رؤية: استمرار نمو الاقتصاد الامريكية منع حدوث كارثة عالمية

ت + ت - الحجم الطبيعي

ثمة مفارقات متناقضة أعقبت الانهيار المالي في آسيا. ففي الوقت الذي تراجعت معدلات الادخار الأمريكية حافظ الاقتصاد الأمريكي, دون الاقتصادات الأخرى, على معدلات نمو جيدة خلال الربع الثالث من العام ,1998 واستطاعت الولايات المتحدة بفضل ذلك النمو والأداء القوي لقطاع الواردات استعادة موقعها كقائد اقتصادي وحيد لبقية دول العالم, لعب دور المنقذ للاقتصاد الدولي بأكمله. إلا أن تلك القيادة جاءت, ويا للعجب, نتيجة لتسجيل معدلات الادخار الأمريكية نتائج سلبية تؤثر من دون شك على مجمل العملية الاقتصادية على المدى الطويل. كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي الجزء الوحيد من العالم الذي شهد معدلات نمو جيدة خلال الربع الثالث من العام ,1998 حيث سجل اقتصادها نموا أقل بقليل من 4%. وعادت لأسواق المال الحيوية التي افتقدتها بعد الأزمات التي تعرضت لها إبان فصل الخريف, وارتفعت دخول الامريكيين وعادوا مرة أخرى للشراء, وقاربت المبيعات السنوية للمساكن (4,8 ملايين مسكن) الرقم القياسي الذي سجلته على مر السنوات وهو 4,9 ملايين مسكن. وعاودت الواردات أداءها القوي, وحدت من تفاقم الأزمة المالية الآسيوية ومنعت الاقتصادات المهتزة عبر العالم من الانهيار, واستعادت الولايات المتحدة مرة أخرى دورها كقائد لبقية العالم. وفي الوقت ذاته تراجعت معدلات الادخار الأمريكية خلال شهري سبتمبر واكتوبر.. ولأول مرة منذ 65 عاما. ولم يحدث هذا منذ قمة الانهيار المالي الكبير في العام ,1933 حيث بلغت معدلات البطالة الأمريكية 30%, ولم يعد أحد يكسب شيئا, إذ لم تكن هناك برامج تأمين ضد البطالة أو أية مزايا أو خدمات اجتماعية يمكن الاعتماد عليها. ولم يكن أمام العائلات إلا بيع مقتنياتها وأصولها وموجوداتها لتسد رمقها. ولكن الامريكيون وجدوا أنفسهم أثرياء أواخر خريف العام الجاري, وانتعشت الحركة في أسواق المال مرة أخرى, ولأنهم أغنياء قرروا إنفاق قسط من ثرواتهم الجديدة. وكنتيجة منطقية لهذا التوجه تجاوز الاستهلاك الدخول المالية. ومن الطريف هنا أن نلاحظ أن معدلات الادخار كانت سلبية خلال شهر سبتمبر الماضي, وقد كان المشهد رماديا خلال ذلك الشهر. فقد بدأت اسواق المال تتجه اتجاها انحداريا, وكانت البنوك الأمريكية تعلن عن خسائر فادحة في روسيا, وكان يتحتم توفير صفقات إنقاذ تتجاوز تريليون دولار أمريكي, وكانت البرازيل على حافة الانهيار. ومن جهته كان مجلس الاحتياطي الفدرالي يخفض معدلات أسعار الفائدة خلال الاجتماعات الطارئة التي يعقدها بين اجتماعاته العادية. ولم يكن الأمريكيون يعتقدون بضرورة إعداد أنفسهم للأعاصير الاقتصادية حتى وصلت إلى شواطئ الولايات المتحدة, فعلا لا قولا. وحتى في هذا الواقع المتشائم لم يكن المستهلك الأميركي يرغب في ادخار القرش الأبيض لليوم الأسود, وعلى العكس من ذلك تماما كان راغبا في هدر ما ادخره لليوم الأسود. وكما هو معلوم للجميع, فإن معدلات الادخار السلبية تشكل أزمة على المدى البعيد لأي مجتمع. وعندما يتجاوز الاستهلاك الدخول فلن تتبقى أي موارد مالية لاستثمارها في صناعة أو غيرها. ولا يمكن لثروات الأسواق المالية تمويل استثمارات جديدة, فعندما يبيع شخص الأسهم التي يمتلكها فلابد لشخص آخر من دفع قيمتها عندما يشتري تلك الأسهم. ولكن سلبية معدلات الادخار بالتحديد هي التي حققت معدلات النمو تلك. وكان الانفاق الاستهلاكي يتزايد باطراد فاتحا الباب أمام ارتفاع الطلب على السلع والخدمات التي جعلت عجلة الإنتاج تدور وتعمل. وفي غياب تلك المعدلات السلبية ما كان للولايات المتحدة أن تحقق هذا النمو الإيجابي. وتحققت المعجزة, فقد أنقذت معدلات الادخار السالبة الاقتصاد العالمي, وما كان نموا اقتصاديا قويا إنما جاء من رحم معدلات ادخار ضعيفة وسلبية. وبكل أسف فإن هذه العملية الإنقاذية سوف لن تستمر طويلا, حتى ولو لم تهتز أسواق المال, فالمستهلك, في واقع الأمر, يتخلص من الأسهم بالبيع لتمويل أوجه انفاقه الاستهلاكي, وبالتالي فإن عمليات البيع تلك ستقلص من ثروات المستهلكين وتعود بهم إلى النقطة التي لا يحسون فيها بأنهم أثرياء للغاية. وسيتوقف في تلك النقطة تراجع المدخرات, وينخفض الاستهلاك, ويتراجع الطلب, وينخفض الإنتاج, وسيتجه الاقتصاد الأمريكي نحو الكساد, وترتفع معدلات البطالة, وتنخفض الدخول, وستأخذ الواردات اتجاها انحداريا نحو القاع. وعلى باقي دول العالم الآن أن تتكيف مع تراجع الصادرات, فالضغوط الاقتصادية تتزايد, ويبدأ الانهيار المالي. وهكذا فإن أمريكا حلت مشكلة على المدى القريب, وعلى حساب إيجاد مشكلة على المدى البعيد. ويبدو الحاضر رائعا, ولكن تكلفة هذه الروعة هي مستقبل أقل حيوية ونشاطا, بطبيعة الحال. وإن لم يضرب الكساد الاقتصاد الأمريكي, فلابد من أن هناك شيئا آخر ينمو عندما يبدأ الاستهلاك في التراجع. والخياران الوحيدان هما الاستثمار والإنفاق الحكومي. ويمكن لمعدلات فائدة منخفضة أن تساعد على جبهة الاستثمار, ومع علمي الكامل بهذا, إلا أنني أشك في أن يستخدم آلان جرينسبان ومجلس الاحتياطي الفدرالي التخفيضات المقبلة في أسعار الفائدة في محاولة إنعاش الاستثمار عندما يتراجع الاستهلاك. ولأولئك الذين يرغبون في توقع الخفض التالي في أسعار الفائدة أن يتوقعوا حدوث ذلك عندما تبدأ معدلات الادخار السلبية في التحرك نحو المنطقة الإيجابية. إن معدلات أسعار الفائدة الأمريكية لاتزال مرتفعة, ولابد من أن تبدأ رحلتها نحو الانخفاض, ولكن ليس قبل أن تتجه المدخرات نحو الصعود. إن المشكلة, بالطبع, هي ضرورة إحداث زيادة كبيرة في أسعار الفائدة لإنعاش الاستثمارات في الوقت الذي يتراجع فيه الاستهلاك وترتفع فيه الواردات. إن آلان جرينسبان حريص بطبعه, فطوال مدة رئاسته لمجلس الاحتياطي الفدرالي لم تتحرك أسعار الفائدة بأكثر من ربع من واحد في المئة في أي وقت من الأوقات, إلا أنه يرغب في إحداث هذه التخفيضات الطفيفة بسرعة مطردة, ثلاثة تخفيضات خلال ستة أسابيع في خريف ,1998 وثماني زيادات في 12 شهرا خلال الفترة من 1994 ـ 1995. وعندما يحدث الخفض الأول تتسارع التخفيضات الأخرى خفافا. وإذا أعاد الأمريكيون معدلات الادخار إلى مستويات معقولة, فإن تخفيضات الإنفاق الاستهلاكي ستكون كبيرة. ونتيجة لذلك فإن معدلات فائدة منخفضة سوف لن تنعش الاستثمارات بما يكفي لسد الفجوة في الطلب الكلي. ولكي يتفادى الكساد, فإن الاقتصاد يتطلب بعض الزيادات المستهدفة في الإنفاق بنهاية العام 1999 وأوائل العام ,2000 وسنحتاج لذلك حتما في ذلك التاريخ. وهناك متسع من الوقت أمام الرئيس كلينتون والكونجرس الأمريكي لإصدار التشريعات الضرورية قبل أن تتأكد ضرورة ذلك. وفي ظل فائض الميزانية, فإن في مقدورنا تحمل تلك الزيادات. ولكن ما لا يحتاجه الاقتصاد الأمريكي هو فرض زيادات في الاستهلاك الحكومي, مثل أجور التقاعد المرتفعة والبرامج الصحية لكبار السن. إن استبدال الاستهلاك الخاص بالاستهلاك العام سوف لن يترك إلا مساحة ضيقة للاستثمار في الاقتصاد. والمطلوب تحديدا هو زيادات كبيرة في الانفاق الحكومي للاستثمار في المشروعات التي تضمها ميزانيتها, مثل البنية الأساسية والأبحاث والتطوير والتعليم.

Email