محمود سامي البارودي (1).. شاعر مسكون بحب الوطن

ت + ت - الحجم الطبيعي

يرتبط الشعر صعوداً وهبوطاً بحال الأمة، ففي تاريخ الأمم يزدهر بازدهار حضارتها ويضعف ويصيبه الوهن بالتخلف الذي تعاني منه.

ولم يخالف الشعر العربي هذه القاعدة، فكانت قوته مرتبطة بقوة الدولة العربية وحضارة الأمة أو تخلفها إلى أن عرفنا عصور الازدهار وعصور الانحطاط في تاريخ الشعر العربي.

خلال ثمانمئة عام من الحضارة العربية في الأندلس شهد الشعر العربي نهضة قوية وتطوراً مميزاً في الأسلوب وفي الرقي بمستوى الشعر عموماً.

بعد انتهاء الحكم العثماني للبلاد العربية في العصر الحديث بدأ الشعر العربي والأدب العربي عموماً في الظهور وحمل رسالة التطور والتقدم.

واستعرضنا في الأسابيع السابقة بعض شعراء العصر الحديث من تاريخنا مثل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، ونلتقي اليوم بقمة شامخة لم تقل عطاءً عنهما وهو الشاعر العربي محمود سامي البارودي.

وكالعادة نتحدث معه من خلال عودتنا إلى زمانه أو رجوعه إلى زماننا.

قلت: شاعرنا الكبير.. ولدت في القاهرة أليس كذلك؟

قال: نعم.. وفي السادس من أكتوبر 1839.

قلت: هل أنت عربي؟

قال: سؤال غريب، أبعد كل هذا التاريخ في خدمة بلدي مصر وفي آيات الشعر العربي الذي نظمته تسألني إن كنت عربياً أم لا.

قلت: أسألك لأن والديك من الجراكسة.

قال: ولكنهما عاشا وانتميا إلى مصر، ومصر بلد عربي، وأنا ابن مصر، لا أعرف وطناً غيرها.

قلت: ولكن لماذا أطلق على عائلتكم اسم البارودي؟

قال: لأننا ننتسب إلى قرية ايتاي البارود التابعة لمحافظة البحيرة في مصر.

قلت: يقال إنك نشأت في أسرة غنية.

قال: هذا صحيح، فقد كان أبي ضابطاً في الجيش المصري برتبة لواء.

قلت: عشت في كنف والد ذي سلطان ومال إذن؟

قال: لم يرحمني الزمن، فقد توفي والدي وأنا في السابعة من عمري.

قلت: هل دخلت المدرسة؟

قال: تلقيت دروسي الأولى في بيتي، حيث تعلمت القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم.

قلت: والمدرسة؟

قال: التحقت بالمدرسة الحربية سنة 1852.

قلت: والشعر.. كيف بدأت تنظمه؟

قال: في فترة دراستي في الكلية الحربية والتي استمرت أربع سنوات، قرأت خلالها بشغف كل ما وقعت عليه عيناي من شعر الفحول القدماء.

قلت: وماذا فعلت بعد التخرج في المدرسة الحربية؟

قال: تخرجت فيها برتبة باش جاويش ثم سافرت إلى إسطنبول مقر الخلافة العثمانية ملتحقاً بوزارة الخارجية.

قلت: يقال إنك هناك أتقنت اللغتين التركية والفارسية.

قال: كان لديّ شغف لمطالعة آداب الأتراك والفرس وحفظ بعض الأشعار بلغتها الأصلية وقد نجحت في ذلك.

قلت: هل حاولت نظم الشعر بهاتين اللغتين؟

قال: نعم.. نظمت الشعر باللغتين التركية والفارسية إضافة إلى الشعر باللغة العربية.

قلت: ومتى عدت إلى مصر من إسطنبول؟

قال: بعد تولي الخديوي إسماعيل العرش، سافر إلى العاصمة العثمانية لتقديم آيات الشكر والولاء للخلافة، وهناك ألحقني بحاشيته وعدت معه إلى مصر بعد غيبة طويلة امتدت ثماني سنوات.

قلت: ولكنك لم تبقَ طويلاً مع حاشية الخديوي.

قال: تعودت الحياة العسكرية ودفعني الحنين إليها إلى العودة إليها برتبة بكباشي.

قلت: شاعرنا الكبير محمود سامي البارودي أنت شاركت في الحملة العسكرية التي خرجت من مصر لإخماد ما سميت بالفتنة في جزيرة كريت عام 1865.

قال: نعم.. أديت واجبي بإطاعة ولي الأمر في وطني.

قلت: يقال إنك أبليت بلاءً حسناً.

قال: قمت بواجبي لا أكثر.

قلت: عدت من حرب كريت لتعمل ياوراً خاصاً للخديوي إسماعيل لمدة ثمانية أعوام.

قال: أنت حتى الآن لم تفتح باب الشعر الذي هو أهم ما تركته لكم من قولي وفعلي.

قلت: سنفتح هذا الباب حالاً.. ولكن قبل ذلك أنت شاركت كقائد عسكري في حربين.. حرب كريت وحرب العثمانيين ضد روسيا ورومانيا وبلغاريا والصرب.

قال: نعم.. كنت من قادة الحملة العسكرية المصرية المساندة للعثمانيين.

قلت: حاربت في أوكرانيا أيضاً.

قال: نعم.. ولكن مع الأسف فشلت هذه الحملة وانهزم العثمانيون واضطروا لتوقيع معاهدة سان استيفانو في مارس 1878.

قلت: ومع ذلك الفشل فزت أنت برتبة لواء وبالوسام المجيدي ونيشان الشرف، ثم أصبحت محافظاً للقاهرة.

قال: أراك تحاول النيل من إنجازاتي وسيرتي المشرفة.

قلت: حاشا لله، ولكن أحاول تسجيل الحقائق كما هي.

قال: الحقيقة هو أن مصر كانت في بداية عهد النهضة والوعي لإنقاذ العالم العربي والإسلامي من الاستعمار.

قلت: في هذه الأجواء يمكن أن يشتعل الشعر وأن يكون للشاعر موقف تجسده قصائده.

قال: نعم.. هذا صحيح.. وقد كانت لي عدة قصائد عبارة عن صرخات لإيقاظ النيام وتنبيه الغافلين.

قلت: أعتقد أن قصيدتكم الطويلة «قلدت جيد المعالي حلية الغزل» هي أوضح مثال على شعرك في تلك الفترة فماذا قلت فيها؟

قال:

قَلَّدْتُ جِيـدَ المَعَــالِي حُلْيَةَ الغَــزَلِ

وَقُلْتُ فِي الْجِـــدِّ مَا أَغْنَى عَنِ الْهَزَلِ

 

أَهِيــمُ بِالبِيضِ فِي الأَغْمَادِ بَاسِمَةً

عَنْ غُرَّةِ النَّصْرِ لاَ بِالبِيضِ فِي الكِلَلِ

 

لَوْلاَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الخَلْقِ مَا ظَهَرَتْ

مَـزِيَّــةُ الْفَـرْقِ بَيْــنَ الْحَليِ وَالعَطَـلِ

 

حَلَبْتُ أَشْطُـرَ هَـذَا الدَّهْــرِ تَجْرِبَــةً

وَذُقْتُ مَا فِيهِ مِنْ صَــابٍ وَمِنْ عَسَلِ

 

فمَا وَجَـــدْتُ عَلَى الأَيَّــامِ بَــاقِيَـــةً

أَشْهَى إِلَى النَّفْسِ مِنْ حُـرِّيَّــةِ العَمَلِ

 

لَكِنَّنَـــا غَــرَضٌ لِلشَّــرِّ فِي زَمَــــنٍ

أَهْــلُ العُقُــولِ بِهِ فِي طَــاعَـةِ الخَمَلِ

 

قَامَتْ بِهِ مِنْ رِجَـالِ السُّوءِ طَــائِفَةٌ

أَدْهَى عَلَى النَّفْسِ مِنْ بُؤْسٍ عَلَى ثَكَلِ

 

ذَلَّتْ بِهِمْ مِصْرُ بَعْدَ العِزِّ وَاضْطَرَبَتْ

قَــوَاعِــــدُ المُلْكِ حَتَّى ظَـــــلَّ فِي خَلَلِ

 

قلت: كنت شاعراً جريئاً صريحاً رغم المديح الذي كنت تقدمه للخديوي إسماعيل ثم ابنه الخديوي توفيق.

قال: أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم، هذا كلام الله وليس كلامي.

قلت: عندما تولّى الخديوي توفيق الحكم سنة 1879 أصبحت ناظراً للمعارف والأوقاف، وكانت لكم قصيدة في تحيته.

قال: لم تكن لتحيته فحسب، بل كنت أستحثه فيها على إصدار الدستور وتأييد الشورى.

قلت: فماذا قلت؟

قال: قلت:

سُنَّ الْمَشُـورَةَ فَهِيَ أَفْضَــلُ خُطَّةٍ

يَجْــرِي عَلَيْهَـا كُـلُّ رَاعٍ مُـــرْشِـــدِ

 

هِيَ عِصْمَةُ الدِّينِ الَّتِي أَوْحَى بِهَا

رَبُّ العِـبَــــادِ إِلَى النَّبِيِّ مُحَمَّـــــــدِ

 

فَمَنِ اسْتَعَـــانَ بِهَا تَــأَيَّـــدَ مُلْكُــهُ

وَمَنِ اسْتَهَــانَ بِأَمْـرِهَــا لَمْ يـرْشـدِ

 

أَمْــرَانِ مَا اجْتَمَعَــا لِقَـائِـــدِ أُمَّــةٍ

إِلَّا جَنَى بِهِمَـــا ثِمَـــــارَ السُّـــــؤْدُدِ

 

جَمْعٌ يَكُــونُ الأَمْـــرُ فِي مَا بَيْنَهُــــمْ

شُـورَى وجُنْــدٌ لِلْعَـــدُوِّ بِمَـرْصَـــدِ

 

فَاعْكُفْ عَلَى الشُّورَى تَجِدْ فِي طَيِّهَا

مِنْ بَيِّنَــاتِ الحُكْــمِ مَا لَمْ يُـــوجَـــدِ

 

لاَ غَرْوَ أَنْ أَبْصَرْتَ في صَفَحَـاتِهَـــا

صُـوَرَ الحَــوَادِثِ فَهْيَ مِرْآةُ الْغَـــدِ

 

فَالعَقْـلُ كَالمِنْظَــارِ يُبْصِــرُ مَا نَــأَى

عَنْـهُ قَـريبــاً دُونَ لَمْـسٍ بِـاليَــــــدِ

 

وَكَفَــاكَ عِلْمُكَ بِالأُمُــورِ وَلَيْسَ مَنْ

سَلَكَ السَّبِيــلَ كَجَــائِـــرٍ لَمْ يَهْتَــــدِ

 

فَلَأَنْتَ أَوَّلُ مَـنْ أَفَــــادَ بِعَــــدْلِـــــهِ

حُـــرِّيَّـــةَ الأَخْـــلاَقِ بَعْـــدَ تَعَبُّـــــدِ

 

أَطْلَقْـتَ كُـلَّ مُقَيَّـــــــدٍ وَحَلَلْـتَ كُــلّ

مُعَقَّــــــدٍ وَجَمَعْــتَ كُــلَّ مُبَــــــــدَّدِ

 

وَتَمَتَّعَتْ بِالعَــدْلِ مِنْــكَ رَعِيَّـــــــةٌ

كَــانَتْ فَرِيسَــــةَ كُـلِّ بَـــاغٍ مُعْتَـــدِ

 

فاسْلَمْ لِخَيْـــرِ وِلايَـــةٍ عَــزَّتْ بِهَا

نَفْـسُ النَّصِيــحِ وذَلَّ كُـلُّ مُفَنَّـــــــدِ

 

وَتَـأَلَّفَـتْ بَعْـــدَ العَـــدَاوَةِ أَنْفُــسٌ

سَكَنَتْ بِعَــدْلِكَ في نَعِيـــمٍ سَــرْمَــدِ

 

فَحَبَــاكَ رَبُّـكَ بِالْجَمِيــلِ كَـرَامَــةً

لِجَــزِيــلِ مَـا أَوْلَيْتَ أُمَّــةَ أَحْمَـــــدِ

 

وَتَهَــنَّ بِالْمُلْكِ الَّــذِي أَلْبَسْتَـــــهُ

شَـرَفـاً بِمِثْـــلِ رِدَائِــهِ لَمْ يَــــرْتَـــدِ

 

بَزَغَتْ بِهِ شَمْسُ الْهِدَايَةِ بَعْدَ مَا

أَفَلَتْ وَأَبْصَــرَ كُـلُّ طَــرْفٍ أَرْمَـــــدِ

 

لَمْ يَبْقَ مِنْ ذِي خَلَّةٍ إِلَّا اغْتَــدَى

بِجَمِيـــلِ صُنْعِــكَ مَصْــدَراً لِلْوُفَّــــدِ

 

فَاسْعَدْ وَدُمْ وَاغْنَمْ وَجُدْ وانْعَمْ وَسُدْ

وَابْــدَأْ وَعُــدْ وَتَهَــنَّ وَاسْلَـمْ وَازْدَدِ

 

لاَ زَالَ عَــدْلُكَ فِي الأَنَــامِ مُخَلَّـــداً

فَالعَـــدْلُ فِي الأَيَّــامِ خَيْــــرُ مُخَلَّــــدِ

Email