مستقبل صناعة النفط ملبد بالغيوم:480شركة أمريكية تندد بسياسة العقوبات،الانتعاش المتوقع ربما يحتاج إلى صدمة جديدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تشهد صناعة النفط والغاز على مدى تاريخها كله مثل هذه الحقبة العاصفة, وهذا الحشد الهائل من عمليات الحظر والتقييد والعقوبات, ولم تواجه منذ ولادتها مثل هذا السيل العرم من العقبات والمعضلات من شتى الأصناف , تلك المشكلات التي أقضت في الآونة الأخيرة مضجع صناعة النفط والغاز وزلزلت أوضاع تجارتها واستثماراتها, وضيقت سبل وصول الشركات العالمية إلى الدول المنتجة سواء منها التي تطرح انتاجها في السوق الآن وتلك التي لها باع طويل في هذه الصناعة أو التي لم تكشف الدراسات وأعمال التنقيب عن ثرائها بالمواد النفطية والغازية وبكميات تجارية مخبوءة إلا من عهد قريب. وقد نصبت الولايات المتحدة إلى جانب الأمم المتحدة نفسها وصيا وقيما على تلك الاجراءات التي دأبت على فرضها على مدى الاثني عشرة سنة الماضية, وتتناولها يد التشديد المتواصل منذ ذلك التاريخ. وانضم إلى تلك العقوبات التي ظلت تعاني منها ليبيا وإيران والعراق لعدة سنوات عقوبات جديدة فرضت عامي 1996 و1997 على ميانمار وسوريا والسودان. جاء ذلك في محاضرة للدكتور نقولا سركيس مدير المركز العربي لبحوث النفط والغاز أمام مؤتمر العقوبات الأمريكية وعقوبات الأمم المتحدة الذي نظمته شركة اي بي سي في لندن مؤخرا. أسئلة حائرة وفيما يتصل بصناعة النفط والغاز ذاتها, فإن أوضاعها وأجواءها الراهنة ملبدة بغيوم كثيفة, إذ أن هناك حشدا من الأسئلة لم يعثر بعد على حل لها حتى الآن ولم يتبرع أحد بأجوبة واضحة لها. ومع ذلك فالمخاطر جسيمة والنذر المهددة تحيط بهذه الصناعة من كل جانب. وتجدر الاشارة إلى ان الثروات النفطية الثابتة التي تتمتع بها الدول الثلاث المستهدفة بالعقوبات اليوم وهي العراق وإيران وليبيا تقدر بحوالي ربع الاحتياطي الاجمالي العالمي. وأما احتياطيها الثابت من الغاز الطبيعي فيبلغ خمس اجمالي الاحتياطي العالمي. والأهم من ذلك ان هذا المخزون الاحتياطي من بين أقل المخزونات كلفة في الانتاج والتطوير ورغم الآثار المفزعة لهذه العقوبات على الدول التي تضررت بها وما قامت به من اعاقة وتأخير التنمية أو ابطاء النمو في صناعاتها النفطية والغازية, فإنها بما أفرزته من وضع جديد أدت ولو جزئيا على الأقل إلى انتعاش في بعض المناطق التي جنت ثمار هذا الخطر, مثل منطقة بحر قزوين. لكن السؤال الذي يخطر على البال عند هذه النقطة هو ما إذا كان في المستطاع القيام بتطوير الطاقة الانتاجية بالسرعة الكافية والمعدلات التي تكفل سد احتياجات طفرة من النمو المتسارع في متطلبات العالم من الطاقة وانجاز هذه المهمة في الوقت المناسب؟. والاجابة تعتمد على عوامل كبيرة لا يمكن البت بشأنها وتشمل: الأمد الذي سوف تستمر معه العقوبات الحالية, احتمالات تخفيفها أو تشديدها مستقبلا, احتمال ظهور بلدان جديدة منتجة للنفط, والتنافس بين الشركات العالمية, وأخيرا وليس آخرا, الصراعات على المصالح بين الولايات المتحدة وباقي القوى الصناعية الكبرى. ويقودنا هذا إلى ملمح آخر من ملامح العقوبات, طالما ناله التجاهل وأخفاه التعتيم: دوافع العقوبات وأهدافها وآثارها الحقيقية بعيدا عن التهويل والتضليل. العقوبات والتمييز المصلحي ولفظة (العقوبات) المستخدمة والمتداولة غالبا في الاعلام توحي للوهلة الأولى بأن هناك دولا (مذنبة) تسومها الدول (البريئة) العقاب, كما هنالك ظلال ثقيلة تتغلغل إلى النفس من ثنايا تلك المفردة وتترك انطباعا بأن هناك حكومات وشعوبا شريرة بالفطرة تلقى جزاءها وتعاقب كذلك بالاقصاء على المجتمع الدولي على يد حكومات وشعوب نزيهة وطيبة بالفطرة. ولا يسعنا إلا أن نلحظ انه ليس من قبيل المصادفة أبدا أن تكون البلدان (الوغدة) جميعا من دول العالم الثالث, في حين أن الدول (الشريفة) التي تقمصت دور الجلاد, إنما هي دول عظمى وقوى كبرى. إن هذه الرؤية تعتم على مشكلة العقوبات من مبتداها إلى منتهاها وتلفها بحجب الغموض والتشويش وتحدث خلطا هائلا ما بين المصالح الاقتصادية والمآرب السياسية المحلية والاقليمية والدولية. وفي الحقيقة لو تمت تعرية هذه الملابسات المصطنعة وفرزها وابعادها عن جوهر الموضوع, فساعتها سوف تبدو لا معقولية تلك العقوبات ومدى الظلم الفادح الواقع من جرائها على الدول المتضررة. ومن المهم جدا أن نسجل بهذا الصدد ان الخلاف بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وكثير من القوى غيرها حول (العقوبات الثانوية) له صلة بالمصالح الاقتصادية الوطنية لكل دولة من تلك الدول على حدة أكبر من ارتباطه بمفهوم عدالة تلك العقوبات أو ضرورتها أو حتى أثرها على تلك البلدان المستهدفة. شركات أمريكا تتململ هناك حاليا حوالي 480 شركة أمريكية بما فيها كبريات شركات النفط مثل موبيل وكونوكو واكسون واركو وشركات الخدمات النفطية مثل درسنر وبيكر هيوز تندد كلها بسياسة العقوبات وتطالب برفعها بدافع يكاد يكون مصلحيا بحتا. وقد انخرطت هذه القوى في تيارات شتى منها حركة تدعى (تعهد الولايات المتحدة) وتقوم حجج هذه الشركات على أن العقوبات من جانب واحد كلفت الولايات المتحدة خسران 200 ألف فرصة عمل اضافة لتكبد قطاع التصدير فيها حوالي 21 مليار دولار سنويا. وفيما يتعلق برفع الحظر المفروض على النفط العراقي فإن النقاش حوله غالبا ما يتمحور حول تأثيره على أسعار النفط أو حصص الدول الأخرى المصدرة في السوق, ونادرا ما يلفت أحد لبحث مبررات استمرار معاناة الشعب العراقي من أهوال العقوبات الدولية المفروضة منذ ما يزيد على ثماني سنوات. ومهما كانت بواعثها ومبرراتها, فإن العقوبات الدولية المفروضة على البلدان المنتجة للنفط قد نجم عنها تداعيات خطيرة حتى الآن وسوف تتواصل أصداؤها وتأثيراتها على عمليات تطوير انتاج النفط ورفع الطاقة الانتاجية, وعلى التوازن على المدى المتوسط والطويل بين الامدادات والطلب العالمي. وهذه المعطيات في جملتها, وخاصة حين تتناول قضية الطلب العالمي على النفط والامدادات العالمية الملبية لهذا الطلب مدعاة لقلق بالغ لا يسع أية جهة مسؤولة التغاضي عنه أو التهوين من شأنه. الطلب والامدادات إن رسم سيناريوهات المستقبل فيما يتعلق بالطلب العالمي على النفط والامدادات الملبية له مهمة تتسم بالمجازفة إلى أبعد الحدود, خاصة عندما تتناول هذه التوقعات المدى المتوسط والطويل. وقد غامرت وكالة الطاقة الدولية وخاضت التجربة المريرة فأقدمت على وضع تصور مستقبلي يغطي الفترة من 1996 وحتى العام 2020. ونشرت ثمرة هذه الدراسة في وثيقة حملت عنوان (توقعات الطاقة العالمية حتى عام 2020) وقدمت يوم 31 مارس الماضي إلى ملتقى وزراء الطاقة في الدول الثماني الصناعية العظمى في موسكو, الا ان النتائج التي خلصت إليها هذه الوثيقة تركت بعض الفجوات الكبرى. تتوقع تقديرات وكالة الطاقة الدولية ان يرتفع الطلب على الوقود السائل بنسبة 53% ما بين عامي 1996 و2020 ليقفز من 72 مليونا إلى 110.1 ملايين برميل يوميا. ولتلبية هذا الطلب يتوقع أن يرتفع الانتاج التقليدي من النفط الخام من مستوى 62.7 مليون برميل يوميا, عام 1996 إلى 78.9 مليون برميل يوميا عام ,2010 وذلك قبل أن يهبط إلى 72.2 مليون برميل يوميا عام ,2020 وأما الفجوة التفاضلية هذه فسوف يتم سدها, خاصة ابتداء من عام 2015 فصاعدا, عن طريق الزيادة الضخمة في انتاج الغاز الطبيعي المسيل والنفط غير التقليدي. الا ان هذه التقديرات تعجز على أية حال عن الاجابة على ثلاثة افتراضات: يتناول الأول انتاج النفط التقليدي العالمي الذي تتكهن الدراسات أن ينخفض ما بين عامي 1996 وعام 2020 من 45.5 مليون برميل يوميا إلى 27 مليون برميل, وذلك في المنطقة خارج دائرة الدول الشرق أوسطية الخمس الرئيسية وهي: السعودية ودولة الامارات وإيران والعراق والكويت. وعلى عكس ذلك من المتوقع أن يقفز الانتاج في هذه الدول الخمس بنسبة 262.7%, مرتفعا بذلك عن مستوى 17.2 مليون برميل يوميا إلى 45.2 مليون برميل يوميا, ولا تعبأ الوثيقة الدراسية الصادرة عن وكالة الطاقة الدولية بتفسير كيفية تحقيق هذه الزيادة التي تأخذ طابع الطفرة في الانتاج في الدول الخليجية الخمس. علما بأن اثنتين منها وهي العراق وإيران تعانيان من الحظر والعقوبات الدولية المطبقة عليهما. مثل تلك الزيادة لا تتناسب مطلقا, في الآونة الراهنة على الأقل مع البرامج المتواضعة التي خططت لها وتسير ضمن رؤيتها هذه الدول في مسعاها لتطوير طاقتها الانتاجية. وعلاوة على ذلك فإن هذه الزيادة لن تكون ممكنة على المدى المتوسط والطويل إلا إذا طرأ ارتفاع كبير على الأسعار, ويكاد يكون من المستحيل التكهن حاليا بمدى هذا الارتفاع وموعد حدوثه. والافتراض الثاني الخاوي من الحجج المنطقية المقنعة يتصل بمسألة تطوير الانتاج بحلول عام 2020 ليقذف إلى السوق بحوالي 17.3 مليون برميل يوميا من (النفط غير التقليدي وغير المعين) , وهي الكمية التي تستطيع جسر الفجوة ما بين الطلب والامدادات. تفترض وثيقة وكالة الطاقة الدولية أن (الانتقال) من النفط التقليدي إلى غير التقليدي يتضمن زيادة في الأسعار, بحسب أسعار الدولار عام ,1990 من 17 دولارا للبرميل إلى ما بين 25 إلى 30 دولارا للبرميل ما بين عامي 2010 و2015. فإذا أخذنا بعين الاعتبار ان أسعار النفط قد هبطت كثيرا في الفترة الحالية عن مستوى 17 دولارا للبرميل عام ,1990 وان سوق الطاقة الذي يبدو من المرجح بقاؤه ضعيفا في الشهور المقبلة, ان لم نقل على مدى العامين أو الثلاثة المقبلة, فإن الصورة تظل في هذه الحالة غاية في الغموض ولا تسعفنا في تحديد متى سوف تقفز الأسعار وفي ظل أي ملابسات وظروف لتجعل تطوير كل من النفط التقليدي وغير التقليدي أمرا ممكنا. ومن منظور انتاج الدول الخليجية الخمس, بشكل خاص, والذي يتوقع له أن يتضاعف من 20.1 مليون برميل يوميا عام 2000 إلى 40.9 مليون برميل يوميا عام 2010 وفقا لسيناريو وكالة الطاقة الدولية, فإن ارتفاعا سريعا في الأسعار يتزامن مع سرعة في رفع العقوبات عن العراق وإيران شرطان أساسيان لاضفاء أي معقولية على توقعات تقرير وكالة الطاقة الدولية. والاحتمال الأكبر في هذا السياق, انه سيكون من الضروري انتظار ما تتمخض عنه الأيام من تقلص الطاقة الانتاجية العالمية من النفط ومن بروز مهدد لخطر نقص ذريع بالامدادات قبل أن يشهد العالم دورة صعود جديدة للأسعار. ولربما كان الاحتمال الأعظم أيضا أن يحدث الانتعاش المخطط له في الأسعار في مواعيده المرغوبة بل سيأتي نتيجة صدمة شبيهة بتلك التي أصابت العالم في فترة 1973/1974 أو فترة 1979/80. ويمكن لمثل تلك الصدمة أن تحدث عند بداية العقد المقبل, ما لم يتم في الوقت المناسب رفع العقوبات عن العراق وإيران, أو ان تنجم ظروف لم يحسب حسابها تدفع الأسعار نحو الارتفاع بسرعة إلى مستوى 18-20 دولارا للبرميل. اعداد : كمال البيطار

Email