التعاون النقدي بين الدول العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

التعاون النقدي بين الدول الأوروبية كان أهم جانب تعاوني ساعد على تحقيق السوق الأوروبية المشتركة, كما كان أول الخطوات التي شجعت على إقامة هذه السوق منذ ان كانت تضم فقط ست دول أوروبية بعد، الحرب العالمية الثانية, اما دول أوروبا الغربية الاخرى وعددها سبع دول منها السويد والنرويج والدانمارك وفنلندا, فقد اقامت تنظيما اقتصاديا اطلق عليه (منطقة التجارة الأوروبية الحرة). من هنا فقد بدأ التعاون الاقتصادي العربي بالجانب النقدي عن طريق إبرام اتفاقية لتسديد مدفوعات المعاملات الجارية وانتقال رؤوس الاموال بين الدول العربية وكان ذلك في عام 1953, غير انه للأسف لم يتم العمل بها لظروف تتعلق بالدول العربية التي يبدو انها كانت تخشى هذا التعاون, لانه قد يجرها الى وحدة عربية كاملة كان بعض الحكام العرب يقفون ضدها وبتشجيع من انجلترا التي ساعدت على انشاء قيام جامعة الدول العربية كبديل لمشروع الولايات العربية المتحدة. وعندما تمت الموافقة على اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية عام 1956 وانشىء مجلس خاص لتحقيقها تشكلت لجنة خاصة لتنسيق الشئون النقدية بين الدول العربية خاصة في مجال النقد الاجنبي والتحويلات الخارجية وكنت احد اعضاء هذه اللجنة التي كانت تجتمع بالمقر الرئيسي للمجلس في دورات سنوية بعد كل اجتماع سنوي للمجلس مباشرة, كنا في ذلك الوقت نبحث تنسيق السياسات النقدية بين الدول العربية بما يتضمنه ذلك من موضوعات تخص الرقابة على النقد الاجنبي وسعر الصرف وسعر الفائدة وميزان المدفوعات ومعدلات التضخم.. الخ. وقد كنا نصل الى توصيات عملية لكنها تنتهي الى ادراج ارشيفية ليبدأ بحثها من جديد بعد سنة أو أكثر, وقد انتهى عمل اللجنة في السبعينات عندما رؤى انشاء صندوق النقد العربي ليبحث كافة الموضوعات النقدية التي تتضمن التنسيق النقدي والذي يقوده الى توحيد نقدي وانشاء عملة موحدة بين الدول العربية, واعتقد ان ذلك لايتم بحثه حاليا في الصندوق خاصة بعد مزاولته لانشطة اخرى كانشاء برنامج تمويل التجارة البينية ومركز للبحوث وغيرهما. اما مسائل التنسيق والتعاون النقدي فقد أحيل الى الاجتماعات السنوية التي يعقدها محافظو البنوك المركزية العربية, خاصة وانه يضم اعلى السلطات النقدية التي يمكنها إصدار قرارات يتم تنفيذها دون تجميد.. وقد عقد المحافظون 24 دورة سنوية خلال ما يقرب من ربع قرن حتى اوائل سبتمبر الماضي, غير انهم لم يصدروا توصيات عن التنسيق النقدي العربي كما انهم لم يراعوا أن هناك سوقاً عربية مشتركة تتطلب هذا التنسيق, ويطالب بها اعلى السلطات في كل الدول العربية, وخاصة الملوك والرؤساء العرب, بل وقد اعتبرها الرئيس حسني مبارك, وصاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة في اجتماع مشترك تم منذ ثلاثة شهور في ابوظبي, مسألة حياة وبقاء للأمة العربية. ولقد كان من المتصور ان يراعى ذلك في الاجتماعات السنوية لمجلس محافظي البنوك المركزية, خاصة في الدورة الـ 24 والتي انعقدت بتاريخ 9 سبتمبر الماضي بطرابلس وحضرها ممثلون من 20 دولة عربية, غير ان قرارات الدورة جاءت ايضا خالية من اي نوع من أنواع التنسيق النقدي الذي يعتبر تمهيداً عملياً لانشاء السوق العربية المشتركة, وهو عكس ما كنا نعتقد بعد كل هذه المطالبات من اعلى السلطات العربية, خاصة وان هناك انظمة نقدية مختلفة في كل دولة عربية في مجال سعر الصرف وسعر الفائدة والرقابة على النقد والتحويلات الرأسمالية. لقد تضمنت توصيات الدورة المذكورة انشاء وتطوير أسواق اعادة الشراء (الريبو) في الدول العربية, واشادت بالجهود المبذولة في تطوير التقرير الاقتصادي العربي الموحد والمستوى الذي وصل اليه (لنا ملاحظات على اعداد هذا التقرير نعرضها في وقت آخر) والموافقة على توصية لجنة الرقابة المصرفية حول نظام ضمان الودائع, كما طالبت بضرورة رفع معدلات الادخار والاستثمار وتعديل أسواق المال العربية. أقول اين قرارات التنسيق النقدي العربي الذي بدأنا دراسته في الخمسينات والذي يمكن ان يكون تمهيدا عمليا للسوق العربية المشتركة, كما كان النظام النقدي الأوروبي تمهيدا للسوق الأوروبية المشتركة التي تمت فعلا؟ ألم يقرأ المجتمعون عن مطالبات للرؤساء والملوك العرب بانشاء السوق العربية المشتركة بعد ان أصبحت ضرورة اقتصادية ومسألة حياة وبقاء للدول العربية؟ آلم يعلموا ان التنسيق النقدي, مهما كانت صعوباته سيكون الطريق العملي لانشاء هذه السوق؟ ولا أكون مبالغا اذا قلت ان توقف التنمية الاقتصادية والبشرية للشعوب العربية, مع ضعف التعاون الاقتصادي والنقد العربي, هو الذي اضعف العرب اليوم امام اعدائهم وخاصة امام اسرائيل التي تعلم جيدا هذه الحقائق وتعمل كل ما في وسعها لكي تظل هذه الشعوب بأموالها وثرواتها خادمة لها, كما صرح رئيس السلطة الفلسطينية من قبل, وهي ايضا تعتقد انها الدولة الأقوى في المنطقة المسيطرة على الشعوب العربية بالرغم من ضخامة الثروات المادية والطبيعية والبشرية التي يملكونها والتي لاتفيدهم ولاتؤثر اقتصاديا ولاسياسياً عليهم بشكل ملحوظ طالما لايوجد تنمية حقيقية لها وطالما انها لاتستثمر الاستثمار الذي يؤدي الى تمكينها من الوقوف صفا واحدا ضد الاعداء وخاصة اسرائيل التي تتوسع تدريجيا وتنمو يوما بعد يوم حتى تحقق اهدافها! لقد نشأ صندوق النقد العربي في 11/2/1977 دون ان يعلم أحد هل كانت نشأته بديلا عن اللجة التي تعمل في نطاق مجلس الوحدة الاقتصادية العربية والتي نشأت لتنفيذ البند الثامن من المادة الأولى لاتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية والتي نصت على ضرورة تنسيق السياسات النقدية والمالية والانظمة المتعلقة بها في بلدان الأطراف المتعاقدة تمهيدا لتوحيد النقد بها؟ أم كانت هذه النشزة تدعيما لعمل هذه اللجنة حيث تتصاعد ازدواجية العمل بين المنظمات العربية المشتركة خاصة وان الادارة الاقتصادية بجامعة الدول العربية لها ايضا نفس هذه المهام في تنسيق السياسات الاقتصادية بين الدول العربية ومن بينها السياسة النقدية؟ وكانت هذه الخطوات هي البداية العملية لنشأة الصندوق اما البداية الفعلية فترجع الى النصف الأول من السبعينات, فبعد النصر الذي حققه العرب في 6 اكتوبر عام 1973 كانت هناك صحوة عربية, حيث توافرت الاموال العربية الفائضة من البترول الذي ارتفعت اسعاره الى عشرة أمثالها, وكانت الظروف مهيأة في ذلك الوقت لتقوية عمليات التعاون الاقتصادي العربي التي كانت قد انخفضت الى ادنى حد لها. في ذلك الوقت كان يضطلع بمسئوليات التعاون العربي المشترك عدد كبير من المنظمات العربية, ومن بينها, مجلس الوحدة الاقتصادية العربية الذي كان يضم عددا من اللجان, منها اللجنة النقدية التي تشرفت ان اكون عضوا فيها, وحضرت اغلب جلساتها وكنت مهتما بما يثار فيها, خاصة وقد درست في معهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية مادة التعاون النقدي الدولي والاقليمي.. وكان يقوم بتدريسها لنا استاذ الجيل الدكتور محمد زكي شافعي رحمه الله, كما كنت قريبا في عملي من هذا المجال حيث كنت اعمل بالرقابة على النقد الاجنبي بالبنك المركزي المصري. ومن واقع الخبرة العملية والدراسات الاكاديمية في مجال العلاقات النقدية والتعاون النقدي الاقليمي وعمليات التحويلات الخارجية, شاركت في اعداد مشروع لانشاء اتحاد مدفوعات عربي على غرار اتحاد المدفوعات الأوروبية الذي حقق انجازات ضخمة خلال النصف الثاني من الخمسينات من بينها انسياب التجارة بين الدول الاوروبية في وقت لم تكن هذه الدول تملك فيه من ارصدة النقد الاجنبي ما يمكنها من مواجهة ادنى احتياجاتها لاعادة البناء والتعمير, خاصة بعد التخريب الذي اصابها نتيجة الحرب العالمية الثانية. وعن طريق اتحاد المدفوعات الأوروبية تزايدت, بل وتضاعفت, التجارة بين الدول الأوروبية الاعضاء, وبالتالي تمكنت هذه الدول من اعادة النشاط الانتاجي الى الوضع الذي كان عليه قبل قيام الحرب العالمية الثانية وبشكل ادى الى انعاش الاقتصاد الأوروبي واعادة التقدم الذي كادت تفتقده بعض الدول الأوروبية نتيجة الاضرار الجسيمة التي اصيبت بها اثناء الحرب. كما ساعد اتحاد المدفوعات الأوروبي الدول العربية على اعلان حرية تحويل عملاتها للأجانب غير المقيمين في نهاية عام 1958, بالاضافة الى إعلان حرية التحويل بالكامل في فبراير عام 1961, مما ادى الى توافر الاحتياطات النقدية التي ساعدت ايضا على تنشيط التجارة بين هذه الدول واعادة التوازن الى موازين مدفوعاتها (تبلغ التجارة البينية الأوروبية حاليا ما يزيد على ستين في المئة من حجم تجارتها مع العالم الخارجي). لقد كانت فكرة انشاء اتحاد المدفوعات العربي مناسبة للدول العربية خاصة وان نسبة التجارة بينها كانت حينئذ ولا تزال في حدود 8% من اجمالي حجم تجارتها الخارجية, وذلك نتيجة صعوبات المدفوعات التي تقف حائلا دون زيادة هذه النسبة, ومع عدم اقامة صناعات عربية تخصص للسوق العربي وتحل بالتدريج محل السلع الأجنبية المستوردة. وقد اعددت مذكرة بالتفصيل عن هذه الفكرة ــ انشاء اتحاد مدفوعات عربي ـ وعرضت فيها انظمة المقاصة المتعددة الأطراف التي نشأت في مناطق اخرى بالعالم خلال السنوات الأخيرة, وقد قوبلت الافكار الواردة بهذه المذكرة من اعضاء اللجنة النقدية بمجلس الوحدة الاقتصادية العربية بموافقة الاغلبية الذين طالبوا بتحويلها الى مشروع نظام نقدي عربي يعرض على المجلس, كما كتبت عن هذا المشروع اجهزة الاعلام العربي في اغلب الدول العربية, ووافق عليه المسئولون في اغلب البنوك المركزية بالدول العربية, وكان واضحا ان المشروع سيأخذ طريقه الى التنفيذ العملي خلال فترة وجيزة. غير انه بعد عدد من الاجتماعات الدورية لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية في السبعينات تغيرت الفكرة الى انشاء صندوق النقد العربي على غرار صندوق النقد الدولي ودون اسباب واضحة, واستدعاني ذات يوم المرحوم الاستاذ الدكتور حسين خلاف وكان يشرف على رسالتي بمعهد الدراسات العربية العالية التي كانت عن (توحيد اساليب اعداد موازين المدفوعات بالدول العربية) وطلب مني المعاونة في اعداد الدراسات الخاصة بانشاء صندوق النقد العربي, وحتى يمكن ان يكون آلية عملية لتنفيذ مشروع اتحاد المدفوعات العربي, غير ان ذلك لم يتم. وتغير كل شيء!! اقول انه لا تزال الفرصة متوافرة امام الدول العربية لانشاء آلية لتنظيم نقدي اقليمي يؤدي الى انسياب التجارة والخدمات بين الدول العربية دون صعوبات نقدية, وعلى ان يقيمه ويشرف عليه صندوق النقد العربي الذي انشىء اصلا لهذا الغرض, وان يصدر قراره في جلسة خاصة لمجلس محافظي البنوك المركزية العربية, تعقد خصيصا لهذا الغرض في اقرب فرصة ممكنة, وحتى يكون هذا التنظيم تمهيدا عمليا لاقامة السوق العربية المشتركة. واعتقد ان الدعوة مازالت قائمة لمجلس محافظي البنوك المركزية العربية للاجتماع العاجل والتخطيط الكامل لاعداد تنسيق نقدي عربي يتحول فيها بعد الى جانب مهم في عمليات اقامة السوق العربية المشتركة.. دعوة جادة لعمل عربي كبير من مسئولين عرب كبار.

Email