خسر الادب اللبناني والعربي واحدا من ابرز معطائيه ادبا وفكرا ولغة وترجمة وتعريبا ونثرا وتدريسا في القرن العشرين, الاديب والكاتب اللبناني منير بعلبكي (تزامل) مع المفكر قسطنطين زريق اثناء دراسته في الجامعة الامريكية في بيروت, حيث تولى رئاسة تحرير مجلة تصدرها (جمعية العروة الوثقى) التي انشأها الطلاب آنذاك, وكان الدكتور زريق مشرفا على المجلة تنقل بين التدريس في بيروت وبغداد والقاهرة, والنشر في (دار العلم للملايين) التي انشأها مع شقيقيه عفيف ومحمد البعلبكي (نقيب الصحافة اللبنانية حاليا), وبهيج عثمان, كذلك في مجلة (الآداب) التي اصدرها (1953) مع صديقيه الدكتور سهيل ادريس وعثمان, اضافة الى التأليف والترجمة ووضع المعاجم والقواميس اللغوية الرائدة. برحيل البعلبكي عضو (مجمع اللغة العربية) في القاهرة والذي انتسب اليه عام 1984, يغيب كما يقول هاشم قاسم, احد الاساتذة الكبار الذين اهتموا باللغة العربية وطوروها. منير البعلبكي ينتمي الى جيل تحدر ثقافيا وادبيا من جيل التحفز والنهوض والبحث عن الجديد, فضلا عن الرصانة الاكاديمية والدقة العلمية والبعد الثقافي العميق. ولانه عاش قيم الانفتاح الثقافي والفكري والادبي, ادرك ضرورة التواصل والتفاعل مع الفكر التاريخي الغربي والعالمي, خاصة ان بيئته كانت تدفعه دوما الى ضرورة الاطلاع على آداب الشعوب الاخري ولغاتها وفضاءاتها الفكرية والانسانية. في هذا السياق اكب منير البعلبكي على ترجمة اعمال ادبية غربية مهمة لشارل ديكنز وهمنجواي وسواهما, وقدم الى القارىء اللبناني والعربي اهم اعلام الفكر الانساني, مثل غاندي. ومن اجل ذلك كله شكلت الكتب والروايات والمؤلفات التاريخية مادة اساسية في ثقافة جيل الخمسينات والستينات. وبهذا المعنى كان منير البعلبكي, او ترجماته, الظاهرة اللافتة في فترة معينة من حياتنا الثقافية بين الادب واللغة والتاريخ والنشر, عاش منير البعلبكي عمره كله منقبا وباحثا مجددا ومضيفا كأنه يقلب صفحات النقص في جوانب الذات العامة محاولا الاضافة والتجديد, بتصميم الصامت وتواضع المؤمن. مرحلة الخمسينات الاديب محمد يوسف نجم كان على علاقة وثقى مع البعلبكي منذ الخمسينات. يروي عنها قائلاً: كنت في القاهرة مع انيس الخوري المقدسي, نعمل معا في معهد الدراسات العربية الذي انشأته جامعة الدول العربية عام 1953 اذا بنا نفاجأ, مطلع ذلك العام, بمجلة (الاداب) التي اصدرتها (دار العلم للملايين) بالاشتراك مع د. سهيل ادريس. وبعدما قرأنا العدد أفاض الخوري ثناء على البعلبكي, على غير عادته, وذكر انه احد اربعة او خمسة من تلاميذه الذين تركوا اثرا في نفسه, بعدها عدت الى بيروت والتحقت بالعمل في الجامعة وحرصت على ان اصل حبال الود بيني وبين منير, ذهبت اليه في (دار العلم للملايين) فرحب بي عضوا في الدار واهداني عددا من كتبه ولزمته بعد ذلك ولزمت كتبه وكنت كلما قرأت من ترجماته ازددت اعجابا بالجهد الذي يبذله. اتحاد الكتاب اللبنانيين ويكمل محمد يوسف نجم عن مرحلة الستينات فيقول: انشأنا اتحاد الكتاب اللبنانيين الذي ضم د. قسطنطين زريق وجوزف مغيزل وادونيس وسهيل ادريس وحسين مروة, وكنت انا ومنير عضوين فيه كان د. زريق ومنير حكيمي ميزانا مهما في تهدئة الخلافات وترجيح الآراء. وفي سبتمبر 1969, دعي وفد من الاتحاد لزيارة الاتحاد السوفييتي والتعرف على أدبائه والتباحث في العلاقات العربية السوفييتية, وأدهشني منير في تلك الاجتماعات باطلاعه الواسع على المذاهب الاقتصادية والسياسية, ومعرفته الوثيقة بالفكر الاشتراكي اما اخلاقه فكانت منزهة عن الصغائر, تتجسد فيها أجمل معاني الطيبة والاخلاص والمودة الصادقة المصفاة, وانتاجه الادبي الذي وجهه في المقام الاول الى ترجمة روائع الادب الاجنبي يضعه في مكان الصدارة مع المترجمين العظام في نهضتنا الحديثة امثال احمد فتحي زغلول, واحمد لطفي السيد, واحمد زكي, وابراهيم عبدالقادر المازني, ومحمد بدران, وفؤاد زكريا, وسامي الدروبي. خبرته الطويلة في الترجمة اتاحت له ان يصدر قاموسه المتميز الفذ (المورد) , والى جانب هذا العمل العظيم, تألقت (موسوعة المورد) التي سدت فراغا هائلا في المكتبة العربية. رأي لابنه بدوره, يتوقف النجل الاكبر للاديب الراحل, وهو الدكتور روحي البعلبكي, الرئيس السابق لاتحاد الكتاب والادباء اللبنانيين والمتابع لمسيرة (دار العلم للملايين) عند سيرة والده فيوضح انه ولد عام 1918 في بيروت من اسرة بيروتية مرموقة, انتقل أحد اجدادها القدامى من مدينة بعلبك الى العاصمة فاشتهر باسم البعلبكي, تخرج من الجامعة الامريكية عام 1938 في الادب العربي والتاريخ الاسلامي بدرجة بكالوريوس وكان لشدة تفوقه, يدّرس الصف الذي تخرج منه وهو لا يزال طالبا. وقد عين استاذاً للأدب العربي والتاريخ الاسلامي من الجامعة الأمريكية, ثم انتقل ليدرس في كلية الملك فيصل ببغداد, والكلية العلمية الوطنية في دمشق, وكلية البنات الأهلية في بيروت, وكلية المقاصد الخيرية الاسلامية في بيروت. في سنة 1945 ترك التدريس واختار مهنة نشر الكتب وإصدارها, فأنشأ مع زميله المرحوم بهيج عثمان مؤسسة (دار العلم للملايين) التي كانت ولاتزال مؤسسة رائدة في عالم النشر واحدى أكبر دور النشر العربية واهمها. اشتهر بقاموس المورد انجليزي ــ عربي, وموسوعة المورد (11 مجلدا), ومجموعة كبيرة من الكتب المدرسية وذاع صيته كأحد أهم المترجمين, إذ عّرب: (البؤساء) لفيكتور هيجو كاملة (في خمسة مجلدات), قصة تجاربي مع الحقيقة للمهاتما غاندي, الاسلام والعرب لروم لاندو, دفاع عن الاسلام لقاجليري, تاريخ الشعوب الاسلامية لكارل بروكلمان, حياة محمد ورسالته للنبي محمد, قصة مدينتين لتشارلز ديكنز, كوخ العم توم لهربين ستاو, المواطن توم بين لهوارد فاست, الشيخ والبحر لأرنست همنجواي, قصة اللاعنف في جنوب أفريقيا للمهاتما غاندي, رواد الفكر الاشتراكي للبروفيسور كول, كيف تفكر للدكتور جبسون, وسواها عشرات. انتخب عام 1982 عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة وممثلا للبنان فيه, ونال عدة جوائز منها: جائزة أصدقاء الكتاب, وجائزة سعيد عقل, وجائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي, وجائزة الناشرين العرب. وشارك في تأسيس العديد من الهيئات الثقافية والجمعيات الفكرية, منها اتحاد الكتاب اللبنانيين, وجمعية أصدقاء الكتاب, وسواهما. وكانت حياته حافلة بالمواقف الوطنية الحازمة, والثوابت القومية الصائبة, والإسهامات العلمية, والعطاءات الإنسانية, يدافع عن العرب والعروبة, ويفضح أحابيل الصهاينة ومخططاتهم. بيروت ــ رانيا يونس