فضل بناء المسجد وعمارته

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن الهدف الرئيس لعمارة المسجد كما أراده الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم، عمارة الإنسان أي استكمال بناء شخصيته الإسلامية الجديدة، انطلاقاً من المسجد، ولذلك فإن المراد من بناء المساجد ليس تشييداً للبنيان، وزخرفة وتزييناً للجدران، بل بناء الإنسان، ولا يتم ذلك إلا ببناء المساجد وتعميرها دون المبالغة في زخرفتها وتزيينها. ومر بنا أن بناء المسجد، هو أول عمل اهتم به الرسول (صلى الله عليه وسلم) حينما قدم المدينة، فنزل في أعلاها ثم أمر ببناء مسجده الشريف وقد عمل فيه بنفسه ليرغب المسلمين في العمل وبناء المساجد، ولقد كان حريصاً على أن يشيد مسجداً في أي مكان تطؤه قدماه، فلما ذهب إلى تبوك وعلى الرغم من ان إقامته بها لم تتجاوز بضع عشرة ليلة إلا أنه أقام بها مسجداً. ولقد أولى الصحابة الكرام بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) أهمية كبيرة لبناء المساجد، وجعلوا بناء المساجد تابعاً لفتح البلاد ونشر الإسلام فيها، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر عمرو بن العاص عندما فتح مصر عام 21 هجرية أن يبني مسجداً، فكان أول عمل قام به عمرو بن العاص رضي الله عنه أن بنى مسجداً عرف فيما بعد بمسجد عمرو وهذا المسجد ما زال قائماً حتى يومنا هذا. والمساجد بيوت الله تعالى وكفاها ذلك شرفاً وعزاً، فمن شرفها فقد شرف الله تعالى، وتعد المساجد من أبرز معالم الحضارة الإسلامية التي تشهد بماضي الأمة المشرق، وحاضرها الزاهر، ولقد كان من أبرز ما يهتم به حكام المسلمين في الماضي والحاضر أن يقوموا بتشييد المساجد وتوسعتها على أساس متين ومظهر لائق، ولقد اعتبر النبي (صلى الله عليه وسلم) المساجد أمارات تدل على إسلام أهل البلد، وهذا دليل على ما للمساجد من أثر بالغ في الإسلام حيث يعد وجودها وعمارتها بالأذان والصلاة صورة حية للمجتمع الإسلامي كما يعني فقدها أو فقد عمارتها إبتعاداً للمجتمع عن الإسلام وتلاشي مظاهره من واقع الناس. قال تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) والرفع إما حقيقي، وهو العلو بالبناء، وإما مجازي، أي إظهار شرفه وتعظيم مكانته ودعاء الناس إليه لأداء الصلاة في أوقاتها الخمس جماعة مع المسلمين، ليزداد عددهم ويكثر جمعهم، ولما كانت المساجد بيوت الله فهي تشع نوراً لأهل السماء كما النجوم تشع نوراً لأهل الأرض. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب، وفي رواية عنها، من بنى مسجداً لله ولو مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة». وكان السلف الصالح يعملون على توسيع المساجد لتتسع لعدد كبير من المصلين إلى كثرة الجماعة. لكي يتعارفوا ويكونوا في كل حي من الأحياء كتلة واحدة وأسرة واحدة يضمهم مسجد واحد، ولا يجوز إذا ضاق على المسلمين مسجد أن يبنوا مسجداً إلى جواره وإنما يوسع فيه، لأن بناء مسجد آخر تفريق لجماعة المسلمين وتقسيم لهم، والمسجد الذي يفرق المسلمين يكون مسجداً ضرراً يجب إغلاقه ليجتمع المسلمون في المسجد الواسع لاسيما أيام الجمع، فقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة يأمره أن يتخذ للجماعة مسجداً، ويتخذ للقبائل مسجداً، فإذا كان يوم الجمعة، انضموا إلى الجماعة فشهدوا الجمعة، وكتب إلى أمراء الأجناد أن يتخذوا في كل مدينة مسجداً واحداً. ومن عادة المسلمين حين يفتحون بلداً جديداً، أن يبدأوا بإقامة مسجد لهم، مقراً للعبادة، والشورى والتعليم، ويكون هذا المسجد نقطة إنطلاق إلى بلد آخر، بالجهاد والدعوة، وهكذا تتوالى الفتوحات الإسلامية، وكأن بناء المسجد في البلاد المفتوحة هو وضع شعار الإسلام على هذه البقعة من الأرض وأنها أصبحت من ديار الإسلام فينطبق عليها ما ينطبق على البلاد الإسلامية من أنظمة وإجراءات وأهمها الدفاع عنها وصيانتها وحمايتها من الأعداء. وكانت تجمع النفقات (التبرعات) لبناء الجوامع أو إضافة البقاع والدور إليها، ففي سنة 226 هجرية كان لأحد الذين نصبوا أنفسهم لهذا الأمر، أثر كبير في توسيع جامع اصفهان، فكان يكلم الرجل بعد الرجل حتى اجتمعت له الجمل الكثيرة، وكان لا يستحقر خاتماً أو قيمته أو لفة غزل أو قيمتها. والمساجد ليست كالأبنية الأخرى، فلها خصوصية في الوقف والبناء والإضافة والتشييد، وذلك لأنها مرتبطة أولاً بالله عز وجل، ثم إنها لجماعة المسلمين، فلا يجوز التعدي عليها بالتغيير والتبديل والهدم والبناء إلا وفق شروط محددة تكون في مجملها في صالح المسجد وأهله. فإذا وقف شخص بقعته مسجداً، فلا يثبت حق الاختصاص فيه لأحد، فلو شرط في الوقف اختصاص المسجد لطائفة ما فلهذا وجهان: أولهما: فساد الشرط، ويفسد الوقف لفساد الشرط. ثانيهما: أن الشرط يصح ويختص بالمذكورين رعاية لشرط الوقف. وأما من بنى المسجد في أرض مغصوبة، أو بخشب مغصوب من مسجد آخر أو من ملك معين، فلا يجوز دخوله أصلاً ولا للجمعة أيضاً، وإن كان مال لا يعرف مالكه، فالورع العدول إلى مسجد آخر إن وجد، فإن لم يجد غيره فلا يترك الجماعة والجمعة، لأنه يحتمل أن يكون من ملك الذي بناه ولو على بعد، وإن لم يكن له مالك معين فهو لمصالح المسلمين، وأما إن كان ذلك في التزيين، فلا يمنع من الدخول لأنه غير منتفع به، إنما هو زينة والأولى أنه لا ينظر إليه. وكره النخعي وغيره من السلف أن يقال: مسجد فلان، لأن المساجد بيوت الله، والمشهور الجواز، وقد أورد البخاري عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وليست الإضافة هنا للملك وإنما هي للتمييز، وقيل ذلك لا يمنع. وكانت المساجد في بعض البلاد الإسلامية تحت إشراف القاضي، ففي عهد الفاطميين وفي القاهرة يقوم القاضي قبل شهر رمضان بثلاثة أيام يطوف على المساجد ينظر حصرها وقناديلها وعماراتها، وقد وقف الخليفة عدداً من الضياع للإنفاق منها على المساجد الجامعة التي يخطب فيها، وعلى قرائها ومؤذنيها. ويكره نقش المساجد واتخاذ الشرفات لها، لأنها تشغل القلب، وروى البيهقي عن أنس مرفوعاً: «ابنوا المساجد واتخذوها جماً»، قال أبو عبيد: الجم الذي لا شُرف له وقال البغوي في شرح السنة: لا يجوز تنقيش المسجد بما لا أحكام فيه، ولا يجوز نقش المسجد من غلة الوقف، وذكر أبو نعيم في الحلية حديثاً مرفوعاً: «إذا ساء عمل قوم زخرفوا مساجدهم» ، وقيل يصح ذلك لما فيه من تعظيم المسجد وإعزاز الدين، عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد»، وروى البخاري في صحيحه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أمر ببناء مسجد وقال: «أكن الناس من المطر، وأياك أن تحمر أو تصفر، فتفتن الناس». «وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إن القوم إذا رفعوا مساجدهم فسدت أعمالهم». د.: سالم سعيد غبار الشامسي

Email