ما هو المهم؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

في التجربة النفسية الشهيرة لعالم النفس الاجتماعي سولومان آش توضيح للطريقة التي يعمل فيها الذهن وسط الجماعات. تضمنت التجربة أن يشارك أشخاص عدة في تحدٍ، جميع المشاركين فيه ممثلون إلا واحداً، وسيطلب منهم ملاحظة ما يعرض على لوح معروض أمامهم، ومن ثم الإجابة عن أسئلة واضحة ولا تحتاج لقدر عالٍ من الذكاء أو قوة الملاحظة، وسيقوم المشاركون الممثلون بتقديم إجابات خاطئة في كل مرة يسألون فيها، مما يجعل المشارك الوحيد الذي لا يملك أي فكرة عن التجربة أن يقوم بتقديم الإجابات الخاطئة نفسها رغم وضوح ملامح الارتباك وعدم الموافقة عليه.

إن ضغط الأقران والرغبة في الانتماء قد تغير معتقداتنا وآرائنا وتوجهاتنا، وتؤثر على تصرفاتنا كأفراد وحتى كمجتمع، ورغم أن معظم الناس تدعي القوة والتماسك عندما يتعلق الموضوع بتوجهها وفكرها إلا أن هذه التجربة أثبتت أنه من الطبيعي أن يذعن ويغير الإنسان فكره تحت الضغط الاجتماعي والنمط السائد.

إن الإذعان لضغط الأقران كصفة اجتماعية، أمر طبيعي وضروري في الواقع. ذلك لأن الرغبة الدفينة في الانخراط وسط مجموعة والشعور بالانتماء وعدم الاختلاف، والإحساس الدفين بالربكة والحيرة عند الاختلاف، هذه الأحاسيس في الواقع وجدت لأجل البقاء على الرتم البشري الاجتماعي.

حيث إن هذه المشاعر اللا إرادية التي تنتاب الفرد، من الناحية الاجتماعية، تقوم بتسهيل مسيرة المجتمع والإبقاء على جريانه وتمدده الطبيعي. وأما من الناحية الفردية، فإنها تقوم بدور جرس الإنذار الذي يحذر المرء ويحميه من المخاطر.

على سبيل المثال لو أن مجموعة من الأشخاص ينظرون إلى جهة معينة وقام شخص بالإعراض عن النظر بسبب عدم شعوره بالرغبة بمواكبة هذا السيل الجماعي الذي ينظر إلى تلك الجهة، فإنه من المحتمل أن يعرض نفسه إلى خطر الضرر، كون أن ذلك الشيء الذي ينظر إليه الجميع كان سيارة مسرعة. إن أدمغتنا تكيفت ونمت لكي توفر لنا أسس البقاء والعيش. والإذعان تحت ضغط الأقران والمجتمع ليس إلا أحد تلك الغرائز.

تكمن خطورة الرغبة في الإذعان والاندماج مع الأقران عندما تنشأ حالة تدعى في علم النفس الاجتماعي بـ«التنافر المعرفي»، وهي كما يعرفها ليون فستنغر عالم النفس الشهير، على أنها الحالة العقلية التي تنتاب الفرد عندما يجد نفسه أمام فكرتين متناقضين ومتعاكستين، وهي الفكرة التي يؤمن بها والفكرة السائدة في المجتمع، فيقوم الذهن بمحاولة التبرير والتنسيق بين الفكرتين والإنكار وإبعاد مزيد من المعلومات التي قد تزيد من حالة التناقض، وغيرها من المحاولات، كي يصل لحل منطقي يعيش من خلاله حالة من الاتساق والسلام الداخلي.

الخطورة الأخرى في الرغبة في الاندماج، هي الإذعان المعلوماتي. وهي الحالة التي تجعل الفرد الذي تنقصه الخبرة والمعرفة في أمر ما يبحث عما هو سائد ومتعارف عليه ليصبح فكره واعتقاده الشخصي.

من المهم جداً أن يتعلم الإنسان مهارة الإذعان والتميز. وهي أن يعرف متى ينخرط ويساير التيار الاجتماعي وتمدده، ومتى يكبح شعوره الجامح في الاندماج والاختفاء وسط المجتمع، وأن يتخذ موقفاً صادقاً وحقيقياً على الأقل داخل حالته الذهنية والفكرية. فرغم وجود فوائد اجتماعية وفردية في الرغبة الإنسانية الدفينة في الاندماج والتطابق مع المجموعات والأقران، إلا أن الوعي عن هذه الرغبة وطريقة عمل الدماغ تجاهها أمر مهم للغاية، لما تنطوي أيضاً من مخاطر قد تجعل الإنسان ضحية للتلاعب والتغييب والتسفيه به وبأفكاره وتوجهاته دون أن يشعر.

Email