ما من شجرة تؤثر في وتثير عندي من المشاعر مثل النخلة, ثباتها الأسطوري مهما اشتدت العاصفة, فوائدها التي لا تحصى, رمزها إلى الأبدية.ربما لانني ولدت في ظلالها, حيث صعيد مصر, في جهينة القبيلة العربية العريقة التي استقر فرع منها في محافظة سوهاج, كان والدي رحمه الله يمتلك حوالي مائتي نخلة ورثها عن والده , لم يكن نخيله في مكان واحد, انما كان موزعا على البلدة, هنا وهناك, وأحيانا كان يقف أمام نخلتين منبثقتين من جذر واحد, إحداهما له والأخرى لقريب أو جار, ميراث طويل معقد من الأعراف والقوانين, كان يصحبني ويتوقف أمام كل نخلة ليشير إليها منبها إياي هذه نخلتك.. تعرف إليها.. ولا تنساها.. ثم حدث ان انقطعنا لعدة سنوات عن البلدة, ورحل الوالد. لم أهتم بالشؤون العملية, فتوزع نخيل أبي. تاه مني. فقدته وهو قائم. اختفى وهو ماثل أمامي. صرت أزور جهينة أتطلع إلى النخيل وأتساءل: أين نخيل أبي الذي عرفني عليه, وأضعته بإهمالي. ولما قوي الإحساس بالذنب حكيت ما جرى لواحد من شيوخي وأساتذتي, الشيخ عبد الوارث الدسوقي الصحفي المخضرم, مدير تحرير الأخبار, والمشرف على الصفحة الدينية, أصغى لي ثم قال فجأة: أكتب عن النخيل.. انه يعاني الآن.. أليس للنخيل عندك منزلة؟ الا ترى إهماله؟ نعم.. فللنخيل عندي منزلة وهوى, يضرب بجذوره في عمري, ويبسط ظلال سعفه على أيامي, خاصة نخيل جهينة الباسقات, الأشجار التي تمنح طبيعة صعيدنا رسوخا وأبدية, فالنخلة فرعها في الهواء, منطلقة, محددة, لا تميل مع الهوى, ولا تنحني للأعاصير, سامقة كانها إشارة التوحيد, منها استوحى الفراعنة شكل المسلات, وقدسوها, اعتبروها شجرة الفردوس, وفي سفر التكوين اعتبرت شجرة المعرفة, أما الملك سليمان فنقشها على خاتمه, وحفرها الإغريق على نقدهم. ولكن أرفع تكريم من قبل ومن بعد ورد في القرآن الكريم, انها الشجرة التي أوت إليها سيدتنا العذراء في مخاضها, وهزتها فتساقط عليها رطبا جنيا. وفي حديث منسوب إلى نبينا وشفيعنا رسولنا الكريم انه قال: أكرموا عمتكم النخلة فانها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم, وليس شيء من الشجر يلقح غيرها, وأطعموا نساءكم الولد الرطب فان لم يكن الرطب فالتمر, وليس شيئا من الشجر أكرم على الله جل وعز من شجرة نزلت تحتها مريم ابنة عمران. ورد الحديث بسنده في النهاية في غريب الحديث والأثر والدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة وغريب الحديث لخطابي.. اذن فالنخلة هي عمتنا.. عمة البشر. بالتأكيد.. لم أكن أعرف هذا كله في طفولتي, عندما كنت أمضي بصحبة الأسرة إلى أول أرض لامستها رأسي لنقضي شهور عطلة الصيف, كلما أوغل القطار جنوبا تزداد كثافة النخيل, تقصر المسافات بين أشجاره, يقترب من الخط الحديدي حتى ليكاد السعف ان يلامس العربات المنطلقة, وعند الأفق خط متصل منها, رشيق, باسق, انثوي المشهد, للسعف حضور راقصات راشقات قادمات من أزمنة سحيقة البعد, كنت دائما أحملق إلى النخيل, أطبع حضورها في ذاكرتي الأولى. مرجعية ثمانية كتب خصصت للنخيل في التراث العربي لم تصلنا للأسف, أما ما وصل إلينا فكتاب النخلة لأبي حاتم السجستاني المتوفى عام 255 هجرية, نشر نصه في مجلة المورد العراقية عام ,1985 وكتاب النخل والكرم المنسوب إلى الأصمعي, وكتيب النبطي نشر أيضا في المورد عام ,1971 وهناك فصول وأبواب أفردت للحديث عن النخلة في المصادر التراثية, ومن أحدث ما كتب في أدبنا ذلك الفصل الفريد, الجميل, الذي كتبه الأديب والفنان عبد الفتاح الجمل في رحلته إلى الساحل الشمالي والى واحة سيوة آمون وطواحين الصمت وصدر عن الهيئة المصرية للكتاب عام 1974 وهناك دراسة علمية مركزة للدكتور عثمان خيرت نشرت عام 1970 في مجلة الفنون الشعبية. أما حديث الأغاني الشعبية عن النخيل فلا حصر له, يانخلتين في العلالي يا بلحهم دوا, أو يا جريد النخل العالي طاطي ورد السلام, نجد ذكره في التراث الفرعوني, كانت النخلة شجرة مقدسة, نقشوا صورها على جدران المقابر, عثروا في مقبرة قرب أرمنت على مومياء من عصر ما قبل التاريخ ملفوفة في حصير من وريقات نخل البلح, استخرجوا من منقوع البلح نوعا من الخمر استخدموه في عمليات التحنيط, دخل النخيل حياتهم ومازال, استخدم كأسقف للمنازل, وفي تشييد الحظائر, و عمل الأقفاص , وتجهيز الحصر لتجفيف الجبن القريش, وصناعة الحصر, والمناخل والأطباق, والمراوح والصنادل, والمكانس, والحبال المجدولة من الليف. يقول عبد الفتاح الجمل: لا شيء في النخلة يذهب هدرا, النخلة لا تعرف الهباء, النخلة التي تجعل من خدها للانسان مداسا, ومن قلبها الجمار له طعاما وشرابا سائغا ومشاعا, يطلق روحه كالحمامات من أبراجها, ومن جسدها مأوى وملبسا ومعبرا ووقودا ونارا ودفئا, ومن أطرافها أدوات, مفردات توشي بفن الزخارف من يومه المزغلل بالضوء الباهر, ومن سعفها حمى وطقوسا وظلالا وغناء وحجابا واقيا ورجما بالغيب. كانت جدتي لأمي رحمها الله تصحبني طفلا إلى الساقية التي تدور لتسقي الزرع, كانت عجلتا الساقية مصنوعتان من خشب النخيل, وهذا الخشب يمكث في الماء ويقاومه أكثر من الحديد, لا يفوقه الا شجر الدوم, كانت العجلة تبدو لي كبيرة, هائلة الحجم, أما البئر فعميقة, غويطة, حتى إذا كرت السنون, وركضت الأيام اثر الأيام. عدت إلى موقع الساقية فلم أجد منها في الزيارة الأولى الا بقايا, توقفت عن ري الأرض بعد ان أحيلت للمعاش, عجلة واحدة رأيتها أما الأخرى فلم أدر مصيرها, أما البئر نفسها فبدت لي حفرة ضئيلة, يكاد الردم ان يسويها بالأرض , أما ما افتقدته فرائحة النخيل المبتل بالماء, وعبير الأرض الخصبة, وصرير الساقية, في زيارة تالية لم أجد لها أثرا, فالأرض سويت وحفرت ودقت فيها الخوازيق الأسمنتية, واجتزت النخلات, قام بناء من عدة طوابق, كان لأبي نخلات عزيزة عليه. غزروت يقول داود الانطاكي في تذكرة داود, ان لب النخيل إذا فرش أو لبس حلل الأورام والترهل والاستسقاء, كما انه يسكن البواسير, بعض بدو الصحراء في مصر يستعملون الأشواك الورقية (السل) بعد استبعاد قواعدها وغلي منقوعها في علاج السعال الشديد, ويقال ان مسحوق النوى إذا سحق وجفف يفيد بعض الأمراض الصدرية. تداوي النخلة أمراض البشر, وهي أيضا تعرف الألم, يقول عبد الفتاح الجمل, إذا دق أحدهم مسمارا فيها تبكي وتذرف دموعا مالحة, تفرز مادة صمغية, تجفف ومع الغزروت تسحق وتستخدم كدواء للجروح, وعندما تكبر النخلة وتطعن في السن, حينما تهرم وتضمر فيها عروق الحياة وتتخشب عند الشيخوخة والإحالة إلى المعاش, يقطشون رأسها حتى يتعرى الجمار أصل الحياة والنمو ويعلقون في رقبة النخلة العقيرة مقطفا كالمخلة للحمار, يخدشون الجمار ويثبتون فيه بوصة تصب في اناء, الاناء في المقطف المعلق, والجمار ينز في الاناء عسلا, و كلما جفت طبقة, خدشت طبقة أخرى من الجمار, حتى يعتصروا كل ما فيه . ترى هل تتألم النخلة عند ذبحها كما يذبح الحيوان؟ في التقاليد العربية نجد قمة الكرم عندما يذبح المضيف نخلة إكراما لضيوفه ويطعمهم جمارها, أي قلب النخلة, وهو ثمر طري يشبه اللوز الني. يقول المثل الشعبي (الله يعطيك عمر النخلة) ويقول أيضا (ساقي النخلة له سبعون حسنة) و(عنده المال والنخل حمال) و(يابالع النخلة بسلها) و(في الوش مراية وفي القفا سلاية) و(هزي تمر يا نخلة) ويقولون أيضا (قاطع النخلة عمره قصير) . الخميس / مرجعي إذ أذهب إلى جهينة زائرا أضل عن نخلات أبي, لا أعرف الطريق الآن إليها , ولا أدري ان كانت باقية أم زالت, كان لهذه النخلات عنده منزلة وقيمة, ومعنى, ورث عن جدي لأبي أكثر من ثلاثين نخلة, وخاض ظروفا صعبة حتى لا تنتزع منه, كان يصحبني في طفولتي, يدي في يده, نعبر المنحنيات ورائحة التين العسلية وأشجار الجوافة والماء في القنوات يتدفق كالدم في الشرايين, يلج الحقول المزروعة بالذرة أو القمح أو السمسم, يتوقف أمام نخلات بعينها, يشير إليها قائلا: هذه لنا.. كان يعرفها واحدة, واحدة, يسلك طريق بين مئات النخل المتشابه, المتجاور, المتساوي في الطول, لكنه يشير إلى نخلة بعينها, وينبهني إليها, اذكر واحدة بعينها, كانت تنبثق من الأرض بميل ثم تصعد في الهواء, كنت صغيرا ولم أكن أرى العلاقة الخفية بين أبي وبين النخلات التي ورثها عبر أجيال متعاقبة, وكاد يفقد حياته للحفاظ عليها, وقد فصلت هذا كله في كتاب (تجلياتي يا عم عبد الوارث) لا أذاقك الله فرقة الوحشة والنأي, كان خالي يحصد بلح النخيل كل عام في وقت معلوم, يبيعه ويرسل ثمنه لأبي, ويرسل أيضا مقطفا مليئا بانواع مختلفة من البلح, أذكر منها الأصفر الطويل المسحوب الذي نضج جزء منه فأصبح بني اللون, والأحمر المتجعد, والبني, كنا ننتظره بلهفة, وكان أبي يضع حفنات منه في أكياس ويهديها إلى الأقربين, ثم انقطع هذا عندما أضطر أبي إلى بيعها, يبيع النخلات لينفق على تعليمي.. على تعليمي انا بالتحديد, فما انا أيضا الا ثمرة من ثمار هذا النخل الذي لا أعرف مصيره الآن, ولو نجحت في الوصول إلى نخلة واحدة باقية منه, لسعيت والله وان كنت في أقصى الأرض , وجثوت عند ترابها, حتى وان كانت تخص الغير الآن!! ذقت بلح العراق بانواعه العديدة, وبلح الجزائر المشهور (دجلة نور) , وبلح تونس, وبلح أمريكي, وأقول بتجرد انه ما من أجمل ولا أحلى من البلح المصري, خاصة السيوي منه, والاسيوطي, والسكوتي, يقول كلوت بك ان مصر فيها 84 صنفا, وتقديري انها أكثر, وللأسف فإن هذه الأصناف الجميلة مهدرة, فلا توجد خطة علمية لتصنيع البلح, أو تجفيفه, كما نجحت العراق في تعليب بلح البصرة وحشوه بالجوز واللوز, مازال البلح المصري يجفف بطريقة عتيقة أو يحفظ كعجوة في السلال بنفس الطريقة التي كانت متبعة في العصر الفرعوني, تلك ثروة أهملت, والآن تهدر بعد ان تسرب الإهمال إلى النخل من أهله, وليت الدكتور يوسف والي يهتم بهذه الثروة القومية التي يمكن ان تصدر إلى أوروبا وتدر عملات صعبة, بدلا من اهتمامه بالكانتلوب الإسرائيلي! ولكن يبدو ان إهمال النخل ليس ظاهرة نتفرد بها, بل موجود في أقطار العالم العربي, في أحد الأسواق ببلد عربي نفطي وجدتهم يبيعون بلحا غليظا طويلا, استوردوه من فلوريدا الأمريكية! هكذا يهمل النخل في دياره, وقديما قال الرحالة العرب انه شجر لا يوجد الا في بلاد الإسلام, كرمه الله تعالى بذكره في القرآن الكريم. وفي أبريل من كل عام كان إخواننا المسيحيون يحملون السعف ومازالوا وقد صنعوا منه أشكالا جميلة, إحياء لذكرى عتيقة, عندما لوحوا بالسعف للسيد المسيح يوم الأحد في عيد الشعانين. يوم أحد السعف, انه نفس السعف الذي ضفر منه الفراعنة الأكاليل ورسموها على جدران مقابرهم. انه النخيل الذي دفع كل ما أقتلعه ربع كيلو فضة مقابل النخلة الواحدة, طبقا لشريعة حمورابي. النخلة رمز الخصب, والنماء, وطول العمر.. هذه النخلة مهددة الآن, فهل ينقرض النخل من وادينا بسبب الإهمال وجور الأسمنت, هل يصبح مجرد ذكرى, هل قدر لنا ان تتحول كل الأشياء الجميلة إلى أطياف بعيدة. حقا.. أتمنى يا شيخنا عبد الوارث الدسوقي الا يقع ذلك أبدا.