رأي:المثال واضح في حالة كل من كمبوديا ولاوس قدرة المجتمع على التنظيم محرك فعلي للتطور

ت + ت - الحجم الطبيعي

عدت مؤخرا من رحلة أخذتني إلى كمبوديا ولاوس, ومازلت أسائل نفسي كيف يمكن لمثل هذه الدول الغنية بالثروات أن تصبح على هذه الحال من الفقر . إن أحدا إذا قادته قدماه إلى أطلال حضارة الخمير وأنجكور وات والمباني الضخمة الكثيرة المتناثرة هنا وهناك فسوف يكتشف أن الخمير كانت لديهم إحدى أكثر الحضارات في العالم تقدما لمئات السنوات, وذلك عند بداية الألف الثانية للميلاد. ولكن مع اقتراب هذه الألف من نهايتها, أضحت كمبوديا دولة فقيرة, بل قُـل حطاما اقتصاديا. ونظرا لارتفاع تكاليف المواصلات, كان من الصعب, بل من المستحيل تقريبا, إنتاج السلع ومقايضتها بالغذاء الضروري لكل مجتمع. لقد كان على الحضارات المتقدمة أن تصل إلى مرحلة القدرة الذاتية على توفير فائض زراعي حتى يتمكن عدد كبير من الأشخاص من تكريس وقتهم للأنشطة التي تساعد على إقامة هذه الحضارة ـ مثل التعليم, الثقافة, الفن, الدين, الهندسة والبناء ـ إذ أنه لو اضطر الجميع إلى العمل بالزراعة لدفع شبح الجوع لأصبحت الزراعة هي النشاط الأوحد, ويتحول التقدم إلى أمر مستحيل عمليا. إن لاوس أو (لاو) كما يشير أهلها محملين الفرنسيين الذين احتلوها السبب في اضافة (اس) الجمع معتقدين أن هناك ثلاثة (لاو) وليست (لاو) واحدة, ظلت دائما دولة تعيش على الزراعة كمصدر وحيد للرزق وكسب العيش, ولم يتوفر لديها قط وقت فائض لتطوير حضارة خاصة بها, والجبال في هذه المنطقة ليست شاهقة الارتفاع لكنها قاسية للغاية, وعندما تجتمع الجبال مع الأحراش التي يصعب اختراقها في معظم الأحيان يصبح من المستحيل تقريبا انتاج فائض زراعي يمكن أن يكفي كغذاء لعدد كبير من سكان الحضر. لكن إذا نظرنا إلى ما تبقى من حضارة الخمير, فسنجد أنهم كان لديهم من الوقت الكثير لتكريسه لأنشطة أخرى غير إطعام أنفسهم, وخير دليل على ذلك نوعية وحجم الأعمال النحتية في الصخر التي قاموا بها, والتي تظهر أن تلك الحضارة تطلبت ملايين الساعات من العمل الدؤوب لإقامة صروح صخرية هائلة, وتطلبت إلى جانب هذا تدريبا احترافيا للنحاتين حتي يكون بمقدورهم نقش ملايين الصور الرائعة على هذه الصروح, ومما يقال هنا أنه كان هناك ما يربو على مليون صورة لبوذا وحده في أنجكور. إن سر كمبوديا القديمة هو أنها كانت لديها الأرض, والأهم من ذلك التنظيم اللازم لحجز المياه التي تتساقط خلال الفصل المطير لاستخدامها خلال فترات الجفاف, وبالتالي الحصول على حصاد من الأرز ثلاث مرات في العام. أما اليوم وللعجب لا تحصل كمبوديا في معظم مناطقها إلا على حصاد أرز واحد, وإن كانت هناك بعض المناطق التي تحصد الأرز مرتين, لكن ليس هناك منطقة واحدة تحصد الأرز ثلاث مرات في العام كما كان يحدث في الماضي. إن الأرض لم تتغير لكن الذي تغير وتبدل هو قدرة الكمبوديين على تنظيم انفسهم وعلى التحكم في المصادر التي يملكونها. فبعد الاحتلال التايلاندي فقد الكمبوديون القدرة على التنظيم وهكذا بدأت رحلة الانحدار. وظهرت جليا التأثيرات السلبية للافتقار إلى التنظيم الاجتماعي في الحروب الأخيرة, وتعرضت لاوس وكمبوديا لقدر كبير من التدمير خلال الحرب الفيتنامية, بل إن عدد القنابل التي سقطت على لاوس فاق كل ما أسقط من قنابل خلال الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من كل هذا استطاعت لاوس أن تنفض من عليها الغبار, وأخذت تخطو إلى الأمام, وإن كان ببطء, نحو رفع مستوى المعيشة. بالنسبة إلى كمبوديا فهي على النقيض من لاوس تعد مثالا لما يحدث عند فتح صندوق باندورا أو (صندوق الشرور والرزايا في الميثولوجيا الاغريقية), فكل أوجه الضراوة والعنف تقفز إلى السطح ويتهاوى في الوقت نفسه النظام الاجتماعي. لقد أدت حرب فيتنام إلى خلخلة استقرار الملكية التقليدية التي كانت تتهاوى على أية حال, لقد انقلب الكمبوديون على بعضهم البعض وبطريقة غير مفهومة بالمرة أعملوا في بلادهم التدمير, وهو ما فعله بول بوت والمجازر التي ارتكبها وحمامات الدم التي أسالها, ثم جاء الاحتلال الفيتنامي الذي لم يتمكن من إزالة الخمير الحمر, مما اضطر الفيتناميين في النهاية إلى التراجع إلى بلادهم. وهكذا بقي بول بوت ليشكل دائما تهديدا كبيرا للاستقرار في مناطق الاحراش وجبال المنطقة الشمالية الشرقية لكمبوديا. حيثما تجيء أو تروح هناك ألغام, تجدها في المعابد وفي حقول الأرز وفي الغابات, وعلى الرغم من أن الجانب الاقتصادي لمشكلة الألغام الأرضية ليس بالمشكلة العويصة إلا أن الحل صعب, فاللغم الأرضي لا يكلف إلا 50 دولارا لشرائه ثم زرعه لكن إزالته تتطلب 300 دولار. ومن اليسير أن نتوصل إلى هؤلاء الذين وضعوا الألغام وزرعوها, لكن من الصعوبة بمكان أن نجد أي راغب في أن يدفع من المال ما يلزم لإزالتها. وحتى تتم إزالة هذه الألغام لن يكون بالإمكان معاودة النشاط الاقتصادي الذي أصيب بالشلل. وليس هناك مجال للمكسب غير القرصنة والاختطاف. وتخفق الجهود الخارجية في إعادة النشاط إلى المؤسسات السياسية والاجتماعية. لذا تسهل الاطاحة بالحكومات, وهو ما حدث في يوليو من العام الماضي. وفي ظل هذه الفوضى لم يحصل رجال الشرطة على مرتباتهم لمدة سبعة أشهر, والحل بسيط, وهو جمع ضرائب يفرضونها هم على الآخرين, وهكذا يسود عدم النظام, ويصبح الحديث عن التنمية الاقتصادية في هذه الحال كمن يعتقد أن بإمكانه أن يضرب بذراعيه ليطير إلى القمر. والخلاصة ببساطة من هذا كله هو أن قدرة المجتمع على تنظيم نفسه هي مصدر القوة الفعلي. بقلم: ليستر ثرو

Email