واقع البيت العربي في الوسط الحضري، الصحن، الفسقية،السلسبيل،الحل الأمثل لتخفيف حرارة الجو

ت + ت - الحجم الطبيعي

وسط غابات الأسمنت التي تتصاعد في كل مكان على امتداد المساحة العربية ينبه العديد من المعماريين إلى ضرورة الحفاظ على الطابع العربي المعماري الذي يتميز بالذوق الرفيع والابداع وجمال الصنعة . وفي دراسة للمعماري الأشهر حسن فتحي عن المنزل العربي في الوسط الحضري ونشرت في العديد من المجلات المتخصصة أشار إلى ان من تعاريف الثقافة (انها حصيلة من التفاعل بين ذكاء الانسان والبيئة التي يعيش فيها في عمليات استيفاء حاجاته المادية والروحية في الحياة) وان قسوة ظروف الحياة في الصحراء وطريقة تفاعل البدوي معها وخاصة فيما يتعلق بالعمارة عندما توطن واختار العيش في الحضر ما يعطينا خير مثل لصدق هذا التعريف. ويقول الباحث في دراسته ان معظم الدول العربية تقع في المنطقة التي تمتد من شواطئ الخليج العربي من الشرق إلى شواطئ المحيط الأطلسي في الغرب وبين خطي عرض 10 و35 شمالا وهي منطقة صحراوية في المعظم والغالب ذات مناخ حار جاف. وقد أثرت الصحراء في تكوين ثقافة الرجل العربي وفي تشكيل مسكنه وعمارته. إن حرارة الجو في الصحراء قاسية أثناء النهار كما يشتد فيها وهج الشمس وتقوم العواصف الرملية, لذلك فإنه لا يجد أي راحة في فتح منزله للخارج في مستوى سطح الأرض. إن العنصر الرحيم الوحيد من الطبيعة في البيئة الصحراوية هو السماء التي تعد البدوي بتلطيف الجو في الأمسيات والليالي, ولذلك فهو يفتح منزله للسماء بواسطة الحوض أو الصحن الذي يسمى وسط الدار. إن هذا الصحن يعمل كمنظم للحرارة لان الهواء البارد يترسب أثناء الليل في طبقات أفقية بالقرب من سطح الأرض, ويتسرب إلى الحجرات المحيطة بالصحن ملطفا من درجة حرارة الجدران والأسقف والأرضيات والأثاث, ولما كان هذا الهواء محصورا بين جدران الصحن, فهو يبقى إلى ساعة متأخرة من النهار عاملا على تلطيف جو المنزل كما لو كان خزانا للترطيب. حيث ان التدفئة من المشكلات الهامة التي تواجه الانسان في التصميم المعماري للمنزل في البلاد الشمالية الباردة, بالمثل فإن للتبريد أهمية حيوية في البلاد الحارة الجافة لا تقل عن التدفئة في البلاد الباردة, مع الفارق من كون التصميم المعماري للتبريد يثير مشكلات أكثر تعقيدا عما تحتاجه التدفئة. إن التدفئة لا تحتاج سوى لايقاد نار بسيطة في موقد أو مدفأة أو فرن فخار (1) كما يسهل تنسيق حجم وشكل الحجرات بما يتفق مع الدفء وتقتصر الفكرة في ذلك على تنفيذ أسقف غير مرتفعة وعلى اعداد أماكن الجلوس بالقرب من المدفأة, لذلك يعمل ركن المدفأة بهذه المواصفات إذا كانت الحجرة كبيرة الاتساع والارتفاع. ولكن التصميم يحتاج أن يكون المهندس المعماري ذا المام خاص ببعض العلوم الطبيعية كالحرارة واليروديناميكا والفسيولوجيا إلى جانب توفر الخيال والقدرة على الابتكار. قد تكون المعرفة بهذه العلوم بمفهومها الحديث ليست متوفرة لدى الرجل العربي في السابق, ولكنه كان يحس بالحرارة التي تلهب جلده, لذا كان عليه أن يستنبط الحلول العملية من وحي الهامه, وان مشكلة التخلص من الحرارة الزائدة أصبح أكثر تعقيدا بالنسبة للبدوي عندما اختار أن يتحضر ويستوطن القرى والمدن, لذا كانت هذه المشكلة شغله الشاغل في التخطيط والتصميم المعماري والزخرفة الداخلية. ونظرا لما كان لدى الرجل العربي من ذكريات قوية عن الاحساسات اللطيفة والمؤلمة في احتكاكه بالطبيعة, عندما كان يعيش في مخيماته في الخلاء فقد ساعدته هذه الذاكرة على تحديد رؤية مسائله المعمارية وعلى ايجاد الحلول السليمة لمشكلات الترطيب في عمارته تلك الحلول التي نجدها بالتحليل العلمي مطابقة لأصول العلوم الطبيعية ولنتائج البحوث العلمية الحديثة مع الاستفادة من وجود هذه المشكلات كمبرر أو كعامل مساعد على خلق الظروف التي تتيح ادخال صفة الجمال والمتعة الحسية على الانسان من واقع هذه الحلول. تصميم المنزل العربي لقد أوجد الرجل العربي منذ بداية خبرته بعمليات التحضير نموذجا للمنزل صار تطبيقه بصورة شاملة وباستمرار على مدى الأجيال إلى عهد قريب في مختلف البلاد العربية كما نراه ممثلا في منازل الفسطاط بالقاهرة وفي قصر الأخيضر بالعراق وفي منازل تونس ويتكون جزء المعيشة والاستقبال في هذا النموذج من الصحن, وبوسطه فسقية وإلى بعض جوانبه ايوانات للجلوس يسبق كل منها لوجيا أو بهو مسقوف من ناحية الصحن ومفتوح بكامل عرضه مباشرة, وكان هناك في الغالب ايوانين احدهما الى الشمال والآخر إلى الجنوب من الصحن للاستعمال في الصباحيات والأمسيات حسب مكان الشمس في السماء. ان اللوجيا توفر مكانا للجلوس في الظل وعلى اتصال مباشر بالسماء غالبا في الصباح المبكر وفي المساء, كما توفر الايوانات ذات الدخول العميق أماكن تحمي الاجسام من اشعاعات الحرارة المباشرة من الأرض والشمس كما تحمي العيون من وهج انعكاسات الضوء في ساعات الحرارة الشديدة وسط النهار. ويظهر من دراسة هذا النموذج ان الفكرة في تصميمه نشأت عن محاولة الرجل العربي للحصول على مختلف أنواع احتكاكاته الطيبة بالطبيعة عندما كان يعيش تحت الخيام باعتبار الظل وحركة الهواء في مختلف ساعات النهار. الفسقية من التقاليد المعمارية في المنزل العربي فسقية أو حوض ماء وسط الصحن, وفي الأصل كانت هذه الفسقية تبنى مربعة الشكل, ويقام في أركانها على مستوى واطئ قليلا أربعة مثلثات بحيث يتحول شكل الحوض المربع إلى مثمن, ويستقطع من كل هذه المثلثات جزءا على شكل نصف دائرة بحيث يصبح شكل الحوض وكأنه اسقاط هندسي لقبة ساسانية على خناصر منظورة من أسفل إلى الأعلى. إن شكل الفسقية هذا لم يأت بالصدفة أو لمجرد فكرة شخصية لدى المهندس المعماري, إنما اختبر هذا الشكل لقيمة رمزية, إن المنزل بالنسبة للرجل العربي كان عبارة عن كون صغير ميكروكوزم وباستخدام الرموز والعناصر المعمارية للتعبير عن نظرته الكونية, كان العربي يعتبر الأربعة جدران التي تحيط بالصحن انها الأربعة أعمدة التي تحمل قبة السماء كما يعتبر القبة رمزا للسماء, لهذا ولكي يشد قبة السماء إلى وسط الدار, ويجعل قدسيتها تتسرب إلى الحجرات فإنه عمل الفسقية على شكل القبة الساسانية مقلوبا لتنعكس السماء الحقيقية على سطح المياه في هذه السماء الرمزية, وهكذا توصل الرجل العربي إلى ادخال الطبيعة والكون اللذان كان دائم الاتصال بهما في حياته البدوية في الصحراء في البيت الحضري بواسطة الرموز وتحويل الطبيعة إلى عناصر معمارية. السلسبيل في الأمثلة الأولى من الفساقي, عندما لم يتوفر الضغط الكافي لكي ينبثق الماء من رأس النافورة, ولكي لا يحرم العربي من متعة تلاعب الماء في الهواء, فقد استعاض عن رأس النافورة بالسلسبيل, ان السلسبيل عبارة عن لوحة من الرخام مزخرفة بنحت واطي مموج يمثل حركة الهواء والماء وكانت هذه الألواح توضع مائلة قليلا عن الوضع الرأسي في دخول خاص في الجدار في مقابلة ايوان الجلوس الرئيسي, ليتدحرج الماء على سطحها ثم يسير في قناة مكسية بالرخام إلى أن يصب في الفسقية. إن هذا السلسبيل يمكن أن يعتبر رأس الفسقية الذي وضع خارجها لمعالجة مشكلة عدم توفر الضغط, مما يبرز مرونة كبيرة في معالجة المشكلات وحرية في طريقة التفكير وقدرة نادرة على الابتكار في التصميم تستحق ان توصل المعرفة بها إلى وعي المهندس المعماري الحديث. القاعة استمرت عملية نقل الطبيعة إلى الحضر طريق الرمز سالف الذكر خلال العصور المتعاقبة في تصور العمارة العربية, واننا نجد من القرن العاشر الميلادي ان تخطيط جزء الاستقبال وغرف المعيشة في الأمثلة المبكرة كما كان في الفسطاط قد تحول إلى تصميم القاعة أو صالة الاستقبال مع الاحتفاظ بخصائص النموذج الأصلي كلها من حيث التعبير عن الناحية الكونية بالرمز بالاشكال المعمارية, تتكون القاعة من جزء أوسط يسمى درقاعة يستخدم كبهو دخول وتقع على جوانبه الايوانات المعروفة, ان هذه الدرقاعة ما هي في الحقيقة سوى صحن مسقوف, لذلك فإن أرضيتها كانت تغطى بالفسيفساء من الرخام في أشكال زخرفية هندسية رمزية, وتعمل هذه الأرضية دائما في مستوى أوطأ من مستوى أرضيات الايوانات بمقدار درجة, كما لو كانت الدرقاعة مفتوحة من أعلى إلى السماء كالحوش, حتى لا تتسرب مياه الأمطار إلى ايوانات الجلوس, إن هذه كانت تحدد المكان الذي على الانسان أن يخلع فيه نعليه قبل أن يخطو إلى الايوانات التي كانت تغطى بأكملها بالسجاجيد والأكلمة. وكانت الدرقاعة تتغطى من أعلى بمنور من الخشب يرتفع عن باقي سقف المنزل وكان سقف هذا المنور يعمل على شكل قبة على خناصر يرمز إلى السماء التي تعلو الصحن وكانت هذه السماء الرمزية تنعكس على سطح الماء في الفسقية التقليدية التي تتوسط الدرقاعة بحيث يحس الجالس في الايوان وكأنه متصل بالفراغ الخارجي ينظر إلى الصحن المفتوح. البيت العربي فن معماري أصيل

Email