مشروع للنهضة: إلى أين من هنا؟ بقلم- عبدالحليم قنديل

ت + ت - الحجم الطبيعي

سؤال على لسان كل عربي مخلص لأمته, فأمم الدنيا تنهض من حولنا, نهضات اقتصادية, ونهضات عسكرية, ونهضات ديمقراطية, بينما نحن نقف محلك سر, وكأن اطرافنا تيبست, وكأن طريق النهضة خان اقدامنا . ولا نستطيع ان نتحدث عن نهضة دون توافر شروطها, فالنهضة مقابل التخلف وبقاء الحال على ما هو عليه, وقمة التخلف هي هدر الامكانية, قمة التخلف هي اتساع المسافة بين الممكنات والحادثات, قمة التخلف: تنمية مشوهة تخدم الخارج ولا تعم آثارها المجتمع كله, وهو ما يحدث لنا ــ مع امم من غيرنا ــ في عالم يمور بسباق الامم على مدارج التقدم والنهضة. ولا نريد ان نعلق عجزنا على اقرب شماعة, فالعالم يتغير بالفعل والدنيا هائجة مائجة لم تستقر بعد على مشهد ختام بالوضوح, العالم يتحول إلى قرية صغيرة بالتطور الطفري في وسائل الاتصال وتدفق المال والاستثمارات وتحرير تجارة السلع والخدمات, وقبضة الكبار تكاد تخنق البشرية, الدول الصناعية السبع الكبرى تملك 74% من الناتج العالمي كله, واقتصاد العالم تسيطر عليه الشركات متعددة الجنسيات, اكبر 500 شركة, تسيطر على 45% من الناتج القومي العالمي, و40 الف شركة عابرة للقارات تسيطر على ثلثي التجارة العالمية وربع النشاط الاقتصادي كله, ودخل 358 مليارديرا يعادل دخل 2500 مليون من الناس أي نصف البشرية تقريبا, و20% من سكان العالم يملكون 85% من ثروة الكون, والــ 20% الاشد فقرا لا يملكون سوى 1.5%, وديون العالم الثالث تزيد عن 1400 مليار دولار, ووصفات (التكيف الهيكلي) لصاحبيها صندوق النقد والبنك الدوليين, أقرب طرق الافقار السريع, مليار نسمة في العالم تحت خط الفقر المطلق (دولار واحد في اليوم) , ونصف البشرية كلها تحت خط الفقر النسبي, واقتصاد الكبار يميل اكثر للاعتماد على قطاع الخدمات في الاتصالات والمعلومات والسياحة والترفيه, ثلثا الاقتصاد الامريكي يعتمد على قطاع الخدمات, والاستثمار في الاوراق المالية اسرع طرق الربح, فقد انفصلت حركة الاموال عن تجارة السلع والخدمات, وحجم تجارة العملات يصل لخمسين ضعف تجارة السلع, والرأسمالي يكسب بالمضاربة 50 مرة اكثر مما لو توجه للانتاج وتقديم الخدمات, وبين اكبر 500 شركة كونية يوجد 127 بنكا ومؤسسة مالية, ومع التطور الهائل في ثورات العلم والتكنولوجيا والمعلوماتية والاتصالات (تنفق امريكا سنويا 300 مليار دولار على التطوير التكنولوجي والبحث العلمي) , مع التطور اصبح حجم الوحدات الصناعية يميل للصغر مع توحش حجم الاحتكارات المسيطرة, اكبر 500 شركة كونية تستخدم 35.2 مليون عامل أي 0.57% فقط من الايدي العاملة في العالم, والنتيجة: بطالة مزمنة, في دول الاتحاد الاوروبي حاليا 18 مليون عاطل, وفي الطريق 15 مليونا اخرين, وادت وحدانية السوق إلى تراكم مهول للثروات في ايدي القلة, 1% من الامريكيين يملكون 40% من اجمالي الثروة القومية, وتكتمل دورة السيطرة بانفاق 250 مليار دولار سنويا على الاعلان مع 500 قمر صناعي دوار في الفضاء القريب, وتسيطر امريكا وحدها على 65% من المادة الاعلامية في العالم, وهذه هي الاداة الرئيسية في .. عولمة (الدنيا) أو (أمركتها) في الحقيقة, والادوات الاخرى موجودة ويضاف اليها, فأمريكا تسيطر على حلف الاطلسي الذي يتوسع شرقا, وتسيطر على مجلس الامن الدولي بعد انهيار المعسكر السوفييتي, ولها النصيب الاوفر في صنع قرارات صندوق النقد والبنك الدوليين, واضيفت لها ــ من اول يناير 1995 ــ (منظمة التجارة العالمية) بسلطاتها الواسعة في الضبط والقضاء وتنفيذ اتفاقات الجات لتحرير تجارة السلع والخدمات والاموال, وهكذا توفرت لامريكا قوة قهر غير مسبوقة في فرض ديكتاتورية السلاح وديكتاتورية الثقافة وديكتاتورية السوق معا, ديكتاتورية مركبة بسطوة الاعلام وتفوق الاحتكارات والتكنولوجيا واستئثار لغالب القوة العسكرية والنووية, وفي المقابل: دنيا واسعة تتقارب بينها المسافات, وتحتدم فيها التناقضات, وأمم تبحث لنفسها عن موطىء قدم في الزحمة. نعم, توفرت لامريكا والغرب ــ عموما ـ كل هذه السلطات الكونية, ولم يمنع ذلك من نهضة الاخرين متى توفرت شروطها, اليابان مثال قديم, وهي نموذج مختلف عن بنية الاقتصاد الغربي رغم الشعار الرأسمالي المرفوع, اقتصاد اليابان انتاجي في غالبه بينما اقتصاد امريكا اميل الى الرأسمالية المالية, والصين احدث مثال, فالصين تحقق اعلى معدل نمو اقتصادي في العالم كله (وصل لاكثر من 13% في عشرين سنة متصلة) . والمشترك: دور الدولة الحاسم في اليابان قامت الدولة بالدور الجوهري في نقل وتوطين التكنولوجيا حتى اعلنت استقلالها تكنولوجيا سنة 1981, ويبدو الاقتصاد الياباني - رغم اختناقات عابرة ـ محصنا الى حد كبير من اختراقات الخارج, فنصيب اليابان من تدفقات الاستثمارات الدولية اليها لا يزيد عن .04% والصين مثال مختلف, الدولة في الصين اكبر شريك اقتصادي بالقطاع العام في السوق, ومع ذلك يصل نصيب الصين من اجمالي الاستثمارات الدولية الى 40% وفي الصين واليابان تأكد دور الثقافات في بناء الاقتصاد, فالجماعية موجودة مع المبادرة, والاعتماد على الذات موجود مع انفتاح مقصود ومخطط له, وتتمتع الصين بمزايا اضافية, فهي عضو قديم في النادي الذري وقوتها البشرية هائلة وقابلة لتطوير بلا حدود, ووحدتها القومية تعززت باضافة (هونج كونج) و(ماكاو) قريبا وهي لا تقبل المساومة في هدف استعادة تايوان, والجاليات الصينية الثرية المنتشرة خارج الحدود وعبرها تضيف الى قوتها, ونمور شرق آسيا مثل ثالث مشهور, وازماتها المالية لن تجذبها للخلف, فقد جاوزت حد النهضة الصناعية والتكولوجية بطريقة لا رجعة فيها, المشترك الاعظم في كل التجارب, دور الدولة في النهضة وهو ما نجده ايضا في الهند وباكستان, الهند متوسطة القدرة الاقتصادية كسرت احتكاك التكنولوجيا الذرية والصاروخية والالكترونية والفضائية, وباكستان الافقر كسرت احتكار التكنولوجيا الذرية والصاروخية والتطور قد يبدأ في مجالات السلاح وسرعان ما يتمدد بالطبيعة ـ والعدوى ـ الى كل المجالات, وهذه فقط مجرد امثلة, المقصود: ان لا احد ينهض بإذن ولا احد ينهض بخضوع لفروض القوة السائدة ولا احد ينهض حسب كراسة الشروط والمواصفات, فلكل امة طريقها الخاص للنهضة مهما تواصلت المشتركات, ولكل امة طريقتها في القفز على سطح الدنيا بدلا من الغرق في قيعانها واقبيتها المظلمة. ونحسب ان الامة العربية تريد النهضة وتستطيعها, المهم ان يتغير حالها وتضع لنفسها علامات الطريق وأول الطريق, ألا نبقى على ما نحن عليه فالعرب ـ في الغالب ـ سقطوا اسرى لوصفات التخلف النافية لدور الدولة الايجابي والدولة هنا عنوان للارادة المستقلة, وفي غياب الرغبة في الاستقلال توالت الكوارث, فالعرب في اغنى مناطق العالم بمواردها الطبيعية ومزاياها الجغرافية والبشرية, وفرصة التكامل قائمة بين اقطار البشر والماء واقطار البترول والمال, ومع ذلك ظل الحال يتدهور الى الاسوأ, فجوة الغذاء تتسع, والعرب يدفعون 20 مليار دولار سنويا فاتورة لاستيراد القمح وحده و120 مليون عربي تحت خط الفقر, والامية الابجدية فاشية ومتوسط النمو في دخول الافراد في انخفاض متصل, في الستينات كان المعدل 6% وفي التسعينات تدهور عموما الى 2.5% وفي بعض الدول نزل المعدل الى ما تحت السفر بكثير وديون العرب وصلت الى 220 مليار دولار, وفوائض العرب التائهة في الغرب اكثر من 750 مليار دولار, ومعدل النمو الاقتصادي في المتوسط اقل من 3% سنويا والاستثمارات المشتركة متدنية, ونسبة التجارة البينية اقل من 10% حتى بعد بدء تطبيق منطقة التجارة الحرة العربية, والانفاق على البحث والتطوير لايزيد عن 600 مليون دولار سنويا (اقل من .14% من الناتج القومي الاجمالي) و70% من العرب تحت خط الفقر المائي, وفجوة الامن تتسع رغم انفاق مهول على شراء السلاح, دولة عربية واحدة انفقت في الثمانينات 80 مليار دولار لشراء السلاح والرقم يزيد عن نفقات الدفاع في بريطانيا وفرنسا والمانيا خلال الفترة نفسها, والمشهد في عمومه يثير الاسى باختلالاته وتناقضاته, وكأن نهضة الدنيا قد تقطعت بها السبل والانفاس عند حدود الوطن العربي, فالقرار الاقتصادي يصنع لنا غالبا ولا نصنعه, والقرار السياسي والامني محجوز للغير, والحصار الامريكي يختص العرب في غالب الامور, وطاقة الامة على التوحد والنهوض تضيع في سراديب الاستسلام التائه, والنتيجة: مزيج من الخضوع والمهانة والرعب, فقد تفرق العرب ايدي سبأ, وظلت الارض محتلة والحقوق مهدورة, والارادة ضائعة والرعب النووي حكرا لاسرائيل وحدها في المنطقة, فاسرائىل عندها 300 الف رأس نووي وعندها صواريخ بعيدة المدى قادرة على الوصول لابعد مدينة عربية, ودعاويها وخططها الشرق اوسطية تستلب الوجود العربي من ذاته, والبعض انسحبوا من ساحات النزال مع اسرائيل, فالهزيمة ـ باسم السلام ـ هي خيارهم الاستراتيجي, واصطنعوا لانفسهم بطانات من المتآمرين والمتصهينين وبدأوا النزال مع الشعوب بالافقار والتخلف, وبالاستبداد والعنف والقمع, وروجوا لمسوح ديمقراطية مزيفة وتعددية مشوهة لا تخفي قبح احتكار السلطة, وليس أسوأ مما نحن فيه إلا ما سنكون عليه لو ظلت الحال نفسها, وهو ما يجب أن يحفزنا لتحدي الهزيمة باستجابة النهضة. ومشروع نهضتنا المقبلة لا يبدأ من فراغ, ولا يدور في الفراغ, فهو ثمرة التسليم بوجودنا القومي وهويتنا الحضارية وأشواقنا في اللحاق بالعصر, وهو خلاصة تجارب النهضة السابقة بمكاسبها وعثراتها, ولا يعصب عينيه فلا يرى متغيرات الدنيا الفوارة من حولنا, ولا يصد نفسه بالعقد عن تجارب الآخرين, ولا يقع بالاغراء والغواية في مصائد الآخرين, ويقوم - فيما نتصور - على سبعة قواعد رئيسية حاكمة ومتداخلة ومترابطة هي: الاستقلال, والوحدة, ومجتمع الكفاية والعدل, والعلم والتكنولوجيا, والديمقراطية كاملة, والتجديد الحضاري, والسعي لبناء وقيادة (تحالف المستضعفين) من حضارات وشعوب الشرق والجنوب. فلا نهضة لنا - أولا - بدون اطراد السعي إلى (الاستقلال الشامل) , والاستقلال غير الانعزال, فالعزلة لم تعد ممكنة, ولا هي هدف مرغوب, كان الاستقلال مطلوبا للتحرر من سيطرة فرضت قرونا بقهر السلاح, وكان مطلوبا للتحرر من سيطرة على الموارد والثروات والقرارات, وكان الاستقلال مطلوبا للتحرر من عدوان على الهوية الذاتية قوميا وحضاريا, كان الاستقلال مطلوبا بجوانبه السياسية والاقتصادية والحضارية, وهو اليوم أكثر الحاحا بتطور الظروف عدم التكافؤ في قوة السلاح يديم سيطرة أجنبية حاضرة بغلظة, وعدم التكافؤ في قوة الاعلام يسحق الذوات الثقافية على نحو غير مسبوق في ضراوته وجبروته, وعدم التكافؤ في قوة الانتاج والتطوير - مع تداعي معاني الشرعية الدولية - يجعل ممكناتنا وأحلامنا في التقدم عجينة طيعة في يد الكبار المسيطرين, والاستقلال الشامل رد على هذا كله, انه يعني - أولا - تحرير الأوطان من غصب الغير, ويعني - ثانيا - تحرير الاقتصاد من سطوة الغير, ويعني - ثالثا - تحرير الثقافة من الاستلاب والذوبان والانغلاق في الوقت نفسه, والاستقلال يعني الاكتساب الواعي لعناصر القوة ومزاياها, ونحن أقوياء بالأسباب ضعفاء بالنتائج, نملك كل مصادر القوة وتضيع منا في آن, ننفق أكثر من غيرنا على شراء السلاح ونطلب الحماية, وتلك نتيجة منطقية للأسف, فالذي يشتري السلاح ليس كالذي ينتجه, ويملك العرب فرصة تصنيع السلاح لو تكاملت مواردهم المالية وخبراتهم البشرية الوافرة, والفرق: قرار بالاستقلال بصناعة السلام, ويملك العرب فرصة الاحتشاد على هدف يجمعهم ويعزز استقلالهم, فوجود الكيان الصهيوني خطر يهدد الجميع, وتحرير فلسطين هدف لا يتم بدون جهد جماعي عربي متصل لعقود طويلة مقبلة, تحرير فلسطين يحرر الأمة من قيودها ويطلق طاقاتها الحبيسة إلى أبعد الآماد, وليس المطلوب أن نكون في حروب دائمة مع اسرائيل, المطلوب: أن نكون في قطيعة دائمة, المطلوب: نظرية السنطة وذيل الحصان, حروب نظامية في الوقت المناسب, وحروب فدائية استشهادية في كل الأوقات, وثبات متصل على الأرض المقدسة التي لا يجوز لجيل أو نظام أن يفرط فيها بذرة تراب, ففلسطين كلها وقف ديني وقومي وحقوق لا تقبل التصرف. ولا نهضة لنا - ثانيا - بدون الوحدة العربية, فلم تعد الأمة العربية في حاجة لأن تثبت حقيقة الوحدة بين شعوبها, يكفي ان الامة العربية تملك وحدة اللغة التي تصنع وحدة الفكر والعقل, ويكفي ان الأمة العربية تملك وحدة التاريخ التي تصنع وحدة الضمير والوجدان, ويكفي ان الأمة العربية تملك وحدة الأمل التي تصنع وحدة المستقبل والمصير, وحدة التاريخ تربط الماضي بالمستقبل, ووحدة اللغة تصنع وحدة الثقافة والعقلية الجماعية, ووحدة الألم والأمل تشكل وحدة الأساس النفسي الاجتماعي ووحدة المقاومة المشتركة لمشاريع الهيمنة والعدوان الخارجي, ووحدة الأمة ليست مجرد استعادة لأوضاع كانت عليها, ولا هي مجرد رفض مشروع لتجزئة فرضت علينا فرضا مع عهود الغزو الاستعماري, انها حركة تغيير ونهوض سياسي واجتماعي وحضاري شامل, وهي ثورة تبلغ هدفها بخلق سلطة سياسية موحدة في الوطن العربي, والوحدة القومية ليست مودة, فات أوانها, فبواعثها راسخة بحقائق الجغرافيا والتاريخ التي لا راد لمقتضياتها, ثم اننا نعيش في عصر يقظة متصلة للقوميات, قبل الايدلوجيات وفوق ركامها. الدليل ما حدث من تفكك الاتحاد السوفييتي آخر امبراطوريات الايدلوجيا, وما حدث في ألمانيا التي توحدت, وما يحدث في الصين التي تسترد وحدتها القومية كاملة, وما يحدث في الدنيا كلها من صحوة للقوميات والثقافات, ونحن أيضا نطلب هدف وحدتنا القومية ونسعى إليه بأساليب تتكافأ شرفا مع الغايات, ومن ثوابتنا على الطريق دور مصر (70 مليونا من 280 مليون عربي عند خط بداية القرن 21) كدولة نواة, التأكيد على أولوية الإدارة السياسية بدمج قطرين عربيين أو أكثر على نحو سلمي اختياري في نواة أكبر للوحدة, والتأكيد على طبيعة الوحدة التامة مع تدرج الاشكال والصياغات الدستورية, والتأكيد على بعث الحركة القومية والاتحاد الطوعي للمنظمات الشعبية الساعية للوحدة وخلق مجتمع الوحدة العربية قاعديا بدمج أنشطة وقطاعات واقتصاديات واجتماعية نوعية وأهلية واطار للتعبير القومي الواحد, ونحن لا نتغافل عن حقيقة وجود الدولة أو الدول القطرية التي أصبحت عبئا على نفسها, ولم تعد قادرة على مواصلة الشوط, ثم ان العالم يتجه الى صناعة التكتلات والتجمعات الاقتصادية الكبرى, والوحدة العربية تجمع طبيعي كبير لا مستقبل لنا بدونه, وكل خطوة في اتجاهه تزيد من مقدرتنا على تقليص ظواهر عدم التكافؤ في علاقتنا بالكبار. ولا نهضة لنا ــ ثالثا ــ بدون مجتمع الكفاية والعدل, الكفاية في الانتاج شرط النمو الاقتصادي, والعدالة في التوزيع تحول النمو الى تنمية تستنهض طاقات المجتمع بأكمله, والتنمية التي تحقق الكفاية والعدالة تستحق وصف التنمية المستقلة, فاستقلال التنمية ليس في مجرد اعلان التمرد على قواعد عدم التكافؤ في نظام دولي يصوغه الكبار ضمانا لمصالحهم وتعظيما لاحتكاراتهم وأرباحهم المنهوبة, استقلال التنمية يعني التحرر من السيطرة الاقتصادية والاجتماعية والحضارية, استقلال التنمية يعني السيطرة الوطنية على القرارات وحرية اختيار الاهداف وحرية استخدام الوسائل, وقد زادت ظواهر عدم التكافؤ في النظام الدولي مع قيود اتفاقات الجات المضافة لشروط ووصفات صندوق النقد والبنك الدوليين, والهدف: تحطيم ما تبقى من حصانة الاسواق القومية, وتحويل الدولة الى حارس مطيع لاحتكارات الكبار في العالم, وهو ما يعني ان دور الدولة المركزي في تحقيق التنمية المستقلة أصبح مطلوبا أكثر, وتتأكد قدرة الدولة على التدخل الفعال بقدر وطنية سلطتها وكفاءتها وتمثيلها الحر لأغلبية الشعب, دور الدولة مطلوب في قيادة الاقتصاد بكافة قطاعاته العامة والخاصة والتعاونية, ووسائلها: التخطيط المركزي والتنفيذ اللامركزي والمزج بين آليات التخطيط وآليات السوق, وتوجيه الاستثمارات والحوافز والروافع الاقتصادية لبناء قاعدة صناعية تكنولوجية متقدمة, ولا قيد على تطور أشكال الملكية جميعها مادامت تحقق وظائفها الانتاجية والاجتماعية بكفاءة والملكية في عقيدتنا الحضارية وظيفة اجتماعية, الملاك مستخلفون لا أصلاء, وملكية الافراد متاحة دون احتكار ولا تقديس, والتأميم حق الجماعة متى توفرت ضروراته, والاستثمارات الاجنبية مرغوبة في حدود الاهداف والخطط الوطنية, ولا يمكن لتنمية ان تدوم وتطرد بدون تنمية البشر والتشغيل الكامل للطاقات وخلق الكوادر القادرة واعلاء مبدأ تكافؤ الفرص في حقوق العمل والعلم والصحة والسكن والضمان الاجتماعي, وتوسيع قاعدة الانتاج واستنفار الطاقات الاهلية وعدالة التوزيع وتذويب الفوارق بين الطبقات وتعظيم عوائد العمل في مقابل وظائف الملكية, وطبيعي ان إطراد التنمية يتطلب نوعا من الاعتماد الجماعي العربي على الذات واشباع الاحتياجات الأساسية. ولا نهضة لنا ـ رابعا ــ بدون العلم والتكنولوجيا, فقد اتسعت هوة التخلف التكنولوجي في بلادنا, والتطوير في التكنولوجيا والبحث العلمي لم يعد مجرد عنصر مساعد في دفع التنمية, فقد انقلبت الاحوال تماما في الخمسين سنة الاخيرة من ثورات الالكترونيات والهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية وعلوم المواد والفضاء والطاقة النووية والليزر, والزيادة في القيمة المضافة لاقتصاد امريكا ــ مثلا ــ تعود في 5.87% منها الى تطور التكنولوجيا في مقابل 5.12% فقط لنصيب الاستخدام الرأسمالي والعمالة, وهو انقلاب على نمط اقتصاد وتصنيع قديم يعتمد على ثلاثية رأس المال والعمالة والمواد الخام, وأزمتنا الامنية والاقتصادية الراهنة تعود في غالبها الى تخلفنا العلمي والتكنولوجي, فالنمط الغالب على علاقتنا بالتكنولوجيا هو الاستعارة أو تسليم المفتاح, ولا يمكن القفز على فجوة التخلف التكنولوجي بدون دور مركزي لدعم الدولة, ايضا لا يمكن تحقيق نهضة بدون اختيارات تكنولوجية ملائمة في مجالات تخدم طفرة الانتاج الزراعي والصناعي والموارد المائية وتطوين تقنية المعلومات وصنع شرائح السيليكون وكسر احتكار تكنولوجيا الفضاء والذرة وصناعة القنبلة الذرية العربية, والخطوة الاولى: تعبئة الموارد المالية والعلمية وكلها متوافرة وممكنة التكامل في اطار عربي شامل, وانشاء مدينة بحوث عربية ومؤسسة لأبحاث الفضاء وهيئة عربية للطاقة الذرية وجامعة لعلوم المستقبل, وحفز الانفاق على التعليم والتطوير والبحث العلمي وزيادته الى 3% من الناتج القومي. ولا نهضة لنا ــ خامسا ــ بدون الديمقراطية كلها للشعب, فالديمقراطية صمام أمان ضد انتكاسات النهضة الدورية, والديمقراطية مدرسة الشعوب, الديمقراطية تقدم الاختيارات والبدائل كلها للناس وتطور مقدرتهم على المعرفة وادراك الحقائق, ولا ديمقراطية حقيقية بدون ضمان الحقوق في التعدد السياسي والفكري والنقابي والاهلي, ولاديمقراطية حقيقية بدون ضمان التداول, ولاديمقراطية حقيقية بدون فصل وتوازن قوى السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية والرقابية, ولاديمقراطية حقيقية بدون تأكيد الانسان وحرياته السياسية والاقتصادية والدينية كافة, فالسياسة لايجب ان تتحول الى حرفة لجماعات منعزلة, فلا ديمقراطية حقيقية تفصل السياسة عن المجتمع, لاديمقراطية حقيقية مع تفشي الأمية, وحرية تذكرة الانتخابات مرتبطة بحرية رغيف العيش, وحرية الكلمة والتعبير هي ام الحريات, ولاحرية للكلمة بدون تحرير وسائل الاعلام كافة من الوصاية, وحريات الحركة الجماهيرية اكبر ضمان ضد انتكاسات الديمقراطية, وتزدهر الديمقراطية كلما كانت حركة الجماهير في الشارع اقوى تأثيرا واعلى صوتا من منابرها التمثيلية في البرلمانات المنتخبة. ولا نهضة لنا - سادسا - بدون تجديد الذات الحضارية, فالحضارة او الثقافة هي اسلوب حياة ومعنى شامل يتضمن تقاليد النظر للكون والوجود والحياة والانسان والافكار والقيم وعلاقات الانتاج وطرائق التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي, ولكل حضارة او ثقافة خصوصية لاتفهم بمعزل عن تكونها التاريخي, وحضارتنا العربية الاسلامية هي ملك ومن صنع ابناء امتنا جميعا مسلمين ومسيحيين, وقد تعرضت حضارتنا لصنوف من المحو والتشويه مع عهود السيطرة الاستعمارية, وماحدث لحضارتنا وقتها يسير لو قورن بالتحديات الماثلة الآن, فالشركات متعددة الجنسيات تقوم بتدويل رأسمالية الغرب, والتطور الهائل في وسائل الاتصال - مع نفوذ القطبية الامريكية - يهدد بتدويل ثقافة الغرب, والهدف: توحيد الكل بدعوى الحضارة العالمية الواحدة, ونحن لاندعو لانغلاق او قطيعة حضارية, نحن ندعو لتفاعل حوار متكافىء من مواقع الاستقلال, والاستقلال يبدأ بنفي خرافة وجود حضارة انسانية شاملة ووحيدة, فقد كانت هناك دائما حضارات تسود, وحضارات تتنحى الى حين, لكن دورات الصراع والتفاعل الحضاري كانت تسمح دائما للحضارات الاصلية بالازدهار مجددا, وحضارة الغرب تسود الآن, بينما حضارتنا في وضع المتنحى لا الميت, وليس المطلوب ان نغلق الابواب والنوافذ في وجه حضارة الغرب, بل ان نستفيد من انجازاتها الضخمة ونهضتها ونتمثلها في اطارنا القيمي الثقافي الحاكم, فتجديد الذات هو الاساس, ووصل ما انقطع مع مواريثنا الحضارية مطلوب, وهو ما لايتعارض مع الانفتاح على حضارة الغرب وعلومه الطبيعية والاساسية وانجازاته التكنولوجية بالذات. ولانهضة لنا - سابعا - بدون باندونج جديدة مدينة اندونيسية شهدت اول لقاء لقادة العالم الثالث, كانت باندونج في الخمسينيات عنوانا رمزيا لحركة عدم الانحياز, ولم يكن عدم الانحياز موقفا سلبيا في عالم الاستقطاب من هنا او من هناك, ثم توالت وقائع الدراما العاصفة عند القمة, وزال الاستقطاب الثنائي بتفكيك الاتحاد السوفييتي, وحلت القطبية الامريكية وحدها حتى اشعار آخر, وتدهورت ادوار حركة عدم الانحياز باثر من تغير البيئة الدولية وبأثر من زوال قادتها التاريخيين وتراجع حركة التحرر في العالم الثالث, والمطلوب الآن: الحفاظ على جوهر عدم الانحياز مع ابداع صيغ جديدة ملائمة لما جرى من تغيرات, وامكانات الحركة على المسرح واسعة, فزوال الاحتكام لخيارين جعل الامم تعود الى ذواتها لتطلب المدد والعون, والنتيجة: عالم جديد يكتسب حريته, وتعدد متزايد في اختيارات النهضة مع وجود عناصر مشتركة بطبيعة الاشياء, وكثافة السيطرة الغربية مع عدم التكافؤ وسيادة الظلم كلها تستنفر ممكنات المقاومة, ولدى العرب - بالذات - امكانات حركة دولية غير مسبوقة, فلهم مخزون الانتماء الى عالم اسلامي تتعاظم مفرداته السياسية وموارده البشرية والطبيعية, وهم يستطيعون - لو ارادوا - تحويل شعار التضامن الاسلامي الى صيغ فعالة حضارية واقتصادية في تحالف شامل للمستضعفين يضم حضارات وشعوب الهند والصين وافريقيا وامريكا اللاتينية, وهذه نقطة البدء نحو باندونج الجديدة.

Email