الاقتصاد الثقافي.. دبي رؤية بطبيعة استشرافية

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المتعارف عليه أن «الاقتصاد الثقافي» و«الاقتصاد الإبداعي» و«الصناعات الثقافية» و«الصناعات الإبداعية» هي مفاهيم جديدة، أقدم تاريخ لها في التداول العام يعود إلى فترة قصيرة من ستينيات القرن الماضي، باعتباره تخصصاً مستقلاً في الدراسات الاقتصادية، قبل أن تغيب كأنما لم تكن، مدة تزيد على ثلاثين عاماً.

ظهرت هذه المفاهيم، في ذلك الوقت، باعتبارها قبسات من أفكار مستقبلية، لذا فالأمر بما يتعلق بها ذلك الحين لم يقتصر على حقيقة أنها لم تجد طريقها إلى التداول العام فقط، بل كذلك لم تدخل حيز الممارسة الفعلية، ولم يتم الاعتراف بها من خلال تجارب عملية.

بالمقابل، نجد اليوم هذه الأفكار وقد أضحت جزءاً رئيساً من منظومة الأفكار واسعة الانتشار، ذات الحضور في مضمار النشاط الاقتصادي، وكذلك في إدارة العمل الثقافي. وتلفت الانتباه إلى نفسها، وتسجل حضوراً ملحوظاً ومتزايداً في السنوات الأخيرة، في أغلب الاقتصادات ومنظومات العمل الحكومي المعنية بالأنشطة الثقافية، كما أنها باتت في صلب التغطيات الصحافية اليومية، على مستوى العالم، وكذلك في سياق الحياة اليومية في الدولة. وبدأت تظهر في استراتيجيات خاصة على المستويين الاتحادي والمحلي، إلى أن وجدت ترجمة وعناية خاصة في التوجهات الاقتصادية الجديدة للدولة.

تحولات

وفي دبي، تحديداً، شهدنا قبل نحو عامين تحولاً لافتاً، فقد كلف صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في أواخر العام 2019، سمو الشيخة لطيفة بنت محمد بن راشد آل مكتوم (ماجستير إدارة الأعمال التنفيذية وبكالوريوس في علوم الأعمال بتخصص التسويق)، بترؤس هيئة دبي للثقافة والفنون «دبي للثقافة». وقد اقترن هذا التعيين بمهمة ذات أولوية خاصة هي وضع خارطة طريق استراتيجية لعمل الهيئة على مدار سنوات ست مقبلة (2025).

وفي ربيع العام الماضي، أطلق سموه استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي، التي تستهدف مضاعفة إسهام القطاع الإبداعي في الناتج المحلي الإجمالي لإمارة دبي.

ويمكن لهذا الاهتمام المتعاظم بـ«الاقتصاد الثقافي» أن يعطي انطباعاً غير دقيق عن تاريخه في دولة الإمارات العربية المتحدة، فيظنه البعض اتجاهاً مستحدثاً وطارئاً، أو يغفل آخرون عن طبيعته، فيظنونه مجرد استراتيجية أو مجموعة من القرارات والتوجيهات، التي لا تذهب إلى أبعد من إعادة صياغة الخطاب الحكومي، بما يتواءم مع لغة العصر، وهو ليس كذلك بالمطلق.

رؤية

إذا كان لنا أن نتحدث عن رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وما تتسم به هذه الرؤية من قدرة استشرافية عالية، وعن طبيعة نموذج دبي الفريد، الذي يبدي قدرة كبيرة على استيعاب أحدث المفاهيم، وتوظيف الأفكار الجديدة، واعتماد موديلات العمل المبتكرة، فإن قطاع «الاقتصاد الثقافي» هو واحد من أفضل الأمثلة على ذلك، ومن أكثرها دلالة.

ولنعد إلى تسلسل الأحداث:

- في ستينيات القرن المنصرم ظهر للمرة الأولى مصطلح «الصناعات الإبداعية»، بعد ذلك غاب نسبياً لأعوام من التداول ليعاود الظهور أواخر القرن المنصرم، ليضع نفسه عند تقاطع الأفكار الاقتصادية مع الإبداع والقيم الاجتماعية القائمة على تحفيز المعرفة والمواهب، وبالطبع المفاهيم المتعلقة بالاستدامة.

- أواخر تسعينيات القرن الماضي، بدأت تظهر أفكار البريطاني جون هوبكنز في هذا المضمار، وكان صداها في ذلك الحين موضعياً، ومحدوداً، يتردد في دوائر مغلقة نسبياً، وضمن تجارب معزولة، ما عنى أنها كانت بعيدة عن إحداث صدى إعلامي، يضعها في صدارة السجالات العامة.

- في عام 1998، قامت بريطانيا بأول محاولة لقياس حجم هذا القطاع وتأثيره المباشر في اقتصادها، ونشرت الحكومة البريطانية حينها ما اعتبر خريطة تعريفية لهذا القطاع، أُدرج فيها 13 مجالاً مكوناً له، باعتبارها مجالات تعتمد على الإبداع الفردي والمهارة والموهبة ولديها في الوقت ذاته القدرة على تكوين ثروة من خلال حقوق الملكية الفكرية.

- انطلاقاً من مطلع الألفية الجديدة، بدأت تظهر الأدبيات التي تتناول «الاقتصاد الثقافي» ومجالاته، حيث برزت جهود البريطاني جون هوبكنز في الترويج لهذا المفهوم (2001). وفي العام التالي، ظهر مصطلح «الاقتصاد البرتقالي»، الذي صاغه الكولومبيان، فيليبى بويتراغو ريستريبو وإيفان دوكي ماركيز، في كتاب «الاقتصاد البرتقالي: فرص لا حصر لها».

- في العام الماضي (2021) تزايدت أهمية «الاقتصاد الثقافي» مع ثبوت دوره الحاسم في تعزيز التنمية المستدامة، لا سيما على وقع الجائحة، ما دفع بالأمم المتحدة إلى تسمية العام 2021 عاماً للاقتصاد الإبداعي، ما مثل اعترافاً عالمياً بهذا القطاع وأهميته.

تسلسل

إن مقارنة هذا التسلسل الزمني لبروز «الاقتصاد الثقافي» ودوره، وصولاً إلى الاعتراف العالمي به، مع سيرة هذا القطاع في دبي، لا يمكن إلا أن يثير الإعجاب فعلاً، ويوضح على نحو باهر رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وما تتسم به هذه الرؤية من قدرة استشرافية عالية، وعن طبيعة نموذج دبي الفريد، الذي يبدي قدرة كبيرة على استيعاب أحدث المفاهيم.

فلننتقل إلى تسلسل علاقة دبي بقطاع «الاقتصاد الثقافي»:

- بدأت دبي مسيرة «الاقتصاد الثقافي» بإطلاق مشاريع تأسيس مجمعات إبداعية متطورة في مختلف القطاعات، مثل: مدينة دبي للإنترنت (1999)، ومدينة دبي للإعلام (2000)، ومدينة دبي للإنتاج (2003)، ومدينة دبي للاستوديوهات (2005)، وحي دبي للتصميم (2013).

- التركيز على إطلاق الفعاليات الكبرى ذات الطابع الترفيهي والتسويقي والمؤتمرات والمعارض المتخصصة واستضافة الفعاليات الدولية، وتعزيز السياحة على مستوى البنية التحتية وفي جانب ابتكار خدمات ومستويات جديدة من الرفاهية.

- التركيز على الثقافة المحلية، من خلال إيلاء الحرف والصناعات التقليدية والفنون الشعبية اهتماماً خاصاً جاء مقروناً بإعادة ترميم الأحياء القديمة، وخلق مواقع جذب سياحية، إلى جانب الاهتمام بقطاع المتاحف.

- التركيز على تحويل دبي إلى علامة تجارية رائجة ومفضلة، وتوجيه قطاع الإعمار من مجرد تلبية الحاجات الإسكانية المباشرة إلى مشروعات تسوق نمط حياة حديث وعصري، مرتبط بمستوى عالٍ من جودة الحياة والرفاهية، المرتبطة بنموذج دبي وعلامتها التجارية.

- تحويل المرافق العامة في دبي إلى مناطق عرض وبيئات صديقة للأنشطة الإبداعية، لا سيما الفنية منها، بالإضافة إلى الجهود التي سعت إلى خلق قيمة ثقافية مضافة، والاهتمام بالثروات غير المادية (الموارد البشرية واللغة العربية والمفردات التراثية على سبيل المثال)، وتحويل دبي إلى بيئة جاذبة للمبدعين، من خلال الحوافز والتسهيلات المختلفة.

- إعادة هيكلة البيئة التشريعية بما يعزز استعدادات دبي، والدولة عموماً، للتحول إلى واحد من أكثر مراكز الاقتصاد الثقافي نجاحاً. وشمل ذلك منظومة قوانين وإجراءات حيوية تستقطب الأنشطة الثقافية، والأعمال القائمة عليها.

- إيجاد وتفعيل المؤسسات المنظمة والحاضنة لأنشطة الاقتصاد الثقافي، على المستويين الحكومي والخاص، ووضع الاستراتيجيات والخطط الطموحة في هذا المجال.

وفي اختصار لهذا التسلسل، يمكن الإشارة إلى أن مجالات الاقتصاد الإبداعي، وفقاً لهوبكنز، تشمل الجماليات، والعلامات التجارية، ونماذج الأعمال (سلاسل القيمة)، والشبكات (الأنظمة والإيكولوجيا)، والثقافة (القيم الجوهرية والأدوات)، والتعليم والتعلم، والملكية الفكرية (الملكية والمفتوحة)، والإدارة، والرقمية وعبر الإنترنت، والتسعير، والإحصاءات العامة (التعريفات)، والبرمجيات، والشركات الناشئة، والتصميم الحضري. كما أن المفهوم وآليات تجسيده على أرض الواقع يحيل إلى مفاهيم مثل «الصناعات الإبداعية» و«المدن الإبداعية» و«الاقتصادات الرقمية» و«الملكية الفكرية».

وهذه كلها تقع في صلب تجربة دبي في هذا المضمار، على مدار العشرين عاماً المنصرمة.

مواكبة

إن نظرة سريعة تقارن بين هذين التسلسلين تفيد على الفور بأن رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ودبي، كانا يسيران جنباً إلى جنب، وأولاً بأول، مع أحدث المستجدات والأفكار المتعلقة بـ«الاقتصاد الثقافي» في العالم، لا يتأخران عنها، ولا يتوانيان في تجسيدها على أرض الواقع في ممارسات عملية.

ومن هنا، فإن كان لأحد أن يصف علاقة دبي بـ«الاقتصاد الثقافي»، فلن يكون هناك تعبير أفضل وأكثر دقة من «المواكبة» الحثيثة، حيث بدأت علاقتها بهذا القطاع مبكراً، ومنذ ظهور الأفكار الناضجة الأولى لهذا المفهوم، ما يدعو للقول إن نموذج «الاقتصاد الثقافي»، الذي تقدمه دبي، يعد واحداً من أول النماذج الناجحة.

في الواقع، لا يمثل «الاقتصاد الثقافي» قطاعاً مستحدثاً. وكما يقول جون هوبكنز: «الإبداع ليس جديداً، ولا علم الاقتصاد. الجديد هو طبيعة العلاقة بينهما»، غير أن الأمر لا يتعلق بما هو «جديد» على وجه التحديد، بل بتلك المقاربة العصرية الحديثة، التي تربط مجالين، لطالما كان ينظر إليهما على أنهما منفصلان ومتباعدان، في منظومة واحدة.

وهذا الطابع العصري الحديث لهذه المقاربة هو، بالذات، ذلك الحبل السري الذي يربط بين دبي و«الاقتصاد الإبداعي». أما دبي نفسها، فتبدو تقاطعاً حميداً للرؤية مع النظرة الاستشرافية.

Email