آفاق اقتصادية: حول التأمين في الاقتصاد الإسلامي:بقلم- د. محمد ابراهيم الرميثي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحقيقة ان التأمين يختلف عن القمار اختلافا جوهريا في طبيعة كل من النشاطين وفي شتى جوانبه (أي من حيث المبدأ والنظام والعقد). وبما أننا قد أوضحنا في الحلقة الماضية طبيعة القمار فإننا نوضح الآن طبيعة التأمين ذاته . فالتأمين في الحقيقة يهدف إلى ادارة الخطر وتخفيفه أو إزالته من العملية الانتاجية والمعاملات التجارية والاستثمارية في حالة المستثمرين, وكذلك ادارة الخطر بالنسبة للقطاع العائلي كمستهلكين وازالة الخطر المتوقع حدوثه على الإنسان ذاته في حالة التأمين على الحياة مثلا. وفي كل الأحوال يهدف التأمين إلى ادارة الخطر وتشتيته وتوزيعه على كافة المؤمنين (الذين يدفعون أقساط التأمين) وهذا التشتيت للخطر لم يأت من فراغ, وإنما تم نتيجة أبحاث علمية وأسس وقواعد علمية متينة أساسها علوم الاحتمالات والاحصاء والقياس والتنبؤ والمنطق وبحوث العمليات والاقتصاد وادارة الأعمال, فكافة هذه العلوم مجتمعة تتآلف في قالب متجانس لتخرج لنا بعلم التأمين وادارة الخطر وتخفيض احتمال وقوعه على الفرد أو المنشأة الواحدة وتشتيته وتوزيعه على شريحة كبيرة من الأفراد والمنشآت. فلو وقع خطر ما (كارثة حريق مثلا) على منشأة ما وكانت هذه المنشأة مؤمنة فسوف يتم تعويضها عن ذلك الخطر واعادة بنائها من جديد أو بناء منشأة أخرى بديلة, وهنا نجد احتمال الخطر يتشتت فيدفعه كافة المؤمنين إلى صاحب المنشأة المنكوبة مع انه في الحقيقة وقع على منشأة محددة بعينها. ويتم الدفع بشكل منظم وبناء على أسس وقواعد علمية والتزامات وشروط محددة في عقد التأمين بالطبع. في الوقت ذاته نجد ان تلك المنشأة إذا لم تكن مؤمنة فإن صاحبها قد ينتهي به المقام إلى ان يصبح فقيرا بعد أن كان تاجرا, حيث انه قد لا يستطيع ان يواجه تلك الكارثة بمدخراته الفردية. ومن هنا نجد ان احتمال الخطر يتركز عليه ذاته ولا يتوزع كما في حالة التأمين, ومن هنا يصبح التأمين ركنا هاما من أركان الاقتصاديات الحديثة حيث يهدف إلى ادارة الخطر وتشتيته وخلق الأمان والاطمئنان لكافة القطاعات الاقتصادية, وفي شتى المجالات. وتجدر الاشارة هنا إلى ان المقامر المحترف في زمننا هذا قد يلجأ إلى بناء قياساته وتنبؤاته على أسس علمية كذلك, وليس بالطرق العشوائية كما كان عليه في الماضي, مستفيدا مما توصل إليه العلم الحديث من طرق ووسائل حديثة في التنبؤ والقياس. وهذا في الحقيقة وجه شبه كبير بين القمار والتأمين, إلا ان أوجه الاختلاف تبقى قائمة وأعم وأشمل, فأوجه الاختلاف تشمل في الحقيقة النية والأهداف والمقاصد والغايات والمبدأ والنظام, وكذلك طبيعة العقود والالتزامات في كلا النشاطين, فهذه الوجوه التي ذكرناها تبقى مختلفة اختلافا جوهريا بين التأمين والقمار. التأمين والربا: من الطبيعي جدا ان تتجمع رؤوس أموال ضخمة لدى شركات التأمين وذلك لعدة أسباب: أ ــ دخول أطراف جدد بشكل مستمر إلى شركات التأمين (كمؤمنين) ب ــ عادة ما تكون الأقساط المجمعة أكبر من الحد الأدنى المطلوب كالتزامات على شركات التأمين بشكل مستمر. ج ــ تكرار تحصيل اقساط التأمين بشكل دوري راتب. وتقوم شركات التأمين في العادة بإيداع الاموال المتراكمة لديها في البنوك الربوية أو تشتري بها سندات ربوية ونادرا ما تشتري اسهما عادية. وذلك بهدف الحصول على الفوائد المصرفية المضمونة والخالية من الخطر (سوى الخطر العارض) . غير انه في الحقيقة من الممكن جدا ان تقوم شركات التأمين بوظائفها على الوجه الاكمل دون ان تودع تلك الاموال الفائضة في البنوك مقابل فوائد مصرفية ربوية. اي بمعنى آخر ان ايداع الاموال الفائضة في المصارف مقابل فوائد ربوية لايدخل في صميم نظام وعمل شركات التأمين وإنما هو جزء مكمل من الممكن جدا الاستغناء عنه وتعويض ذلك باستثمار تلك الاموال الفائضة في قنوات استثمارية تتفق وأحكام ومبادىء الشريعة الاسلامية. ومن هذا المنطلق فإننا في دراساتنا للتأمين يجب ان نركز على طبيعة النظام ذاته وليس على طرق استثمار الاموال الفائضة حيث ان ذلك قد يعتبر موضوعا منفصلا. أما شبهة الربا من حيث ان الفرد أو المؤسسة (المؤمن) قد يقبض من شركة التأمين اكبر بكثير من الاقساط التي قام بدفعها. وقد لايقبض شيئا طوال فترة التأمين فهذا واقع حقيقي بالفعل. ولاسبيل في اعتقادنا لإزالة مثل هذه الشبهات سوى في تطوير الانواع الاولى من التأمين التي ذكرناها في بداية حديثنا والتي تلتزم بقواعد وأسس ومبادىء وأحكام الشريعة الاسلامية مستفيدين مما توصلت اليه العلوم الحديثة في علم التأمين وادارة الخطر من مستوى متقدم. اما رفض التأمين بكامله فهو لايحل المشكلة بل يزيدها تعقيدا.

Email