جمع الموروث الفني.. حفظ لمفردات الماضي

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

الموروثات الفنّيّة

إنّ الاهتمام بالفنون الشّعبيّة تحديداً ما هو إلا انعكاس طبيعي للحياة الاجتماعيّة التي تمرّ بها الدولة، ويتطلّب ذلك إعداداً جيّداً لاستيعاب هذه الفنون وتوثيقها وإنشاء معاهد متخصّصة لتدريسها وتعليمها.

وهنا علينا أن نشير إلى أنّ كثيراً من حَمَلة التراث رواة الغناء التقليدي قد رحلوا قبل أن يتمّ جمْعه، في المقابِل توجد قلّة من حمَلَة التراث لا تزال تحتفظ ببقيّة من الغناء والأداء الفنّيّ القديم. بالإضافة إلى زحف الفنون الحديثة من غناء محلّيّ أو عربيّ أو أجنبيّ، ووصوله إلى معاقل الفنون التقليديّة بطرق مختلفة، وبلغات شتّى.

وتنال الموسيقى الشعبيّة وما يصاحبها من رقص وأهازيج حظّاً لا بأس به من وجدان الشعوب، ويندر أن يوجد شعب بدون وجود فنّ له حركاته وأداؤه ورقصاته وأغانيه المتناغمة. وهي بمجموعها تعبّر عن أحاسيس وجدانيّة لذلك الشعب.

وتعدّ عروض الفُرجَة الشّعبيّة أو الترفيه بكلّ أشكالها التقليديّة بمعناها العامّ والشامل، سواء كانت منها المتجوّلة أو المستقرّة، فالأولى: تعني المواكب والزفّات، والثانية: تعني المناسبات والأعياد والموالد والمناسبات الشّعبيّة الخاصّة من حفلات الختان والأعراس.

وتشمل عروض الترفيه كلّ أنواع الأداء الجماعيّ بما فيه من رقص أو استعمال رمزيّ للأدوات كالعصيّ أو السيوف، والآلات المستعملة والملابس المستعملة في الرقص. وكانت الجماهير الشّعبيّة تشارك في هذه العروض بعضها ارتجالاً والبعض الآخر كانت له خبرة من مشاركات سابقة. وعادة ما يكون دخولها عفويّاً وتلقائيّاً.

الفنّ والطبائع

ينبع الإطراب من حبّ الطرب نفسه، ويُقبِل النّاس على الفنون لسهولتها ولكونها ترويحاً عن النّفس بعد التعب، والجهد. أو تُقبِل على الفنون مَحبّة، ورغبة في بعض التغيير، وتُقبِل على الفنون كلّما انتشرتْ أكثر، وكلّما تنوّعتْ حسب البيئات التي تتنوّع في عموم أراضي الإمارات، ولكلّ بيئة فنّها المتميزّة به، فأهل الساحل يتميزّون بالفنون البحريّة، وأهل البادية عندهم فنون الرزفة والحربيّة، وأهل الريف أو النّخيل فعندهم فنّ الوهابيّة والرزيف، وأهل المناطق الجبليّة عندهم مثلاً فنّ الرواح وغيره، بالإضافة إلى فنون الساحل الشرقيّ المتنوّعة. ولكن كثيراً من تلك الفنون لم توثّق بعد.

وأضْحى الطرب مرغوباً فيه تمضية للوقت، وكسْراً للرتابة، وتسلية للنّفس، فمثلاً يغنّي أهل البحر إذا استراحوا وأرادوا كسْر الوقت، والتخفيف عن النّفس. كما كانوا يغنّون بدون مناسبة فقط لمجرّد الترويح والتسلية.

وهَوس صاحب المنيور يعني وصوله إلى قمّة العذوبة في الأداء الفنّي. وهو يشعر بمَن حوله فيزيد طرباً حين يعلم بوجود نساء في المسطاح يقمن بفرز التمور وتهيئتها للحفظ في الخروس أو اليرب وإعدادها للدلاج، فيركّب شلّة غزليّة لعلّه يعني إحداهنّ بها فيطربها ويطرب مَن حولها.

وحين يغنّي البيدار فهو يتناغم مع صوت المنيور، وإذا لم يغنِّ فإنّه سيشعر بالوحشة، وسوف تستوحش دنياه. وفي حقيقة الأمر لولا وجود أناس يطربون له لمَا غنّى وتغنّى بصوت شجيّ يكسر المَلَل، ويلطّف جوّ الرتابة، ويخفّف عنه التعب، ويشغل به نفسه، ويمضّي به وقته. وصدور الصوت الجميل من المنيور يدلّ على طِيبه وأصالته.

وكان الفلّاحون أيضاً يغنّون على المنامات في أماسي القيظ. إذ حينها لا توجد ملهيات ولا مشاحنات، وصاحب المزاج الرائق ربما يدندن على قرع الطبل أو بدون طبل حتى ولو هو بنفسه في بيته. وربما أحدهم يشلّ بنفسه بما يحفظ من أشعار أو من نظمه هو. وهذه الفنون بحدّ ذاتها تعدّ مهرباً من عناء الحياة القاسية، لا بالنّسبة إلى الفنّان وحده بل بالنّسبة إلى متذوّق الفنّ أيضاً. ففيها نتخلّص من ضغط الحياة ومصاعب الصحّة والمال.

وهنا يمكننا القول بأنّ العمل اليدوي، وكما يقول عبد العزيز البشري: إنّ كثيراً من الفنون تدعو إليها ضرورات الحياة، وتندرج ضمنها استراحة الإنسان إلى تنغيم الطيور وتسجيعها وتغريدها وترجيعها، وما يجد ذلك من طرب ويدخله من أريحيّة قد بعثه هو الآخر على التنغيم والترنيم. ويمكن أن تُسمّى بأغاني العمل. وكانت في بداية ظهورها تسهم في تشكيل الصوت، وتقديمه في هيئة أغانٍ وأنغام وحركة ورقصات لا تخلو أغلبها من إبداع.

وهذا التداول يعني حصول هذه الأغاني على قبول واستحسان وإعجاب الجماعة بأداء المبدع الفنّيّ في قوله أو لحنه أو موسيقاه. وما يصدر عن البيدار وهو يعمل في اليازرة هو غناء ممزوج بالعاطفة، والذّكريات الجميلة التي يتخيّلها هذا الإنسان العادي وهو يسقي بساتين النّخيل.

ويندرج هذا الغناء ضمن الأداء الفرديّ المعتمد على قوّة الصوت وحلاوته وأسلوب أدائه. ومثل هذه الأداءات الفنّيّة تعبّر عن الوجدان الجمعي لأنّها تعكس ذاتيّة الإنسان. وتقدّم للمجموعة نوعاً من إطراب الذات، وتمتّعها بذاكرة تجعلها تنتقل بالرواية الشفهيّة لأنّ جزءاً كبيراً منها غير مدوّن. وهي مع ذلك فإنّها تلعب دوراً وطنيّاً مهمّاً في الحفاظ على ثقافة الإمارات.

ومن الجدير بالذِّكر أنّه حين تُدرس الأغاني الشّعبيّة يجب الانتباه إلى مناسبة أداء كلّ أغنية، ومَن الذي يؤدّيها، وما هي الآلات المصاحبة لها، سواء كانت أدوات عمل أو آلات إيقاع أو آلات موسيقيّة. وعلينا في الوقت نفسه التعرّف على وظيفة الأغنية من النّاحية الاجتماعيّة والثقافيّة والتربويّة النّفسيّة. كما علينا إدراك الشكل الفنّيّ المستخدم للتعبير عن أحاسيس المؤدّين ومشاعرهم.

النّظرة السّلبيّة والواقع

وبطبيعة الحال كانت كلّ الفنون موجودة في مجتمع الإمارات بأنواعها، وهي متعدّدة بغضّ النّظر عن اختلاف آراء النّاس حولها. ومن الجدير بالذِّكر أنّ النّظرة السلبيّة لبعضها لم تكن أصلاً موجودة في السابق.

ومثل هذه النّظرة السلبيّة تنتشر الآن بالوسائل المعاصرة، وربما يفتي في مثل هذه الفنون شباب صغار يفتون بأمور لا يعلمون أصول تلك الفنون، ولم يمارسوها، فيقولون: هذا الفنّ غير أصليّ، وهذا الفنّ أتى من كذا مكان. وهذا يشير إلى عدم دراية، وعدم اطّلاع.

وفي هذه الحالة على الإنسان اللجوء إلى الأصل وأهل الخبرة الذي عاصروا نشأة تلك الفنون ونقلوا أخبارها إلى الأجيال اللاحقة التي تواصلتْ مع أولئك السابقين. وما أجمل مسمّى: «الفنّان الشّعبيّ» حين يطلق على المؤّدين الكبار الذين انغمسوا في هذا الفنّ الرائع، بل هو مفخرة بالنّسبة لهم لأنّه يعيدهم إلى التراث القديم بكلّ ما فيه من روعة وجمال.

وهذه الفنون الشّعبيّة يشارك فيها الأهالي من كلّ شرائح المجتمع، وكأنّ ذلك يوحي بالقول إنّ الفنّ يجمعهم على حبّ السماع وتذوّقه بل بعضهم يعدّ لها عدّة من الزينة في الملابس والتمنطق بالخنجر، واللعب بالسيف، والإيماء بالبنادق المزركشة.

من الظواهر

ومن الجدير بالذِّكر أنّ من الظواهر التي تتكرّر كثيراً تحوير وتبادل تسميات أنماط الموسيقى التقليديّة إذ يطرأ على هذه التسميات بعض التصحيف والتبديل بين الاسم وبين هيئته الأصليّة والمحوّرة، ويتطوّر ذلك عبر الزمن، وممّا يحدث مثل هذه التحويرات النّقل الشفهي من جيلٍ إلى جيل. كما يحدث في الوقت نفسه تعدّد تسمية النّمط الواحد، واختلاف التسميات باختلاف المواقع الجغرافيّة التي يعرف فيها هذا النّمط.

بالإضافة إلى أنّ تسمية تلك الأنماط ربما يشار إلى مجموعة منها بمصطلح واحد يسمّيها كلّها. إلا أنّ المؤدّين الكبار السابقين لم يشغل بالهم تفسير المعنى أكثر من انشغالهم بأداء الفنّ نفسه. وربما لم يدركوا كُنه معناه، ولم يدخلوا في متاهات تفسيراته التي ربما خاض فيها الباحثون المعاصرون.

ومن الجدير بالذِّكر أنّ كثيراً من الأحداث المهمّة والكبرى قد دُوّنتْ وسُجّلتْ على أيدي عدد من المتخصّصين في التاريخ والوثائق والاجتماع، إلا أنّ كثيراً من الفنون الشّعبيّة اندثرتْ أو هي في طريقها إلى الاندثار. وبقي بعضها اسماً دون أن يكون له واقعاً ملموساً.

ومن هنا وجب جمْع ما تبقّى من موروث فنّيّ قبل فقدان ناقِليه، ومهما كانت بعض المحاولات غير دقيقة أو غير ممنهجة في الجمْع الميداني، إلا أنّها تظلّ مع قصورها تحافظ على الموروث الفنّيّ من خلال تدوينه وتسجيله.

 

Email