ارتبطت البشرية في كل الحضارات القديمة وحتى الان بشخصية العراف او الكاهن او الساحر, فقد عرفتهم معابد سومر وكنعان واشور والكلدان وبابل والفراعنة والاكاسرة واليونان والرومان والهند والصين, وحيثما كان... هذه الشخصية (الرهيبة) هي شخصية (الكجور) كما نسميها بعربيتنا السودانية الدارجة... يحتل (العراف) في المجتمعات التي تدين بالمعتقدات الوثنية الطوطمية وعبادة الاسلاف او الكواكب او القوى الخفية, يحتل مكانة رفيعة... ذلك ان له سيطرة قوية على كافة افرادها, بحسبانه في اعتقادهم ذا قدرات خارقة تمكنه من ان يكون الوسيط او الصلة بين الانسان العادي والقوى الخفية, التي تعتقد تلك المجتمعات في تأثيرها على مسار حياة الانسان بالخير والشر. وقد اشار القرآن الكريم في كثير من آياته المحكمات الى السحرة, فجاء ذكرهم في قصة سيدنا موسى بن عمران عليه السلام مع الفرعون الذي حشر الناس ضحى وجمع السحرة لمواجهة ما ظنه سحراً من رسول الله الكليم عليه السلام, فاتوا بسحر اذهل الناس, حتى خيل اليهم ان عصيهم وحبالهم حيات تسعى, وابطل الله سحرهم بوحي امر موسى ان يلق عصاه فابتلعت ما كانوا يأفكون... احلام ربيعه وتحفل كتب تاريخ العرب في جاهليتهم بالعديد من الكهان والعرافين والمنجمين اشهرهم (شق) و(سطيح) وقد ورد (تهذيب سيرة ابن هشام) ان ربيعة بن نصر احد ملوك التبابعة في اليمن رأى رؤيا (هالته وفظع بها) فلم يدع كاهنا ولا ساحراً ولا عائفاً ولا منجماً من اهل اليمن الا جمعه اليه فقال لهم (اني رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبروني بتأويلها. قالوا اقصصها علينا نخبرك بتأويلها, قال انه لا يعرف تأوليها الا من عرفها قبل ان اخبره بها.. قال احدهم: فان كان الملك يريد هذا فليبعث الى (سطيح) و(شق) فانه ليس احد اعلم منهما فأرسل اليها, فكان رد (سطيح) رأيت حممه, خرجت من ظلمة فوقعت بارض تهمه, فاكلت منها كل ذات جمجمه, واحلف بما بين الحرتين من حنش لتهبطن ارضكم الحبش, وليملكن ما بين ابين الى جرش وهو بعد زمان الملك بحين, اكثر من سنتين او سبعين من السنين.. وينقطع ملكهم ويقتلون ويخرجون (يلي ذلك ارم بن زي يزن يخرج عليهم من عدن, فلا يترك احداً منهم باليمن) وينقطع سلطانه, يقطعه (نبي ذكي, يأتيه الوحي من العلي) رجل (من ولد غالب بن مضر بن مالك بن النضر).. وقال شق (رأيت حممه خرجت من ظلمه, فوقعت بين أرض وأكمه, أكلت منها كل ذات نسمه) وأحلف (بما بين الحرتين من إنسان, لينزلن أرضكم السودان, فليغلبن على كل طفلة البنان وليملكن ما بين ابين إلى نجران) وهو بعد ملكك بزمان (ثم يستنقذكم عظيم ذو شأن ويذيقهم أشد الهوان) وهو (غلام ليس بدني ولا مدن, يخرج عليهم من بيت ذي يزن, فلا يترك أحداً منهم باليمن) وينقطع سلطانه (برسول مرسل, يأتي بالحق والعدل, بين اهل الدين والفضل, يكون الملك في قومه الى يوم الفصل) ... وكانت هذه نبوءة بغزو الحبش لارض اليمن, واندحارهم على يد سيف بن ذي يزن, وظهور الاسلام على الدين كله... ويحكى ان نبوخذ نصر حلم حلما اقلقه, فجمع الكهنة والعرافين وطلب منهم ان يفسروا له دون ان يقصه عليهم, وعجزوا بالطبع, فانزعجت نفسه, وذهب عنه منامه, واشار احد اعوانه الى دانيال الذي قال للملك: انك قد حلمت بتمثال كبير, كثير البهاء, رأسه من ذهب خالص, وصدره وذراعاه من فضة, وبطنه وفخذاه من نحاس, وساقاه من حديد, وقدماه من حديد وخزف... وجاء حجر وضرب التمثال على قدميه فانهار وانسحق الخزف والحديد والنحاس والفضة والذهب, وصار الحجر جبلا كبيراً ملأ الارض, وفسر دانيال الحلم لنبوخذ نصر قائلاً: انك انت الرأس الذي من ذهب, وتقوم بعدك مملكة اصغر, ثم تكون مملكة ثالثة تتسلط على كل الارض, ثم مملكة رابعة تكون صلبة كالحديد, ثم تتقسم ويكون فيها مثل قوة الحديد والبعض (هش) كالخزف.. اما الحجر فهو المملكة التي تسحق وتفنى كل تلك الممالك وتبقى الى الابد.. وفسرها بعض علماء المسلمين بانها الدين الاسلامي الذي قضى على الكسروية الفارسية وعبادة النار, بينما سيبقى الاسلام الى نهاية الدنيا... الكجور السوداني دراسات وتحتل شخصية (الكجور) او العراف مكانها المرموق في كثير من المناطق السودانية غير الكتابية, وخاصة في الولايات الجنوبية وجبال النوبة في كردفان وفي منطقة الفونج في اعالي النيل الازرق.. وقد استحوذت هذه الشخصية على اهتمام الدارسين في مختلف تخصصات العلوم الاجتماعية من سودانيين واوروبيين.. ونحن هنا نركز على شخصية (الكجور) في منطقة جبال النوبة في غرب السودان, مستعينين بابحاث (الكجور) لمحمد هارون كافي و(الكجور عند النجمانق) للدكتور احمد عبد الرحيم نصر, و(العراف التقليدي) للباحث فرح عيسى محمد... والعراف او (الكجور) في مجتمعات جبال النوبة غير الكتابية شخصية متفردة ومتميزة في المجتمع, لاعتقادهم بانها تتصف بصفات وخصائص لا تتوفر في الانسان العادي, وتمتاز في رأيهم بتكوين روحي يؤهلها للتعامل مع القوى الخفية, وليس كل انسان مؤهل للقيام بذلك الدور الخطير.. والامر حسب اعتقاد القبائل الوثنية السودانية عموماً يقوم على الوراثة, وعلى اختيار القوى الخفية نفسها لمن ترتضيه. واكتساب هذه القدرة غير وارد في اعتقاد قبائل النوبة, الا انه وارد في نظر بعض الشعوب عن طريق الرياضة الروحية او وسائل الالم او القدرة على التحمل, او الرقص العنيف, او (اليوجا) او غير ذلك مما يؤهل الانسان في اعتقادهم لاكتساب الشفافية الروحية التي تمكنه من القيام بدور (الكجور) ... سلخ الوجه وقد ذكر عالم الاجتماع (ميرسيا الياد) ان الافراد الذين يتدربون على شئون (العرافة) يعتقدون في بعض المجتمعات بأن سلخ الطبقتين الاولى والثانية من جلد وجوهم يكسبهم الحساسية المرهفة التي تقودهم لبلوغ (البعد الثالث) وتخطي الحالة الانسانية العادية بتحطيم الاحساس العادي, وخلق احساس متفتح على العالم غير الطبيعي, او عالم القوى الخفية.. ان (الكجور) في مجتمعات جبال النوبة غير الكتابية يتأهل لاكتساب خاصية التفاعل مع القوى الخفية عبر طقوس (اسبار) معينة, تجعل تلك القوى تتصل به أو تكسبه مقدرة اعلى, تؤهله لاداء وظيفته في المجتمع التي لا يمكن لاي انسان اخر ان يؤديها, وهناك اربعة (اسبار) لابد ان يؤديها بفارق أربع سنوات بين كل (سِبْرٍ) وآخر, يتخطى خلالها مراحل العبور الأربعة (الانعزال, التحول, الانفصام, والتطهر) ويكون بعدها (كجورا كاملا) قادرا على اجتراح الأعمال التي يقوم بها في المجتمع. وقد ذكر الباحث السوداني الدكتور أحمد عبدالرحيم نصر في دراسة له عن قبيلة (النجمانق) ـ بادغام حرف الجيم في حرف النون ـ أنهم يعتقدون أن روح الانسان تعيش بعد الموت مدة مساوية لعمر من كانت تحل في جسده!!!. وتسمى في هذه المدة بلهجتهم (قِشِين) واذا قدمت لها القرابين, وعملت لها (الأسبار) اللازمة تحولت الى ما يسمى (كُوْنِي) وأصبحت روحا خالدة, وتقمصت شخص (الكجور) وحلت في جسده!!!, فيصبح قادرا على اداء عمله في القبيلة وتختص كل روح في اعتقادهم بمجال معين. وظيفة هامة ويقوم (الكجور) في اعتقاد المجتمعات التي تؤمن به بدور خطير في حياة الناس, حيث أنه الوحيد في نظرها القادر على التعامل مع القوى الخفية.. فهو الذي يصطحب الأموات الى أن يستقروا في مأواهم.. اذ أن روحه هي الوحيدة القادرة على البقاء في رحلة الانجذاب الروحي, حيث تقدم ـ كما يعتقدون ـ القرابين للقوى الخفية.. وهو الوحيد القادر في اعتقادهم على تطبيب الأرواح والأجساد بطبه الروحاني أو طبه (الفسيولوجي).. وهو مستشار أفراد المجتمع في كافة شئون حياتهم ومماتهم كبيرها وصغيرها, وينظم حياة المجتمع, وهو بهذا وذاك يمثل السلسلة الفقرية في النظام الاجتماعي كله..!! وتعتبر الوظيفة العلاجية من وظائف (الكجور) الهامة, فهو يقدم خدمات علاجية كثيرة لمجتمعه, منها العلاج بالأعشاب, او (الكي بالنار) أو الفصد (الحِجَامَة) وغيرها, ومنها ما يتفق في بعض جوانبه مع الطب النفسي.. ويرى عالم الاجتماع (ليفي اشتراوس) ان الطب الذي يمارسه العراف هو طب يقع بين الطب (الفسيولوجي والطب السيكولوجي) حيث يقوم العراف بخلق علاقة مع المريض من ناحيتي الوعي واللاوعي, مشيرا للتشابه بين طريقة التطبيب في العرافة والتحليل النفسي, وملمحا الى ان دراسة طريقة التطبيب بالعرافة قد توضح نقاطا غامضة في نظرية (فرويد) تتعلق بالأسطورة والعقل الباطن.. مرحلة الانجذاب أن حالة الانجذاب الروحي هي حالة لازمة (للكجور) اذ لا يتم تمييزه عن الآخرين الا بها, فهي الخاصية الأساسية التي يتفرد بها عمن سواه من الناس, وبها يتمتع بالمقدرة الخارقة للطبيعة التي تمكنه من اجتراح الخوارق, والقيام بوظيفته في المجتمع, وهي حالة يفقد خلالها وعيه, وحالته الطبيعية العادية عندما تخالطه الأرواح الخفية وتتقمص جسده.. والتقمص يتم بعدة صور, يبدأ بعضه بنوع من القلق وعدم الاستقرار, ثم يتصاعد الموقف, ويبلغ قمته في ظاهرة الصراخ تقليداً لأصوات بعض الحيوانات, او التلفظ بلغة غير مفهومة, يقال أنها لغة الأسلاف, يعرفها (الكجور) وحده فقط..!! وقد أورد محمد هارون كافي (الباحث الاجتماعي والسياسي المعروف) صورة لحالة الانجذاب هذه فقال: أن (الكجور) يشعر بعدم الاستقرار, ويكون في دوامة من الحركة والصراخ, ومخاطبة الأرواح بلغة لا يعرفها الناس.. وفي الأجزاء الجنوبية من منطقة جبال النوبة يكون (الكجور) في البداية عاديا, ثم تحدث له بعض التحولات مثل التخاطب مع مجهول, أو نثر الماء, أو (البُصَاق) ويشعر في حالة الانجذاب هذه بأن جسده مركب من عدة أجساد بعضها فوق بعض, ويشعر بخفة شديدة في يديه, وبأن هناك أياد أخرى تعينه على فعل ما يريد..!! ولهذه الاسباب فإن (الكجور) كان في عهود سابقة يجمع بين السلطتين الحكومية والروحية, واذا كان زعيم القبيلة أو العمدة أو السلطان في جبال النوبة والولايات الجنوبية ـ ما عدا قبيلة الشلك ـ يمثل السلطة الحكومية, فان (الكجور) في جبال النوبة يمثل السلطة الروحية التي يخضع لها الزعيم نفسه, ولا يتوانى أفراد المجتمع في اظهار بالغ التقدير والاحترام (للكجور).. فهم يحيونه بطريقة خاصة بالغة الاحترام والتوقير, وهو يجلس على السرير بينما الناس كلهم بما فيهم الزعيم يجلسون على الارض, وليس له ان يعمل بيديه, اذ يقوم الجميع بخدمته, ويعملون في مزرعته في كل مراحل الزراعة والحصاد, ويرعون ماشيته, ويبنون منزله, ويجلبون الماء لمنزله.. وحينما يموت فانه يدفن وهو مسجى على سريره داخل القبر..!! ويظهر تقدير المجتمع النوبي الوثني (للكجور) في أغاني المدح التي تشيد بقدراته, وتعدد مآثره, وتنوه بالأفعال الخارقة للعادة التي يجترحها, وتمجد عظمة أسلافه بذكر الأساطير التي تروى عن أفعالهم.. ومما يدل على المكانة الاجتماعية الرفيعة (للكجور) أن الوالد يوصي ابنه عند زواجه بأن: يحافظ على منزل الزوجية, ولا يزني, ولا يخطىء في حق جاره, وأن يعطي (الكجور) حقه من احترام وتوقير وطاعة وقرابين ونذور..!! ورغم هذا التقدير المطلق, فان مجتمع النوبة الوثني لا يجامل (الكجور) اذا ما خرق نظم المعتقدات التي يدينون بها.. وقد ذكر الباحث السوداني فرح عيسى محمد في بحث له عن (الكجور) بأن اتباع (الكجور أونيا) من قبيلة (الدَّلَنْجْ) قد رفعوا ضده دعوى لدى محكمة (الدلنج) الأهلية بأنه قد أساء لمعتقداتهم بقبوله للمساعدات التي قدمها له أحد التجار العرب مقابل أن يترك (التَكْجِير) وينزل من جبل الأسلاف, معتبرين أن ذلك يمثل خيانة لا تغتفر لأرواح الأسلاف, التي كانت تحل في جسده.. وقد قوبل فعله هذا من قبل النساء بأغانٍ تهجوه وتذمه وتندد به..!! التكجير والأساطير أن الأساطير تمثل حجر الزاوية في هيكل طقوس (التكجير) وقد ربطت الدراسات بين ظاهرة (التكجير) والحنين للفردوس المفقود بنزول أبينا آدم عليه السلام من الجنة للأرض, ويحاول الانسان العودة اليه بالأسطورة والرمز, وما يوحي به العقل الباطن.. وقد روى محمد هارون كافي في أغنية لامرأة تسمى (سندوسلفور) أسطورة تقول أن (الكجور) هو في الأصل مخلوق سماوي. التكجير والشعر للشعر والغناء علاقة حميمة وجد وطيدة بشخصية (الكجور) منها ما ينظمه (الكجور) بنفسه في لحظة الانجذاب الروحي, باعتبار أنه تلقاها من السماء منظومة وملحنة, ويتعلق طابعها بأساطير الأسلاف العظام.. ومنها ما يؤلفه الناس, وخاصة النساء, في مدح (الكجور) وتعديد مظاهر قدراته الخارقة.. ويدور الشعر والغناء المتعلق (بالكجور) من حيث الموضوع حول محاور ثلاثة: أولها وأهمها محور الأساطير القديمة المتعلقة بأرواح الأسلاف, وهي تحفل بما يكشف الكثير عن ديانات وثنية قديمة.. أما المحور الثاني فموضوعه مدح (الكجور) وهو يتضمن تفاصيل دقيقة عن دور شخصية (الكجور) في المجتمع.. أما المحور الثالث فهو يتعلق بالموضوعات ذات الطابع الطقسي التي تؤدى في المناسبات الشعائرية كطقوس التعميد والوفاة والانجاب والمطر وغير ذلك.