الأوروبيون يقللون من آثار الأزمة الآسيوية

ت + ت - الحجم الطبيعي

لنفترض جدلا ان الوحدة الاوروبية سوف تتحقق على أتم وجه دون ان تجابه أية مشكلات سياسية او اقتصادية او مالية, وان العملة الاوروبية الموحدة (الأورو) تنطلق الى حيز التطبيق في يناير عام 1999 في عموم اوروبا كما تم التخطيط لها مع انضمام بلدان جنوب اوروبا ايضا. الخبراء الاقتصاديون يتوقعون ان ثمة قطيعة بالغة التأثير ستحصل ليس بالنسبة لمواطني اوروبا فحسب بل بالنسبة لعمل الشركات الصناعية والمؤسسات التجارية. ومن المحتمل ان قادة اوروبا الموحدة لم يتحسبوا لهذه الاشكالية التي لابد من معالجتها انذاك وعلى الفور اذ ستظهر الى السطح مشكلة تطبيق سياسة الموازنة والاستقرار والتوازن الضريبي ومخاطر التركيز الجغرافي للانشطة الصناعية والتجارية والاقتصادية! فقد سبق وان عرفت دول الاتحاد النقدي اضطرابات واهتزازات خاصة. ففي البلدان الاوروبية الكبيرة يمكن ان يسارعوا بحل هذه الاشكالية الى رفع الاجور ومراعاة اوضاع المستهلكين. لكن حتى البلدان الكبيرة تختلف في امور كثيرة اذ ان تطور سعر الفائدة على الادخار يختلف اختلافا كبيرا بين فرنسا والمانيا . اما في البلدان الصغيرة فان تركيب الالات المنتجة تختلف عن مثيلاتها في الدول الاخرى كالفروقات الموجودة بين انجلترا وايرلندا. هذه الاختلافات تبدو طبيعية في بلدان العملة الاوروبية الموحدة كما تشهد على ذلك تجربة الولايات المتحدة حيث تتركز التكنولوجيا في كاليفورنيا والبترول في تكساس وصناعة السيارات حول البحيرات الكبيرة. فالسياسة النقدية لم تعد متفرغة بطبيعة الحال لتصحيح الاضطرابات المحلية لانها ستكون ذات طابع شمولي بالنسبة للاتحاد الاوروبي عامة وهنا لابد من تطبيق مرونة كبيرة في الاجور وحركة كبيرة في العمل وذلك من خلال سياسة نقدية صالحة. ان الاضطرابات التي تحصل في احدى بلدان الاتحاد الاوروبي سوف تؤدي دونما شك الى انخفاض في الاجور الحقيقية من بلد الى اخر وبالتالي لابد من استحداث وظائف عمل في الشركات والمؤسسات التجارية اما في الحالة الثانية اي عندما لا تسود الاضطرابات المالية في هذا البلد او ذاك فسيؤدي ذلك الى هجرة العاطلين عن العمل والعثور على الاعمال في الاجزاء المزدهرة من الاتحاد. هاتان الحالتان من سوق العمل تتوفران في الولايات المتحدة ولكن ليس في اوروبا. وبسبب اختلاف اللغة ونظام التقاعد تصبح حركية العمل ضعيفة, وهذا الاختلاف لا يوجد فقط بين دول اوروبا بل حتى بين اقاليم ومناطق البلد الواحد. والسؤال الذي يطرحه الخبراء هنا هو: كيف يمكن تحقيق ثبات الظروف في كل بلد من هذه البلدان؟ في هذه الحالة من الضروري خلق ميزانيات وطنية ذات حركة دوارة وتخفيض العجز الموجود في المنتوج الخام العام الى اقل من 3% اذن لابد من رسم ميزانيات تعمل على تخفيض العجز الى نقطة الصفر في الاتحاد الاوروبي بعد عام 1999 لتفادي الازمات المالية. ولابد لاوروبا ان تفكر بالسيطرة على العجز الكلي الحاصل لديها وخصوصا معالجة مسألة التضخم في عملة (الأورو) المستقبلية والتأثيرات في هذه الحالة سوف تصبح متبادلة ولا تقتصر على بلد معين في الاتحاد فاما ينبغي رفع الضرائب او تقليص مصاريف البلد الذي يعاني من الاضطرابات الاقتصادية بالرغم من ان ميثاق الاستقرار المتفق عليه هو الذي يتحكم في اسواق الاتحاد الاوروبي. وسيؤثر في بنية الاتحاد الاوروبي اختلاف سياسات الضرائب والحماية الاجتماعية والقوانين الاخرى. ان خفض التكاليف سيعادله تحسن في ظروف المنافسة. اذن والحالة هذه لا يمكن بأي شكل من الاشكال انشاء اقتصاد يوازن بين القوانين الضريبية او الاجتماعية. ان الافتقار الى التنسيق بين بلدان الاتحاد الاوروبي سيؤدي الى حرب تنافسية طاحنة لا تستخدم فيها اسعار صرف العملة وتبايناتها كما هي في السابق. اما في مجال التصنيع التكاملي في الاتحاد الاوروبي فيتعرض هو الاخر الى زعزعة واهتزاز اولا في اتجاه ارتفاع وانخفاض العملة في كل بلد وتأثيراتها بالتالي على (الأورو) المارك الالماني كان يساوي 750 ليرة ايطالية وبعد مرور ثلاثة اعوام اصبح المارك الواحد يساوي 1200 ليرة. هذا التباين سيؤثر على التصنيع التكاملي في ميدان صناعة السيارات في كل من فرنسا والمانيا وايطاليا واسبانيا على سبيل المثال. حيث ان اجور العمال تختلف مما تؤثر على التكاليف حيث ان العامل الاسباني او الايرلندي المؤهل يتقاضى اجورا اقل بكثير من العامل الالماني المؤهل على سبيل المثال. وهذه العوامل جميعها ستؤثر بالتالي على استقرار الشركات الصناعية والمؤسسات التجارية في دولة معينة او في مكان معين من الاتحاد الاوروبي. هذه التباينات الحادة ستخلق مشكلة جديدة لم تعرفها اوروبا من قبل وهي تركيز صناعة معينة في مكان واحد في حين تهجر المناطق الاخرى ولذلك فان الاتحاد الاوروبي لا ينبغي ان يوحد اسواق العمل الوطنية المتضاربة في كل بلد من هذه البلدان. فالشركات الكبرى ومن اجل تحقيق الارباح ستتجه الى البلدان التي تتواجد فيها الايدي العاملة الرخيصة. وسيواجه الاتحاد الاوروبي معضلة اخرى فيما لو سعى الى توحيد الاجور والرواتب في الاجزاء المختلفة منه لانه بذلك سيحرم الانتاج الرخيص الذي يتم في هذا البلد مما سيضعف كل البنى الاقتصادية والصناعية ونتيجة لذلك قد تختفي كثير من الشركات والمؤسسات كما هو حاصل في جنوب ايطاليا وشرق المانيا. ومن جهة اخرى وبالرغم من كل السلبيات التي ذكرناها فان اوروبا ستجني فوائد جمة من خلال اتحادها وخصوصا ما يخص: اختفاء مخاطر صرف العملة, حركة الادخار, دور الدولار وتحوله الى العملة الاحتياطية الوحيدة في ظل اختفاء العملات الاخرى, ان العملة الاوروبية الموحدة ستؤدي الى: فعالية السياسات الاقتصادية الاخرى, اختيار مكان النشاط التجاري, واهمها انها ستجعل من اوروبا قلعة مالية ضخمة. وبالرغم من ان عملة (الأورو) لم تطرح في الاسواق بعد فانها بلاشك حققت احد اهم اهدافها وهي: حماية اوروبا من تقلبات العملات الآتية من الخارج. ففي الوقت الذي تتعرض له اسواق العملة لاضطرابات كبيرة فان العملات الصعبة ثابتة تقريبا وتبقى هادئة كما يشير الى ذلك معظم الخبراء الاوروبيين. وفي حقيقة الامر ان اكبر الازمات المالية العالمية عادة ما ارتبطت بانفجار العملات الاوروبية مما كان لها اسوأ الاثر على القارة القديمة اي اوروبا. ان ازمة المكسيك في شتاء 1994 و1995 وانخفاض سعر صرف الدولار الى اقل من خمسة فرنكات فرنسية ادى الى انخفاض العملات الاوروبية وفقدانها لقيمتها اذ تدهورت قيمة البيزتا الاسبانية والليرة الايطالية والباوند الاسترليني اما بالنسبة لفرنسا فقد تضررت من خلال تعاملها مع المارك الالماني مما اضطر البنك المركزي الفرنسي الى رفع قيمة الفوائد. اذن فان عملة (الأورو) وحدت اوروبا وجعلتها بعيدة عن الاضطرابات المفاجئة واشاعت على حد تعبير هانز تايتمير رئيس البنك الالماني (باندسبنك) ثقافة استقرار العملة) . وبطريقة غير مؤكدة فان (ثقافة استقرار العملة) شاعت ايضا في الولايات المتحدة فان (الأورو) يقدم البديل للدولار باعتباره عملة احتياطية او صالحة للاستثمار مما سيجبر واشنطن على اعادة النظر في عملتها او عدم المبالغة في تقديراتها. فقد صرح نائب سكرتير الخزينة الامريكية قائلا (لو ان الولايات المتحدة اتبعت سياسة ذات مصداقية وقوة فان الدولار يبقى عملة تتمتع بالصحة وبذلك فان مصيره بايدينا) هذا القول كان موجها الى مجلس الشيوخ الامريكي الذي ابدى قلقه بشأن منافسة عملة (الأورو) للدولار. اذن اننا امام قوة ناهضة هي (الأورو) التي ستخلق من اوروبا قلعة مالية واوروبا يمكنها بذلك ان تتجنب الاضطرابات المالية التي تعصف بآسيا وامريكا بين الحين والآخر. وقد صرح دومنيك ستراوس ــ كان وزير الاقتصاد الفرنسي ـ بان الازمة المالية العالمية لم تؤثر على التنمية الحاصلة في اوروبا. فان نسبة الـ 3% من التطور والتنمية ستنفذ في فرنسا خلال العام الجاري 1998 واضاف الوزير الفرنسي ان الازمة المالية العالمية متأتية في جزء منها عن تقلبات سعر الصرف وكلما اصبحت عملة (الأورو) قوية كلما قلت المخاطر) . ولهذا كما شدد وزير الاقتصاد الفرنسي (لابد من وجود عملة (الأورو) قوية وصلبة) . فالاوروبيون متفائلون بعملتهم الجديدة (الأورو) وواثقون من ان هذه العملة لا يمكن لها ان تصمد الا من خلال رسم سياسة اقتصادية ومالية تأخذ بالحسبان كل متغيرات المحيط العالمي انه التحدي الاوروبي الذي لابد له من الاستفادة من (الازمة المالية) التي عصفت مؤخرا بآسيا رغم انها كانت تعتبر نفسها قلعة حجرية لا يمكن اختراقها. فهذه الازمة تعطي المجال الوفير امام الاوروبيين ليتأملوا اقتصادهم وعملتهم, و(الأورو) سيواجه تحديا اخر ليس امام الدولار بل امام العملات الاسيوية التي كانت ترتبط ارتباطا وثيقا بالدولار ثم انخفضت قيمتها الى نسب متدنية للغاية وخصوصا العملة التايلاندية والاندونيسية والفلبينية والماليزية فيما عدا دولار هونج كونج الذي ارتبط بالدولار الامريكي مستفيدا من احتياطي الصرف البالغ 88 مليار دولار امريكي. ويحاول الاوروبيون التقليل من تأثير الازمة الاسيوية بحجة ان تعاملاتها التجارية مع اسيا لا تزال ضعيفة. ولكن الخبراء يدركون اهمية اسيا في التنمية العالمية. اما بالنسبة للدولار الامريكي فلا يمكن مقارنته بالعملة الصعبة الاسيوية ورغم ذلك فانها تتأثر ببورصة (وول ستريت) . لابد لاوروبا ان تعي بان المحيط العالمي الذي اتاح لها فرصة الانطلاق يتدهور حاليا... وينبغي عليها ان تتعامل مع الازمات المالية العالمية وخصوصا مع الازمة المالية الاسيوية بأكثر واقعية وبصيرة من تعاملها مع الازمة المكسيكية لعام 1994 ـ 1995 ولا يمكن لفرنسا او المانيا ان تعتمدا فقط على صادراتهما فقط من اجل النهوض بالتنمية وتحقيق نسبة الـ 3% من التنمية التي تأملات في تحقيقها العام الجاري 1998 ذلك لان العالم بأكمل في طريقه الى التوحد عن طريق (العولمة) الذي حول العالم الى مجرد قرية! باريس ـ من شاكر نوري

Email