أفضل أم أسوأ عصور الاقتصاد: بقلم- بول صامويلسون

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن متابعة الأحداث الاقتصادية العالمية ورصد تطوراتها شبيه بمراقبة عقرب ساعة الحائط البطيء. فهو يمخر عباب الماضي الا انه في عين ناظره مسمر لا يبرح مكانه ولا يكاد يأتي بحركة . وكذا هو حال الازدهار في أمريكا كلينتون إذ لا يمر اسبوع يتجه فيه مؤشر سوق وول ستريت صعودا. حتى يعقبه الوحيد في هذه المتاهة أن نمو أرباح قطاع الشركة من سنة إلى سنة بات خائر القوى, ويتجه نحو الاضمحلال رويدا رويدا. وعلى المسرح الأوروبي استقر الأمر على ان هناك الآن أحد عشر عضوا أصيلا في منظومة اليورو المشتركة. والكل يحدوه الرجاء في ان تدب في أوروبا الهرمة التي تترنح في مستنقع الركود بقضها وقضيضها روح جديدة تنبعث من بوارق الأمل التي تومض من ثنايا ابتكارها الفذ وتعمل عمل السحر في انعاشها وحفز نموها خلال ما تبقى من زمن حتى عام 2000. الا ان غصص الانتظار الطويل الذي على أوروبا تجرعه قبل أن تزف الصحف نبأ انخفاض معدلات البطالة في كبرى عواصمها إلى رقم عشري واحد سوف تحرق أعصاب القوم وتنسف فرحتهم. ولربما كان في بشائر السعد عزاء عن بعض أخبار السوء. فمن عام 1970 إلى عام 1985 طغى تضخم مستوى الأسعار على العناوين الرئيسية في الصحافة الاقتصادية. غير ان فئة ضخمة من السكان الذين ينعمون بالعيش في كنف أكثر الاقتصاديات تطورا, لم يعد شبح التضخم اللعين هاجسا يؤرقها. وفي الحقيقة, أصبح انخفاض قيمة العملة, وليس التضخم, بالنسبة لما يزيد على مليار آسيوي (بحسابات الدولار واليورو) حقيقة جاثمة. أزمات الاقتصاد والسياسة وكم يجلب من الكدر اليوم استعراض البلايا الاقتصادية العالمية ومقارنتها بالرزايا السياسية العالمية في افريقيا والبلقان وشبه الجزيرة الآسيوية! ولعل في وسعي القول بأن التوفيق حالفنا نحن خبراء الاقتصاد فيما نقوم به من عمل يدر علينا من الخير أفضل مما يجنيه من مهنتهم اخواننا العلماء في الميدان السياسي. فإذا قمنا بحسبة اجمالية تتناول العالم بأسره فلربما يخيب فألنا في أن نعثر في هذه السنوات الكئيبة على موسم حصاد ذهبي تقر به العين على صعيد الازدهار والتقدم العالمي, بيد ان شؤم هذه الأعوام لا يبلغ, وبكل تأكيد, كلاحة تلك العجفاء التي عصفت بالعالم خلال الثلاثينات من هذا القرن. آنذاك لم يقتصر أثر الأحداث الاقتصادية الكارثية على وأد حلم الرفاه المادي, فقد كانت احباطات الرأسمالية واخفاقاتها الوقود الذي فجر مرجل الهتلرية النازية ونضجت على نيرانه طبخة الطغيان الستاليني الشمولي والمذابح المروعة اليوم في بقاع مثل البوسنة وصربيا وألبانيا تستمد روحها الشيطانية من الأحقاد العرقية العتيقة ومشاعر الكراهية الضاربة الجذور في أغوار التاريخ, وهي بريئة من البواعث الاقتصادية. رياح الشكر أحداث اليوم تدع الحليم حيرانا. في أيام الاثنين والأربعاء والجمع يخيل إلي ان الأمور إلى انفراج وان العالم يتقدم. وتجتاحني رياح الشك أيام الثلاثاء والخميس فلا أدري إلى أين المسير, غير ان حدسي ينبئني ان خطواتنا ما هي إلا تقهقر. ولعلي بهذا فرشت أرضية اتفاقنا على ان عام 1998 لم يثبت كونه أسعد الأوقات بالنسبة للعالم أجمع, كما لم ينهض دليل دامغ على انه أشدها بؤسا. إلا ان هناك احتمالا بأننا سوف نسترجع في خواطرنا ذكريات الأمس يوما ما وفينا على الأقل بقية حنين لعام 1998 الراحل. وأقول بكل يقين ان عاما مثل سنة 1928 عندما ننظر إليه بعيون عام الكساد الكبير سنة 1931 سوف يبدو فردوسا, بل حلما ورديا من أحلام المدينة الفاضلة. دعوني أبوح الآن ببعض تصوراتي لأحدثكم عن سيناريو الانهيار وآلية التردي التي سوف تسوء معها الأمور. ولنبدأ باحتمال نبش مسلك شائن قديم من ماضي الرئيس كلينتون لتقويض قدرته على الحفاظ على التوازن الوسطي في السياسة الحزبية الأمريكية. في هذه الحالة, فإن انهيارا جمهوريا تسفر عنه انتخابات الكونجرس في نوفمبر يمكن أن يحرم صندوق النقد الدولي الذي أعياه الترهل وتوسع بما يفوق حدوده بكثير من 18 مليار دولار, وهي المساهمة الأمريكية التي تمس حاجة الصندوق إليها ويتعطش إليها بجنون. دوامة هبوط جديدة كما يمكن أن تبدأ دوامة هبوط جديدة تعصف بآسيا بالانتشار نحو الغرب. وعند ذاك, فإن شبه الفقاعة الرغيدة في الوول ستريت, والتي جنى بعضنا من بركاتها 30% من الأرباح على رأس المال سنويا, ودرت مغانم دسمة طيلة ثلاث سنوات متتالية, ربما تجرفها موجة تصحيح كبرى تهبط بالسوق بنسبة 25% أو أكثر وطوفان الانهيار إذا اندفع منطلقا من بورصة نيويورك فسوف يغرق أسواق مدريد ولندن وفرانكفورت, ناهيك عن أسواق طوكيو وسيئول وهونج كونج. وليس هناك من بلد يبلغ من جبروت صموده أن يستعصي على هجمة على عملته أو مؤسساته المالية. وما حدث لتايلاند على نطاق عالمي مصغر يمكن أن يحصل لمجلس شيكاغو لبيوع الخيار ولأسواق السندات في نيويورك. فزخم النشاط والحيوية الطافرة في دوران عجلة وآلية تسعير الأوراق المالية في فرادى القطاعات الاقتصادية, على غرار بلاك. سكولز وكل نظائرها وأشباهها ليس له أدنى صلة بفعالية الاقتصاد في صيغته الشمولية التي تنتظم فيها كافة القطاعات أي البيئة التي تكبر فيها الفقاعات وتتضخم, ومن ثم لتنفجر بعد ذلك. وبفضل التطور الهائل الذي انبثق عن ثورة الكمبيوتر والشبكات وأسواق البيوع الآجلة وما بلغته من تعقيد مدهش, فإن تفاعل الأحداث وتفاقم الأمور وتشابك المعضلات بات يحدث بأسرع من ذي قبل, وإغلاق الأسواق أو وضع العصا في تروس عجلتها لن يجنبنا شرور أسعار أسواق الأوراق المالية وطفراتها الجنونية, ولن يسفر الحلم الوردي الذي تعد به تجربة اليورو عن خاتمة سعيدة تشهد ميلاد عهد السعد والرخاء, إذا كشر السيناريو الذي سبق عرضه عن أنيابه وتحقق شؤم نبوءاته. يوم الكارثة وينبغي ها هنا أن أسارع فأؤكد على ضوء الأدلة ان احتمالات الاندلاع الوشيك لأهوال يوم الكارثة ضعيفة جدا, وفي وسعكم المراهنة على هذا التطمين بنسبة عشرة الى واحد, وكسبك للرهان مضمون على مدى سنوات وسنوات قادمة, إلا ان الواقعة إذا وقعت على أية حال في زمننا النادر المثال وتحققت أسوأ التوقعات فإن حجم الخسائر سيكون خرافيا, وهذا الركون الى الدعة والطمأنينة الذي تأصل فينا والذي يرقى الى قداسة الدين يفسد من الأمور مالا حصر له. وها هي الرأسمالية الروسية انقشع ضبابها عن نمر من ورق, وقد جنى تاجر أعرفه في سوق موسكو أرباحا وصلت الى100% في كل سنة من العامين الماضيين, الا ان سنة 1998 التهمت كل ما راكم من غنائم. سر الصين العظيم وماذا عن الصين؟ أرى أن ضبابا كثيفا يكتنف الشارع الاقتصادي الصيني في أوسع مساراته, ومنذ أن عادت هونج كونج الى السيادة الصينية تحولت الآراء من النقيض الى النقيض وبزاوية تبلغ 180 درجة طغى في البداية الخوف من اجتراء الصين وتعديها على الحريات الرأسمالية في هونج كونج. الا ان هذا كله تبدل وتحول الى تقدير يشيد بأربحية الصين وموقفها الداعم حتى الآن لمعامل ارتباط الدولارين الأمريكي والهونج كونجي, والصين ذاتها تفادت حتى اللحظة, وعن طريق لجوئها لنظام رقابي صارم على دفق رؤوس الأموال وغيرها من الوسائل, تخفيضا في عملتها اليوان, ولا تزال الآراء منقسمة حول قدرة هذا الاتجاه على الصمود والآفاق المتاحة لنجاحه. فكبار المنتجين في شنغهاي وفي أماكن أخرى الفوا أنفسهم بين عشية وضحاها في مواجهة منافسة شرسة من المصدرين في آسيا وفي غيرها من البقاع التي سحقت قيمة عملاتها. ومن وجهة نظر الصين والعالم العربي فإنني لا أرى انه مما يعد نهاية العالم أن تخرج العملتان الصينيتان عن المستوى الثالث نسبيا لسعريهما في مواجهة الدولار. ويسيل لعاب وكلاء ومندوبي عمليات الشراء في الوول ستريت لمجرد ما يداعب أفكارهم من هبوط أسعار (تجارة) الاستيراد عقب خفض العملة الصينية, وفي غضون ذلك فإن أنصار السياسات الاقتصادية الحمائية يتحفزون لتفجير براكين غضبهم إذا بدأت يد الضغوط تمس كبار المنتجين الخمسمائة في الولايات المتحدة والذين تزين قوائم أسمائهم صفحات مجلة فورستن. لقد كان قدماء الصينين إذا دعوا على أحد بالويل قالوا: (عسى أن يبتلى أبناؤك بالعيش في زمن زاخر بأحداث جلل) . ولا بد لي أن أعلن من على المنبر, وبصفتي طالب علم أفنى عمره في دراسة المشاهد الاقتصادية الدائبة التغير, أنه سواء أكان زمننا المعاصر أسعد الأوقات أم أتعسها, فإنه بلا شك أحد أمتع أحقاب التاريخ كله بما يعج به من أحداث. الكاتب مفكر اقتصادي بارز وحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد وعمل مستشارا للخزانة الأمريكية* خدمة - لوس انجلس تايمز

Email