نتائج العولمة وتأثيراتها على شعوب العالم

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يمكن لأحد أن ينكر أن العولمة هي السمة المميزة لعصرنا الحالي, فعملية دمج أسواق بعيدة مع بعضها البعض والعمل على توحيد وتحقيق تعاون مثمر بين الشعوب في مختلف أرجاء العالم أمر ينم عن تغيير ضخم من شأنه أن يؤثر إيجابا على كل من يعيشون على هذا الكوكب, سواء أكانوا الفلاحين في الهند أم الطلبة في لندن أم أصحاب المصارف في نيويورك. ومما لاشك فيه أن مثل هذا التطور الضخم لم يعرف الاستقرار بعد, لاسيما وأنه يبدو صعب المراس ويجد الجميع صعوبة كبيرة في التحكم فيه أو توقع ما سوف ينتج عنه, فالشعوب بدأت تتوقع وتفكر في أسوأ السيناريوهات, وتتوقع أن تفقد الأشياء التي تعتبر ذات قيمة عالية بالنسبة إليها في المستقبل القريب, والبديل لهذه الأشياء لا يرونه إلا بديلا سيئا وغير مناسب. هذا الأمر يدفعنا إلى طمأنة هذه الشعوب بأن العولمة بوجه عام قوة تمثل الخير وليس الشر, فقد شهدت الأعوام العشرون الماضية زيادة دراماتيكية في مستويات المعيشة في عدد كبير من دول العالم, إلا أن كل هذه المكاسب معرضة للضياع في أي وقت. وبالطبع لا يمكن للإنترنت أن تندثر, ولكن الحكومات يمكنها ـ وفي الواقع أنها تقوم بذلك فعلا ـ التدخل لمنع المنتجات والأموال والناس والأفكار من الانتقال بحرية عبر الحدود, فهذه الحكومات بإمكانها أن تبطئ أو تمنع أي تقدم يحدث. وهؤلاء الذين ينتقدون العولمة يقولون إن مشكلة العولمة تتمثل في أنها ينقصها الوجه الإنساني, وربما يحاول هؤلاء أن يشيروا إلى أن فوائد العولمة لن يستفيد منها الناس العاديون. إلا أن الإحصاءات والأرقام تشير إلى عكس ذلك, فهناك دليل قوي ودامغ على أن التجارة تدعم النمو الاقتصادي, فلربما يمكن مقارنة فترة الكابوس المظلم لفترة الثلاثينات وما حدث من طفرة اقتصادية هائلة في أمريكا وأوروبا عندما سقطت الحدود التجارية بين الدول في فترة الخمسينات والستينات. وكما تشير الدراسات الاقتصادية فإن الدول النامية التي تتمتع باقتصادات مفتوحة نمت بنسبة 5.4% سنويا في فترة السبعينات والثمانينات, بينما اقتصر معدل النمو في الدول ذات الاقتصادات المغلقة على نحو 7.0% سنويا. وتؤكد الدراسات أيضا على أن مضاربي وول ستريت والمسئولين الدوليين ورجال الإدارة, ليسوا هم فقط الذين يستفيدون من العولمة, فهناك أصحاب المعاشات الذين يتمتعون بدخل مناسب لأن مدخراتهم يتم استثمارها بشكل مثمر وفعال في الخارج, وكذلك أولئك الذين يعيشون خارج دولهم ويستفيدون من الاستثمار الأجنبي. وكذلك هناك الفقراء الذين يمكنهم شراء وجبات غذائية أرخص وملابس أقل تكلفة تأتي من الخارج, وكذلك مبرمجو الكمبيوتر في كل مكان والذين بمقدورهم أن يبيعوا خدماتهم إلى الشركات الأمريكية, وبالتالي يجنون ما يمكنهم من إطعام أطفالهم وإمدادهم بمستوى مناسب من الخدمات التعليمية والصحية. وها هم أيضا الفقراء في دول العالم النامية الذين يمكنهم أن يستفيدوا من الفرص التي تتيحها مجالات التكنولوجيا والتجارة والتي من خلالها يمكنهم أن يقوموا بتحسين مستويات معيشتهم, وهؤلاء جميعا يمثلون دليلا دامغا على أن للعولمة وجها إنسانيا. بيد أنه في الوقت نفسه لا يمكن إنكار أنه بوجه عام تقل مستويات المعيشة في الدول النامية بكثير عن مثيلتها في الدول المتطورة, ولذلك فإن تخفيف هذا الفقر المدقع في هذه الدول يجب أن يكون أولوية قصوى. وفي هذا الأمر يجب الاستفادة من الدروس التي أعطتها بعض الدول النامية التي أصبح بمقدورها الآن اللحاق بركب الدول الثرية. وفي هذا الصدد يبرز المثال الذي أعطته دولة مثل كوريا الجنوبية, فمنذ ثلاثين عاما كانت هذه الدولة تعاني مستوى الفقر الذي تعانيه دولة مثل غانا اليوم, ولكنها الآن أصبحت في مستوى ثراء دولة مثل البرتغال. وهناك أيضا الصين التي هرب منها 100 مليون نسمة طوال العقد الماضي من جراء أجواء الفقر المدقع, فكيف أصبحت هذه الدولة الآن؟ السؤال الأهم هو: ما الذي تشترك فيه مثل هذه الدول التي حققت هذا التقدم؟ إنه الانفتاح التجاري. هذه هي النتيجة التي توصلت إليها دراسات حديثة قامت بها المنظمة, فالدول النامية التي استطاعت اللحاق بركب الدول المتقدمة هي الدول التي انفتحت تجاريا, وكلما زاد هذا الانفتاح زاد قدر التقدم الذي تحققه. إلا أن التجارة وحدها لا تكفي لإنهاء الفقر, فنجد, مثلا, أن إلغاء الحدود التجارية لن يساعد إذا كانت الدولة المعنية في حالة حرب أو أن المزارعين لا يستطيعون أن يصلوا بمحاصيلهم إلى الأسواق. ولكن في الوقت نفسه نجد أن التجارة عنصر حيوي إذا كانت هناك محاولات جادة لأن ينعم الفقراء بغد أفضل. وفي الوقت نفسه نجد أن هؤلاء الذين ينتقدون التحرير التجاري يزعمون بأن الفقراء داخل دولة ما يخسرون الكثير من جراء أية سياسات تحررية تقوم بها دولتهم. إلا أن الدراسات أثبتت عدم صحة هذا القول, فالفقراء يستفيدون من تسارع خطى النمو الاقتصادي الذي يحدثه التحرير التجاري الذي يعتبر عاملا قويا وفعالا يسهم في خفض حدة الفقر, وسمح لهم بأن يستفيدوا من قدراتهم الإنتاجية ويساعد على زيادة النمو الاقتصادي وعلى تفادي العديد من الأزمات التجارية والاقتصادية, ويخفف من محاولات التدخل القهري من جانب الحكومات. وبالطبع هناك البعض الذين سيخسرون على المدى القصير من جراء العولمة, فعندما تسقط الحدود ستجبر المنافسة الأجنبية الشركات المحلية على التخصص في ما تجيده فقط بدلا من تصنيع منتجات تنتج وتصنع بطريقة أفضل في مكان آخر. وبالطبع سيكون هناك الكثير من الموظفين غير المهرة الذين سيفقدون وظائفهم وسيأخذون وقتا حتى يعثروا على وظائف أخرى. هؤلاء جميعا لا يمكن أن يتم تناسي مشكلاتهم, ولكن متاعبهم هذه يجب أن تعالج عن طريق رفع المستوى التدريبي وتوزيع أكبر لثمار الرفاهية, وليس عن طريق وقف عجلة العولمة, فمصاعب وخسائر فئة قليلة من الشعب يجب ألا تؤدي إلى منع الدولة من حصد تلك المكاسب الأكبر والأوسع والمتواصلة والتي تأتي من جراء التحرير التجاري, فمصالح صناع الشموع لم تسمح بوقف اختراع الكهرباء. فالتحرير التجاري, شأنه شأن التكنولوجيا الجديدة والمتطورة, يحدث قدرا من التغيير, فالبعض منا سيخسر ولكن في النهاية سوف نكسب جميعا. وعلى الرغم من أن منظمة التجارة العالمية ليست منظمة تنموية, فإنها تعمل الكثير من أجل مكافحة الفقر. فالتحرير التجاري ليس غاية في حد ذاته بل هو مجرد وسيلة تساعد على رفع مستويات المعيشة, وهو الأمر الذي ينتشل الناس من هوة الفقر. مايك مور ـ مدير عام منظمة التجارة الدولية

Email