تحليل اقتصادي: روسيا بين سندان الأزمة الاقتصادية ومطرقة صندوق النقد: بقلم - مغازي البدراوي

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعكس أزمة كوسوفو وموقف موسكو منها فشل المساعي التي تبذلها الحكومة الروسية لدى المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على قروض ومساعدات لروسيا لمواجهة أزمتها الاقتصادية . وقد جاء انسحاب رئيس الحكومة الروسية يفجيني بريماكوف من جلسات الحوار والمفاوضات مع رئيس الصندوق ميشيل كامديسيو في نفس اليوم الذي بدأ فيه حلف الناتو قصف يوغسلافيا ليعكس تماما مدى الضغوط التي تتعرض لها موسكو في هذه المفاوضات, ومدى حجم المساومات والشروط التي يفرضها عليها صندوق النقد الدولي, وضغوطه عليها من أجل اجبارها على الاستمرار في سياسات الاصلاح الاقتصادي التي كانت تسير عليها الحكومات الروسية السابقة منذ ست سنوات مضت. ويعكس هذا أيضا نتائج المباحثات الأخيرة التي أجراها وفد البنك الدولي في موسكو مع نائب رئيس الوزراء الروسي ماسليكوف والتي لم تحقق نتائج ايجابية, ولم يستطع فيها الجانب الروسي اقناع البنك بتقديم مساعدات مالية عاجلة لروسيا, وصرح مسؤولون روس حضروا المباحثات بأن البنك الدولي عاد يفرض على روسيا نفس الشروط التي يفرضها صندوق النقد, وعلى رأسها برامج الاصلاح الاقتصادي التي أعدها من قبل خبراء الصندوق والبنك الدولي لروسيا, كما لمح أعضاء وفد البنك الدولي في المباحثات للجانب الروسي عن قلقهم على مستقبل الاقتصاد الروسي بسبب المواقف السياسية المتطرفة للحكومة الروسية ازاء بعض القضايا الدولية ومنها أزمة الخليج الأخيرة وتطور الأوضاع في يوغسلافيا. ومن الواضح ان الحكومة الروسية ليس لديها استعداد للتراجع عن موقفها, وهذا ما عبر عنه رئيس وزرائها بريماكوف في زيارته الأخيرة لبلجراد حيث قال (لن نتنازل عن موقفا ولن نساوم على مبادئنا تحت أية ضغوط) وقال أيضا (اذا كان صندوق النقد يريد الحديث معنا فليأت الينا في موسكو أو نلتقي معه في أي دولة أخرى غير الولايات المتحدة الأمريكية) . وفي الوقت الذي يلقى فيه بريماكوف وحكومته تأييدا كبيرا من الغالبية الشيوعية في البرلمان الروسي, ومن قطاعات كبيرة من الشعب الروسي الذي يعاني أشد المعاناة من الأزمة الاقتصادية, ولا يثق في وعود صندوق النقد الدولي وبرامجه الاصلاحية التي وضعت أكثر من نصف الشعب تحت خط الفقر خلال السنوات السبع الماضية, في نفس الوقت تلقى سياسات الحكومة الروسية ومواقفها من الغرب, وبالتحديد موقف بريماكوف الأخير وقطعه المباحثات مع صندوق النقد الدولي, اعتراضات قوية من جانب الاتجاهات اليمينية الديمقراطية في روسيا, والتي تؤيد منذ سبع سنوات مضت برامج الاصلاح الاقتصادي التي وضعها خبراء الصندوق والبنك الدولي لروسيا, وخرجت بعض الصحف الروسية, وخاصة تلك التي يملكها بعض رجال الأعمال والمليارديرين اليهود تندد وتهاجم سياسة بريماكوف وحكومته. اليهود يعارضون وقالت صحيفة كوميرسانت ديللي التي يملك الملياردير اليهودي ورجل الأعمال فلاديمير جوسنيسكي حصة كبيرة من رأسمالها ان روسيا خسرت بانسحاب بريماكوف من مباحثاته مع الصندوق في واشنطن ما يقرب من 15 مليار دولار كانت كفيلة بدفع عجلة اقتصادها للأمام, وسداد أجور الملايين من العاملين في الدولة والتي لم يتقاضوها لعدة شهور مضت وهاجمت الصحيفة بريماكوف بشدة قائلة لقد قلنا من قبل عندما عين بريماكوف رئيسا للحكومة ان الشيوعيين عادوا للحكم في روسيا, وانهم جلبوا معهم الفقر والجوع, وحذرنا من ان الاقتصاد الروسي سوف يواجه انهيارا حتميا بسبب سياسة بريماكوف الشيوعي الذي لا يتهاون عن التضحية بمصالح شعبه الجائع الفقير من أجل مصالح وهمية لا يفهمها سوى هو ومن يعملون معه الآن من الشيوعيين, وكلهم أعضاء سابقون في الحزب الشيوعي السوفييتي. وأضافت الصحيفة تقول (ان بريماكوف لن يتمكن من النظر في عيون الفقراء والمسنين من الروس الذين وعدهم بدفع أجورهم قريبا, وحتى لو وافق على شروط صندوق النقد الدولي فليس من المستبعد ان يأخذ الاموال ويعطيها لحليفه ميلوسيفيتش وللصربيين. تصريحات متضاربة وكتبت صحيفة (ازفستيا) التي يملكها الملياردير اليهودي رجل الأعمال بوريس بيرزوفسكي الذي عزله يلتسين مؤخرا من مناصبه السياسية, تقول: (ان حكومة بريماكوف خانت مصالح الشعب الروسي أو خدعته بشعارات كاذبة, وانها ليس لديها أي برامج اصلاحية اقتصادية, وتحاول ان تخادع الغرب من أجل الحصول على المساعدات المالية) . ووصفت الصحيفة تصريحات بريماكوف بأنها متضاربة ومتناقضة, وانه في الوقت الذي يعد فيه الروس بالاصلاحات وسداد الرواتب يذهب ويعد الصرب وميلوسيفيتش بتقديم المساعدات المالية الكبيرة لهم لمواصلة نضالهم, ولا يعلم أحد من أي سيأتي بريماكوف بهذه المساعدات المالية الكبيرة, ان لم يكن على حساب الشعب الروسي الجائع الفقير. سياسة قذرة من ناحية اخرى وصفت مجلة (تايم) الامريكية سياسة بريماكوف مع بلجراد وصندوق النقد الدولي بأنها سياسة (قذرة) وتحتوي على خداع كبير, حيث انه حاول اقناع ميلوسيفيتش بتسوية توقف تصاعد النزاع في البلقان ولو مؤقتا حتى تحصل روسيا على مساعدات صندوق النقد الدولي, ولكن بلجراد رفضت لعبة بريماكوف. ورغم ان هذا الرأي لمجلة (تايم) ليس له دليل من الصحة, وبريماكوف من الأصل علم جيدا ان صندوق النقد الدولي لن يمنح روسيا المساعدات الا بشروط قهرية لن تقبلها حكومة بريماكوف بأي حال من الاحوال الا ان روسيا لم تفقد الامل في المساعدات الدولية التي يرى الكثيرون, وحتى في حكومة بريماكوف, انه لا خروج من الازمة الاقتصادية بدونها, خاصة وان الاستثمارات الاجنبية لن تأتي الى روسيا ولن تعمل داخلها في ظل مقاطعة صندوق النقد والبنك الدوليين لها, وهذه ورقة ضغط اخرى قوية تلعب بها المؤسسات المالية الدولية والغرب ضد روسيا, وبريماكوف وحكومته يعلمون ذلك جيدا, وفي الوقت الذي نجد فيه تشددا وشعارات قوية مضادة من قبل الحكومة ضد سياسات الغرب وموقفه من الازمة الاقتصادية في روسيا, نجد في نفس الوقت ليونة ومرونة في تصريحات رئيس الدولة يلتسين تجاه هذه الجهات خاصة في اعقاب عودة بريماكوف من واشنطن وقطعه المباحثات مع صندوق النقد الدولي, حيث القى الرئيس يلتسين خطابه السنوي في نهاية مارس قائلا (ان روسيا لن تنجر الى النزاع في البلقان وانها تعلق اهمية كبيرة على ابقاء علاقاتها مع الولايات المتحدة الامريكية ورغم وصفه للظروف التي يلقي فيها خطابه بأنها مأساوية بسبب قصف الناتو ليوغسلافيا الا انه اكد على ان روسيا سوف تسير في القرن المقبل الى جانب القوى العظمى, وانها لن ترجع عن الاصلاحات الاقتصادية التي بدأتها في مطلع التسعينات واقامة مؤسسات اقتصاد السوق الحر, وقال (سوف نعيش وفقا للوسائل المتاحة لنا ولن ننجر وراء الشعارات ولن ندخل في منافسات لا نقدر عليها) . الامل وتأتي تصريحات الرئيس يلتسين لتخفف بشكل معقول من حدة تصريحات حكومة بريماكوف, وتعطي املا للغرب ومؤسساته المالية في امكانية جذب روسيا لصفها وقبولها سياسات الاصلاح الاقتصادي المفروضة عليها من خبراء الصندوق والبنك الدوليين منذ سبع سنوات مضت, وينعكس هذا الامل على مبادرة البنك الدولي بارسال وفد رسمي الى موسكو بعد خطاب الرئيس يلتسين مباشرة لاجراء مباحثات جديدة مع الحكومة الروسية, ورغم ان هذه المباحثات لم تحقق نتائج ايجابية مباشرة, الا انها تعطي الامل في عدم انقطاع السبل والتوصل في المستقبل القريب لحلول وسط وشروط مناسبة توافق عليها موسكو وتحصل بموجبها على المساعدات المالية الدولية. ويرى المحللون ان اوروبا وواشنطن لديهما رغبة كبيرة في مساعدة روسيا اقتصاديا وجذبها لصفهم, وانهما لايرغبان اطلاقا في ان تتسبب الازمة في البلقان في عودة روسيا للتشرذم مرة اخرى وخروجها عن طريق الاصلاحات الاقتصادية التي بدأتها بعد انهيار الشيوعية ولهذا فان الوعود الغربية مازالت تنهال على روسيا حتى الان بالمساعدات والقروض وبتوجيه الاستثمارات وبمدها بالتكنولوجيا الصناعية الحديثة, وذلك كله مقابل التقارب والتفاهم في قضايا السياسة الدولية, وخاصة النزاع في البلقان والذي تعطيه اوروبا اهمية خاصة ربما اكثر من واشنطن نفسها نظرا لانه يمس الامن الاوروبي بشكل خاص, وتحاول فرنسا والمانيا بالتحديد, باعتبارهما الاقرب في التعامل مع موسكو, اقناع الحكومة الروسية بالعدول عن موقفها في هذه الازمة واعدين اياها بمساعدات مالية كبيرة تساعدها على الخروج من ازماتها الحالية. وفي الوقت الذي ايدت فرنسا روسيا في موقفها في حرب الخليج فإنها لم تستطع ان تمنحها نفس التأييد في موقفها من البلقان, والذي تقف فيه فرنسا موقفا ربما يكون اكثر تشددا من واشنطن نفسها تجاه الصرب وتجاه النزاع في البلقان, وهذا يرجع لاسباب خاصة ربما تتعلق بالامن الاوروبي الذي يرى فيه الغرب ان الصرب وزعيمهم ميلوسيفيتش يشكلان تهديدا كبيرا عليه. في نفس الوقت يرى محللون اخرون ان الموقف الروسي من ازمة البلقان لاينفصل عن الازمة الاقتصادية التي تعانيها روسيا الان, وان حكومة بريماكوف تحاول بشكل او بآخر ان تستغل هذه الازمة من اجل الضغط على الغرب وعلى واشنطن بالتحديد بهدف تخفيف شروط الصندوق والبنك الدوليين وبهدف تقديم مساعدات مالية اكبر لروسيا, خاصة وان روسيا ليس لديها الان خلاف ازمة البلقان ما تضغط به على الغرب, وانها ليس لديها الان بديل اخر خلاف المساعدات الغربية للنهوض باقتصادها ومواجهة ازماتها الداخلية, وعمليات البناء الاقتصادي داخل روسيا شبه متوقفة الآن لاسباب كثيرة من اهمها الكم الهائل من الديون الداخلية على الحكومة الروسية تجاه الملايين من المواطنين الروس الذين لم يتقاضوا اجورهم لشهور طويلة مضت, وقد نفذ صبرهم, ولم يعدوا يتحملون المعاناة الملقاة على اكتافهم, والحكومة الروسية شبه مفلسة, والبناء الاقتصادي والخطط الاقتصادية لن تؤتي ثمارها قبل سنوات طويلة لن يستطيع الشعب الروسي الصبر لنهايتها, ولا خيار الان سوى المساعدات الغربية, او بديل اخر لاتحمد عقباه, وهو مزيد من التحدي والضغط والتهديد واللعب باوراق يصفها البعض بأنها قديمة ومحروقة منذ الزمن الشيوعي, ولا تصلح الان في ظل النظام الاقتصادي العالمي الحالي الذي تسوده مفاهيم السوق الحر.

Email