للتقدم التقني. ـ حل المشاكل عن طريق الوسائل التقنية الحديثة أو آليات السوق: اذا ما ظهرت بعض المشكلات نتيجة لتطبيق مباديء الاقتصاد الالكتروني فإن التغلب على هذه الصعوبات يجب أن يتم إما باستخدام الوسائل الالكترونية الحديثة أو باستخدام آليات السوق أي بعدم التدخل من قبل الحكومة والسماح لأطراف السوق (القطاع الخاص) من شركات ومؤسسات باستحداث أساليب جديدة لعلاج تلك المشكلات، وعندما يكون التدخل الحكومي مما لا مفر منه فان هذا التدخل يجب ألا يتجاوز الحد الضروري مع الأخذ في الاعتبار المصالح الخاصة التي يجب ان يحميها القانون ومراعاة التناغم بين الدول الحكومي ودور القطاع الخاص. ـ الأمن والثقة: اذا ما تعرضت المعلومات التي يتم تبادلها عن طريق التجارة الالكترونية للسرقة أو التزويد أو الاستخدام غير المشروع (القرصنة) فان ذلك سوف يؤدي الى زعزعة الثقة في النظام الاقتصادي ككل، هذا عدى عن المشكلات الاجتماعية التي يمكن ان تظهر في عصر الاقتصاد الرقمي مثل نشر المعلومات الماسة بالعقيدة والأخلاق أو فضح خصوصية الأفراد أو المشاكل الاخرى المتعلقة بالمستهلكين، كل ذلك يمكن ان يؤدي إلى تقويض الامن الخاص بالنشاطات الاقتصادية بل والاجتماعية، ولتجنب حدوث مثل هذه الأمور التي من الممكن ان توثر سلبا على الوضع الاقتصادي وتحد من تطوره في ظل الاقتصاد الرقمي فإن على الحكومات التعامل مع مثل هذه المشاكل بشكل حازم وسريع إما عن طريق استخدام الحلول التقنية أو الاستفادة من الحلول المقدمة من القطاع الخاص نفسه كما سبق وان ذكرنا. ـ إمكانية الحصول على المعلومات: نتيجة لسهولة الحصول على المعلومات في عصر الاقتصاد الرقمي فإن فرص الاستثمار لجميع الشركات والمؤسسات المتوسطة والصغيرة سوف تزداد بدرجة كبيرة كما ستتمكن الصناعات المحلية من عقد صفقات مع بقية العالم بسبب التطبيقات العملية لتكنولوجيا المعلومات، كل ذلك سوف يؤدي الى رفع حدود الاقتصاد الوطني الى مستويات عالية، لهذه الأسباب فإن على الحكومات المحلية خلق بيئة تتوفر فيها كل أشكال المعلومات الرقمية وتكون في متناول يد الجميع أفرادا ومؤسسات سواء كانت عامة أو خاصة وبتكلفة معقولة بحيث يتمكن الجميع من الحصول على منفذ للاقتصاد الرقمي. ـ التعاون الدولي: لما للاقتصاد الرقمي من خاصية عالمية تقوم أساس على استخدام الشبكة الالكترونية الدولية للمعلومات لتسهيل الانشطة الاقتصادية وذلك بالغاء عاملي الزمان والمكان فان على جميع الحكومات وعلى مستوى دولي القيام بالترويج ودعم التبادل المستمر للمعلومات وتنسيق السياسات فيما بين الأمم المختلفة التي أصبحت حقا تعيش في قرية الكترونية صغيرة جداً جداً. بقلم: ناصر أحمد بن غيث _ جامعة كيس وسترن ريزيرف

Email