«جذور الوصاية الاردنية.. دراسة في وثائق الارشيف الصهيوني» عنوان الكتاب الصادر حديثاً عن دار قدمس للنشر والتوزيع وهو من تأليف د. سليمان بشير، حيث يرتكز هذا الكتاب كلياً على وثائق الأرشيف الصهيوني المركزي وهو بمثابة محاولة أولية لدراسة الجوانب التي لم يكتب عنها بعد من تاريخ القضية الفلسطينية حيث يقع الكتاب الجديد في ثلاثة فصول أساسية. يتناول الفصل الأول الوكالة وشيوخ العشائر حيث يشير المؤلف الى انه وحتى بداية الثلاثينيات لم يتجاوز اهتمام الزعامة الصهيونية بامارة الاردن كونها اهتماماً عاماً بمجريات الأمور هناك، كما ان العلاقات بين رجالات الوكالة الصهيونية اليهودية من ناحية والأمير عبدالله والزعامة الشرق أردنية من الناحية الأخرى بقيت محصورة في نطاق الاتصالات المتفرقة وغير الرسمية. غير اننا نستطيع القول بأن اتصالات متفرقة من هذا النوع قد تمت بالفعل ودليلنا على ذلك هو ما جاء في الاشارة اليها في كتاب الأمير عبدالله الى موسى شرتوك يوم 1/7/1937 حيث كتب يقول «ولقد قلت كلمة عام 1922 في حيفا لأحد زعماء الحركة الصهيونية بأنه كان يجب على ساسة اليهود ان يطرقوا الباب ولا يدخلوا من الشباك لأن ذلك أجدر» وللعلم فإن موسى شرتوك أو موشيه شاريت كما عرف فيما بعد قد شغل منصب رئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية في تلك الفترة.كما ان ندرة التقارير الرسمية والمذكرات الشخصية في فترة العشرينيات تدلنا بوضوح على ان تلك الاتصالات المتفرقة لم تتم في اطار أية سياسة مدروسة وواضحة من جانب الوكالة اليهودية. وبالمقابل فإننا نستطيع القول بأن فترة الثلاثينيات قد شهدت ليس توثيق العلاقة فقط، بل وبروز المقومات التاريخية الأساسية التي قامت عليها والتي تحولت تدريجياً الى أحد العوامل الحاسمة في تطور القضية الفلسطينية، وقد طرأ هذا التحول بفعل عاملين أساسيين، الأول موجة الجفاف والقحط التي اجتاحت شرق الاردن في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات والتي دفعت بعدد كبير من شيوخ العشائر وكبار مالكي الأراضي فيها وعلى رأسهم الأمير عبدالله نفسه الى التوجه الى الوكالة اليهودية بحثاً عن امكانية استثمار رؤوس الأموال والخبرة الفنية الصهيونية على أراضيهم والثاني تزايد الهجرة اليهودية الى فلسطين عقب صعود الفاشية الى اوروبا، الأمر الذي دفع بالوكالة اليهودية الى بداية التفكير بتوسيع نشاطها الاستيطاني عبر النهر. ويؤكد د. سليمان بشير ان انتشار ظاهرة ارتباط شيوخ العشائر وكبار مالكي أراضي شرق الاردن مصلحياً بالوكالة اليهودية خلفية مواتية لقيام الأمير عبدالله بتوثيق علاقاته السياسية بزعامة الحركة الصهيونية كما ان تحول اليهود الى عامل سياسي مهم في فلسطين بفعل تعاظم موجة الهجرة اليهودية الجديدة دفع الأمير الى الاعتقاد بأن تنمية مثل هذه العلاقات أمر يخدم طموحاته في ضم فلسطين الى امارته، ومن هذا المنطلق حاول اقناع سلطات الانتداب البريطاني بأن توحيد فلسطين وشرق الأردن تحت سيطرته هو الامكانية الوحيدة لحل المشكلة الفلسطينية. ومن الناحية الاخرى فقد هدف من وراء توثيق علاقاته بالحركة الصهيونية الى اقناع زعمائها بأن وحدة من هذا النوع ستكفل لهم الموافقة العربية الرسمية على نشاطهم الاستيطاني، الأمر الذي انطوى في حينه على التعهد بوضع حد لمقاومة عرب فلسطين لذلك النشاط من ناحية وستفتح أمامهم مجالات جديدة وواسعة للاستيطان في شرقي الاردن. وعن أراضي غور الكبد ومشاريع اخرى يشير مؤلف كتاب «جذور الوصاية الاردنية.. دراسة في وثائق الأرشيف الصهيوني» الى ان بداية الاتصال المكثف للأمير عبدالله بالوكالة اليهودية يعود الى أوائل سنة 1932 وهي ذات الفترة التي شهدت بداية ارتباط شيوخ العشائر وقد كانت الدوافع وراء السعي لاقامة مثل ذلك الاتصال متشابهة، وكان الأمير يتصرف هنا كمالك كبير للأراضي وكـ «شيخ مشايخ» دفعه وضعه الاقتصادي الصعب الى البحث عن رؤوس أموال وخبرات فنية أجنبية لاستثمارها على أراضيه أو حتى رهن تلك الأراضي مقابل قروض معينة. وعلى الرغم من ان الوكالة اليهودية لم تشكل بالنسبة الى الأمير سوى أحد مصادر التمويل والاستثمار في البداية إلا انه سرعان ما كانت لارتباطه المصلحي معها أبعاد ومضاعفات سياسية خطيرة، فذلك الارتباط فتح آفاقاً جديدة أمام التحالف السياسي بين الأمير والحركة الصهيونية ونما جزء من سعيه وراء توثيق ذلك التحالف خطوة أولى على طريق اقناع زعامة الحركة الصهيونية من ناحية وسلطات الانتداب البريطاني من الناحية الأخرى بقبول مشروعه لـ «حل» القضية الفلسطينية بتوحيد فلسطين مع شرق الأردن. ويقف الباحث في كتابه الجديد على مدى الخطورة التي نشأت عن ذلك التحالف وذلك على مستوى اجهاض الحركة الوطنية الفلسطينية في السنوات 1936 ـ 1939 وبداية التحول باتجاه تقسيم فلسطين وضم الجزء العربي منها الى شرق الأردن فيما بعد. وفي تقرير عن مقابلة أجراها موشيه شرتوك مع تيسير الدوجي يوم 28/2/1932م معلومات اضافية عن المفاوضات التي تمت بين الأمير وعباس حلمي في تلك الفترة يفهم من هذا التقرير ان تيسير الدوجي قابل حامد الوادي أحد مساعدي الأمير وسأله عن سبب سفره الى سويسرا فقال حامد انه ذهب للتفاوض مع عباس حلمي حول امكانية تطوير أراضي الأمير كما يفهم أيضاً ان عباس حلمي كان شريكاً للمتمول المصري شيكور باشا صاحب «الشركة العقارية» وشركة «الأعمال المصرية» غير ان مهمة حامد الوادي فشلت بسبب رفض الأمير العرض الذي قدمه عباس حلمي بايجار أراضيه لمدة تسعة وتسعين سنة مقابل ألف ليرة في السنة، وقد رد الأمير انه يعنى بشراكة وليس بمجرد ايجار لأراضيه. والظاهر ان الوكالة اليهودية قد ألقت على عاتق تيسير الدوجي ان يقوم في هذه المرحلة المبكرة بالتمهيد لفكرة أخذ الأمير لها متمولاً في الحسبان إذ يضيف شرتوك في التقرير نفسه: «وحدثني الدوجي عن المواضيع التي تحدثت فيها مع الأمير عند دعوة الأخير اياه لتناول الغداء على مائدته، فقد دار الحديث حول ان اليهود عامل مهم في فلسطين وقد وافق الأمير على فكرة كونهم يشكلون بقرة حلوب لعرب فلسطين. غير ان التقرير الذي كتبه موشيه شرتوك حول محادثة أخرى أجراها مع الدوجي يوم 8/2/1932 يشير الى ان الأمير قد أخذ في الوقت نفسه بعض الشركات الأجنبية في الحسبان أيضاً وعلى هذه الخلفية بدأت الوكالة اليهودية تتحرك وخلال أول زيارة قام بها رئيسها حاييم أرلوزوروف للأمير في عمان يوم 14/3/1932 تمت مناقشة المرحلة المبكرة تحت تأثيرين متناقضين فمصالحه كمالك كبير للأراضي وانه يقف على رأس النظام العشائري تدفعه من ناحية الى التعاون مع الوكالة اليهودية غير ان مركزه يحتم عليه أخذ الأبعاد والمضاعفات السياسية التي من الممكن ان تنشأ عن ذلك التعاون على المستوى المحلي والفلسطيني والعربي ايضاً وذلك ما يفسر تريثه في البداية ورفضه الدعوة التي وجهها أرلوزوروف لزيارة احدى المستعمرات اليهودية في فلسطين. ويرى الدكتور سليمان بشير في الفصل الأخير من كتابه الجديد انه مع ان الكثافة السياسية لمسألة التحالف السياسي والمصيري بين الأمير عبدالله والوكالة اليهودية أخذت تتبلور بشكل تدريجي تحولت معه الى قضية هامشية خاصة وان العنصر السياسي فيها موجود منذ البداية، الأمر الذي يفسره عدم الفصل بين الطابع الاقتصادي لنشاط الوكالة اليهودية والأهداف والفلسفة السياسيين اللذين نبع عنهما النشاط الصهيوني في فلسطين ومجمل العوامل التي حددتها طبيعة ارتباط المشروع الصهيوني من ناحية والأمير عبدالله من ناحية أخرى بمصالح الاستعمار البريطاني في المنطقة وأكبر دليل على ذلك هو ان الأمير تفاوض حول مشروع أراضي غور الكبد مع الزعامة السياسية للحركة الصهيونية. وعلى الرغم من ان جوانب الضعف ميزت موقف الحركة الوطنية الفلسطينية ضد هذه الاتفاقية فقد بات من الواضح ان تلك الاتفاقية أصبحت تشكل احدى نقاط الصدام المهمة بين الأمير والحركة الوطنية الفلسطينية، وقد تضمن التقرير الذي أعده موشيه شرتوك يوم 16/2/1933 بعنوان «معلومات جادة» استناداً الى الحديث الذي دار بين الأخير وأهرون كوهين بعض المعلومات المهمة حول ذلك الموقف والدوافع التي كمنت وراء تحدي الأمير المعارضة الوطنية. وفي هذا المجال يشير د. سليمان بشير الى ان قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية أدركت في تلك الفترة المبكرة خطورة التقارب بين الأمير والوكالة اليهودية عن طريق ارتباط كليهما بسلطات الانتداب البريطاني في فلسطين وذلك في وقت حتم هذا التقارب أن يقوم الأمير بدور خطير على ساحة صراع تلك الحركة مع الأهداف الصهيونية وسياسة سلطات الانتداب في مفاوضات لحل القضية الفلسطينية وذلك ضمن المخطط البعيد الذي أخذ يعده لفرض سيطرته على فلسطين، وفي حين اعتقد ان توثيق ذلك الارتباط سيجعله طرفاً مقبولاً لدى الوكالة في تلك المفاوضات، فقد أخذ يسعى للحصول على تفويض مماثل من قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، محاولاً بذلك اقناع سلطات الانتداب البريطاني بأنه الجهة الوحيدة التي تستطيع ان تلعب دور الوسيط المقبول من جانب الطرفين. ومن ناحية أخرى، فقد سعى الأمير من وراء ارتباطه بالحركة الصهيونية الى اقناع الأخير بأنه الطرف العربي الأفضل للتفاوض معه وذلك في اطار ارتباط كل منه ومن تلك الحركة بالسياسة البريطانية في المنطقة حيث يورد التقرير الذي كتبه شرتوك عن زيارته عمان يوم 24/4/1934 طرفا من الآراء التي تبادلها الأمير معه حول ذلك، والظاهر ان رجالات الحركة الصهيونية كانوا على علم بما يسعى اليه الأمير عبدالله من وراء ارتباطه بهم من ناحية وفرض وصايته على عرب فلسطين، من ناحية أخرى وذلك من خلال الرسالة التي بعث بها شرتوك الى الصهيوني البريطاني برويتسكي يوم 7/6/1934م. رنا يوسف