مهرجان موسيقى الرعاة يسرد ثنائية "الأرض والإنسان" بـ "أفلة" الموريتانية.. فيديو

ت + ت - الحجم الطبيعي

ينتصب فندق «فريدي» على رابية من الرمل الصّقيل، مطلا على مدينة الطينطان، المحفوفة بالأودية والجبال.. هنا منطقة «أفلّة» في الشرق الموريتاني، هنا قصة قديمة من تعلق الإنسان بأرضه، يحكيها مهرجان موسيقى الرعاة الدولي.

تحولت ساحة «الثقافة والفنون» التابعة للفندق، إلى قبلة لسكان مدينة الطينطان، والقرى القريبة منها، فالجميع متحمسون لأول مهرجان، بهذا الحجم، يقام في مدينتهم.

الحماس يضج في وجوه الشبان وهم يرتدون زيهم الموحد، بطابعه البدوي الذي يمزج بين اللونين الأبيض والأسود، الشبيه بملابس فرقة «الجمالة»، يتولون تنظيم حركة الوافدين على ساحة المهرجان.

اللافتات والصور تتحدث عن «مهرجان موسيقى الرعاة الدولي»، أما سكان المدينة فهو بالنسبة لهم «مهرجان الطينطان»، فتبرعت النسوة بالخيام والفراش، وتولى الشباب العمل المستمر منذ أسابيع.

المدينة التي ارتبطت في أذهان الموريتانيين بالفيضانات، وما تبعها من إعادة إعمار أثارت الكثير من الإحباط، تسعى اليوم لتقديم نفسها بشكل مختلف، من خلال حدث ثقافي وفني ورياضي وبيئي، يحمل شعار «الإنسان والأرض».

يقول القائمون على المهرجان إنه سيعيد سرد حكاية «الإنسان والأرض»، عبر نمط جديد من العمل الثقافي والفني، يلامس حياة الناس، وينبش في الماضي القريب بحثا عن ملامح مستقبل مشرق، على حد تعبير أحد المنظمين.

الحلم والفكرة

قبل قرابة عقدين من الزمن، كانت الشرارة الأولى، لتحقيق حلم ظل يراود الصحفي محمد فال ولد بوخوصه، فأسر به لبعض رفاقه؛ مشروع ثقافي يلقي الضوء على منطقة «أفلّه»، ليكتشف الموريتانيون والعالم كنوزها المخفية.

سالم دندو، المدير الفني لمهرجان موسيقى الرعاة، قال في حديث مع «صحراء ميديا» إن منطقة أفلّه هي «الكنز المخفي» الذي يتوجب على الجميع اكتشافه.

وأضاف: «إنها أرض معطاء، تاريخها يشهد على ذلك، إذ إنها شكلت لعصور طويلة  نقطة ربط بين الشمال والجنوب، فيها تلتقي القوافل، وتتفاعل الثقافات والشعوب».

حاولت اللجنة العليا لمهرجان موسيقى الرعاة، تطوير فكرة جوهرية تتمحور حول ثنائية «الإنسان والأرض»، وكان الإنسان هنا هو «الراعي»، فيما يعلق أحد المنظمين موضحا أن «كلمة الراعي هنا بمفهومها الواسع»؛ أي رعاة الثقافة والفن والعمران والحضارة.

يقدم المهرجان نفسه على أنه موسم ثقافي فني رياضي بيئي سنوي، يبرز حياة الإنسان الموريتاني في وسطه الأصلي «البادية»، ويسلط الضوء على «عبقرية الإنسان البدوي» حين كان يعتمد على نفسه، فأصبح «صانع جمال وفن وعلم وحضارة، وصاحب ذوق فني رفيع وعطاء فكري زاخر، رغم صعوبة الظروف وحالة التنقل الدائم».

القرية النموذجية

مزرعة «فريدي» تقع على بعد عدة كيلومترات خارج الطينطان، في واد من الطلح متنوع التضاريس، تحفه كدية «فريدي» التي أخذت المزرعة اسمها، لتجسد «البيئة الأصلية» للبادية التي عاش فيها الإنسان الموريتاني خلال القرن التاسع عشر.

هناك أقيمت «القرية النموذجية»، التي كان دخولها والتجول فيها سفرا عبر الزمن، وعودة إلى جذور الإنسان الموريتاني بمختلف مشاربها؛ «فريك» من خيام تعكس التنوع الاجتماعي للبيظان، و«كصر» يفوح من أكواخه عبق ثقافة قبائل الفلان.

سكان القرية النموذجية أهلُ بادية، يعيشون حياتهم كما هي، لا يمثلون ولا يتصنّعون، هي حياتهم يعرضونها لمن ابتلعتهم المدن، ويتملكهم الحنين لمشاهدة حياة عرفوها في السابق، أو سمعوها في حكايات الجدات.

أهازيج ورقص على أنغام «النيفارة»، وخيول تدق بحوافرها الأرض على إيقاع الطبول، وغير بعيد فنانة تداعب بأناملها أوتار «آردين»، وهناك في الخلفية سيدة تدندن على إيقاع «لمدكه والمهراز» وهي تطحن الحبوب، حتى كأنها تراقص الريح.

نسوة منهمكات في خياطة خيمة من الوبر، وصوت احتكاك رتيب قادم من الخيمة المجاورة، حيث تحرك فتاة الرحى لطحن الزرع، إلى جوار والدتها التي تخض اللبن في «شكوة».

رجلٌ وقور، ملامحه حادة ولحيته البيضاء تزيده هيبة، منقطع عن العالم ليصنع «نعلا» من نبتة «تورجه»، يُلبس في موسم الأمطار، فلا يتضرر بالماء والطين، ويتأقلم مع تقلب الأجواء.

من الخيمة المجاورة ترتفع أصوات أطفال يرتلون القرآن، تحت أنظار شيخهم الجالس على «خبطة» ترتفع نصف متر عن الأرض، صنعت من أعواد «الكوصان».

افتتحت «القرية النموذجية» بشكل رسمي صباح أمس السبت، ضمن فعاليات النسخة الأولى من مهرجان موسيقى الرعاة الدولي، زارها مسؤولون ومثقفون، وكانت محجا لسكان الطينطان.

المخرج العالمي عبد الرحمن سيساكو، تجول في القرية النموذجية، ووصفها في تصريح لـ «صحراء ميديا» بأنها «مبهرة وساحرة»، وقال: «لقد عشت لحظات استثنائية، شكرا لمحمد فال بوخوصه، وللفريق الذي معه، على منحي فرصة اكتشاف هذا الجمال».

وأضاف سيساكو الذي تمت تسميته سفيرا ثقافيا متنقلا لموريتانيا: «المكان والمناظر وحدها ثروة لا تقدر بثمن، واستغلالها وإعادة اكتشافها نجاح في حد ذاته».

ويضيف سيسكو الحاصل على عدة جوائز دولية: «ما شاهدته وما سمعته من موسيقى، شيء لا يصدق، بالطبع لن أقول إن هذا أجمل مهرجان حضرته، ولكن يمكنني تأكيد أنني منبهر جدا».

وخلص المخرج العالمي إلى القول: «ما أتمناه هو أن يتشجع آخرون على أخذ مبادرات مشابهة، لتنظيم مثل هذا النوع من الأنشطة، لأن ثقافتنا وتنوعها هو أكبر ثروة نملكها، ومن دون إبرازها والحفاظ عليها سنفقد هذه الثروة إلى الأبد».

فعاليات متنوعة

افتتح المهرجان مساء أمس السبت، ولكن فعالياته المختلفة بدأت منذ عدة أيام، على غرار معرض المنتوجات والصناعات التقليدية، الذي شاركت فيه التعاونيات النسوية وهيئات المجتمع المدني القادمة من بلديات الطينطان التسع.

يقول سالم دندو: «تحضير المعرض وإعداد القرية النموذجية، لم يأخذ منا جهدا كبيرا، وقد فوجئنا بحجم الثراء الذي تزخر به المنطقة، ولكنها للأسف خارج دائرة الضوء».

يحاول المهرجان أن يكسر جدار العزلة من حول منطقة «أفلّه»، ويحولها إلى عاصمة للثقافة والفن، عبر مهرجان سنوي تغني فيه الطينطان للإنسان والأرض.

Email