ساجدة الموسوي: تجلياتي الشاعرية بدأت مع النخيل

ت + ت - الحجم الطبيعي

من أبرز شاعرات الوطن العربي، الرائدة في العمل النسوي، الشاعرة التي أطلق عليها الشعب العراقي «نخلة العراق»، وأطلق عليها فاروق شوشة «شاعرة الشتات»، أصدرت 17 ديواناً، وترجمت أشعارها إلى لغات عالمية، ونالت العديد من الميداليات والأوسمة، وشاركت في عشرات الندوات، وكُرمت عربياً وعالمياً، وكتبت لخدمة الوطن،

واليوم تحاورها صحيفة «البيان»، وتخرج لنا بلغتها الأنيقة الممتلئة بالحكمة والجمال، وسيرتها بدت أشبه بسيرة حق لإنسانة كابدت بُعدَ الوطن، ونداء القصيد، لتؤسس عبورها بوعي وهي تخطط في شتاتها لوحتها السريالية المنصتة لرسائل السلام.

- كيف بدأت ساجدة مع الشعر؟ وبمن تأثرت حتى تصبح اليوم شاعرة بهذه المكانة الجمالية؟

قبل أن تبزغ أول قصيدة كتبتها وعمري اثنا عشر عاماً، كنتُ أعيشُ تجلياتي الشاعرية مع الشجر والنخيل الفارع في البستان القريب من بيتنا، مع هديل اليمام، ورائحة الطلع، كنت لا ألعب بالدمى كبقية البنات، لأن أمي كانت كل عام تلد، وأرى في الطفل الجديد دميتي، كنت أساعد أمي وحين يأتي المساء وننام على السطح تبدأ لعبتي.

حيث أشكّل أحلامي بشخصيات النجوم، وأستحضر الشمس والقمر والغيوم والمطر والريح، فأشكّل منهم قصصاً وحوارات لا يسمعها سواي، أما أول إنسان أثّر فيّ أمّي، التي كانت تحفظ القرآن الكريم، والكثير من الشعر العربي والشعبي والأمثال والحكم، ثم والدي الذي حرص على تعليمي وشجعني، ومؤثرات أخرى كأخويَّ اللذين يكبرانني واهتمامهم بالكتب، ثم المدرسة، في كل ذلك وجدت ضالتي وهي أن أقرأ وأقرأ، كنت أنهل حتى بزغت، ثم ترعرعت، ثم زادتني تجارب الحياة خبرةً ووعياً وما زلت أتعلّم.

- بعد احتلال العراق وخروجك منه، حدثينا عن هذه التجربة وكيف بات هذا التبدد على أدبك؟

وضعتِ إصبعك على الجرح الغائر يا ريم، كان لا بد من الخروج، بل الهرب من وطني الذي داسته أقدام الغزاة، وما كان ملاذي سوى الشعر وأنا أنتقل من سوريا، فليبيا، حتى حططت رحالي في هذا البلد الطيب الأمين. كنت كالشاعرة السومرية «أنخيدوانا» بعد ذهاب ملك أبيها، هي كتبت معاناتها شعراً وأنا كذلك جسدت معاناتي وآلام شعبي من خلال عشرة دواوين بعضها نشر في سوريا.

والآخر هنا في دولة الإمارات، عدا ما نشرته في العراق من دواوين. رحم الله الشاعر واللغوي الكبير فاروق شوشة، الذي كتب عن ديواني (بكيت العراق) في مجلة العربي الكويتية فسماني (شاعرة الشتات)، وسماني العراقيون والعرب (نخلة العراق).

سر البلاغة

- كيف تشتق الشاعرة ساجدة روح مفرداتها السابحة في الأسرار؟

سر البلاغة في اللغة هو القرآن الكريم، فأنا قارئة مدمنة عليه، وكذلك الشعر العربي قديمه وحديثه، وأعتقد أن كل ما نقرأه من أدب يغيض ثم يفيض، وهذا من أسرار اللغة العربية، التي تمنح من يزاولها ويحبها قدرة على الانفتاح البلاغي والتعبير المؤثر دون يتعمد أو يقصد ذلك.

- يقال إنه منذ أن بدأ الشعر بدأ ناضجاً، إلا أن النقد أخذ قروناً لينضج، فهل تستمع الشاعرة ساجدة إلى النقاد؟

أنا أطلع على ما يكتبه النقاد، فالنقد معرفة ضرورية للأديب بشرط عدم وضع خريطة للقوانين النقدية والتقيّد بها، حينذاك يفقد الأديب عفويته الإبداعية، وأنا أجُلُّ النقاد وجهدهم بالرغم من شحّة النقد وضعف حركته.

- بين الشاعرة والشاعر مسافة شعرية مقروءة، فهل الفارق جوهري بين شعريهما، أم أنها فنون الصور من نظم وكتابة؟

لا أعتقد بوجود فارق بين ما تكتبه الشاعرة أو يكتبه الشاعر من حيث التجلّي والقدرة على الإبداع، ولكن هناك فروق تعكسها سيكولوجية المرأة ونظرتها للأمور، في حين أن نظرة الرجل كما في الحياة تختلف عن نظرة المرأة، وهذا الاختلاف لا يقلل من شاعرية المرأة وإبداعها.

- لكِ في قصيدة المفتاح نظرية إنسانية عميقة، حدثينا عن هذا الفعل اللغوي؟

نعم، فيها تحريض لاتخاذ الموقف الإنساني واللمسة الإنسانية، نحن جميعاً بحاجة إلى تلك اللمسة، وذلك الموقف وقد يكون بكلمة طيبة تدخل القلب فتريحه وتغسل همومه، فبعض الكلمات لها وقع السّحرِ على الإنسان إن عرف كيف يقولها.

- على الرغم من الرقة في شعرك، والمحبة والسلام في شخصك، فمتى إذاً تبدأ لديكِ المكيدة الشعرية، ومتى تعمل أعماقك المشاغبة؟

حين نعيش بعصرٍ تتوفر فيه كل أنواع المكائد وهو عصر مشاغب ويعتريه الجنون، فيتوجب علينا أن نتمسك بالعقل والحكمة كي لا تتيه سفينتنا ونفقد البوصلة.

من قصائد ساجدة الموسوي (عرسُ دبي)

وناخت على رملها أنجمٌ واستراحت

وتلك النّخيلُ بأعذاقها قد أضاءت

سليلةُ جودٍ وما مثلها في الوجودِ

تنام العيون على زندها آمنات

وأعينُها سهرت

ما استراحت

ـــــــــــــــــــــــ

تقول: جميلٌ هواي

على الحرِّ والقرِّ نعماءُ بردٍ ودفءٍ

وماءٍ ووردٍ

ويشمخ كالطّودِ.. يشمخُ حتى ذرى الكبرياء

رقيقٌ هواي إذا مرّ يوماً بقومٍ

نسوا الهمَّ وانشغلوا بالقصيد

رخيمٌ هواي كصوت الأذان

رهيفٌ كحد الحُسام

وصقرٌ هواي إذا عاندته الرّياح

يجلجلها بالهبوب وعصف الجناح

قديمٌ هواي كدرّ النّواخذ ِ يوم المسير إلى لجّة الحظ ِّ

والموتُ صنوٌ وظلٌّ

فمن رام أن يشهد العرس ما بين ماضٍ تولّى

ويومٍ جديد ٍ تخلّد..

ليأتِ ويشهد

***

سألوا ثُمّ غابوا لقد

وغاب السّؤال..

أيُّ عرسٍ ترى فاقَ حتى الخيال؟

أتُرى سنرى؟

أم رياح ُ الخليجِ تدندنُ والناسُ تفتعلُ الشوق للمستحيل؟

وما هي إلّا... ويصدحُ في البعدِ صوتٌ

ودربكةٌ للخيول

قال قائلهم: انظروا

قال آخرُ: هيّا اسمعوا

بدا الموكب المرتقب... وبان كخيط الهلال

نشيد ٌ تعالى يخالط صوت الصّهيل:

«سلامٌ على موكبٍ أدهش النّاظرين..

على هودجٍ هادرٍ بالشّجون

يموج ببرد النّسيم الحنون

ومرحى لزين الفوارس من أهلنا

لمن ملأ الأرض بالورد

والياسمين»

ونادى الجميع:

سلامٌ عليها وقد شدهت أعين الناظرين

هودجت فوق رملٍ وشمسٍ وماء

قيل حوريةٌ من بحار السّماء

قيل بعض الثّريا تشابه بعض النّساء

بل هي شيءٌ تعدّى الخيال

وقد نثرت من براقعها حبباً من ندى الجلّنار

ومدّت أصابعها

أبرقت بالعقيق وبالماس والكهرمان

رأينا من الكفِّ كلَّ البروق

وما زال خلخالها يعزف الموج بين البروق

وعرس الأميرة مازال مزدحماً بالقلوب

بنا لهفة رهف المستهام المشوق

وخلف البحار النّوارسُ لهفى لأخبارها

تهادت وفي هدأة الليل صمتٌ مَشوق

لأجراس موكبها

لجلالة هودجها

ما الذي سوف يجري؟ وهل سيواصل حشدُ المحبّين سيراً

إلى ساحة العرسِ كي يغنموا نظرةً للعروس؟

همهَموا: هل ستنزلُ حتى نراها؟

ومن هو فارسُ هذا الجمال؟

وقد بدأ الليلُ ينشرُ أشذاءهُ

والخليجُ يدندن فيه النّواخذ من ألف عام

تحوم على موكب العرس أسراب طيرٍ وترمي الهداهدُ في الجوّ ألوانها

تهادى النّسيم العليل ورفرف برقعُ هودجها

رأينا العصور كخيل تخبّ على رملها

جنائنُ بابل وجنّات عدن

جنان الجنان تُفتِّحُ أبوابها

وطال انتظارُ المراسم

تَبرعمَ في دمنا الشوقُ شمعاً بأحداقنا مرسلاً آهةً: يا إله!

طبولٌ على البعد دقت

وموكبُ خيلٍ مطهّمةٍ

وشموعٌ

بأيدي الصبيّات تلهث... طاف البخور

فأنعشت ِالرّيحُ من جهة البحر سرّه

ثوانٍ وتسمو على موكب العرس رايتها

ألقٌ من بياض القلوب..واحمرار الدماء

بجمر العروق.. واخضرار الرّبوع

وكحل الجبال قبيل الشروق

بهاء الحرير بعمق السما

هذه ليلة العرس.. فليجتمع شملنا

وعلت همهمات الرّجال

همهمت في الرّياح الحناجر

ترجّل من هودج الشمس حُمّالهُ

وارتخت تحت شوق الرّياح الستائر

أقبلت: فاعتلى الصّمتُ ظهرَ الكلام

هام كلّ الوجود بحضرتها

وارتوى ألف عامٍ وعامٍ بلحظةِ حبٍّ أثير

صهلت خيلها واستعدّ الطريق

ونادى المنادي

لزَين الفوارس أن ينبري

خطوةٌ عذبةٌ... كبرياءٌ وعزٌّ أثيل

فوق ظهر جوادٍ أصيلٍ أصيل..

تعانقت ِالخيل والليلُ ليّلَ بالبدرِ والأنجم ِالساهرات

وشمعٌ..وحنّاءُ عرسٍ

بخورٌ.. دفوف ٌ.. وهمسٌ

أتى الفارسُ الشاغلُ الناس كلّ السنين

فوق هامته تاجُ نصرٍ يموج

بنصرٍ يُعِزُّ ويُثري النفوس

شقَّ في خطوةٍ موجَ بحرٍ من الماءِ واللؤلؤِ البكرِ

والطِّيب والزّعفران

كان شيئاً يفوق الخيال

عباءته هيبةٌ والعقالُ كرامة ُ كلّ الرجال

ترجّل عن صهوة الفَرس ِاليعربيّة

ومرَّ على هودج الشمس ِ

أنزلها

أبهرت أعينَ الناظرين

رفع البرقع التّول عن وجهها

ناظراً بحنان إليها كمن غاب ألفاً وعاد

ثمّ قبَّلها بأرقّ فؤاد

قيل: هذي دبي العروس، فمن هو ذاك العريس؟

قلت: فخرُ الفوارس بين الرجال

فبانيها، وحاميها، وحافظُ عهد ٍ لها

لن يحول

وما كدتُ...حتى على القول ران النشيد:

«سلامٌ على موكبٍ أدهش الناظرين

على هودجٍ هادرٍ بالشّجون

يموج ببرد النّسيم الحنون

ومرحى لزَين ِالفوارس من أهلنا

لمن ملأ الأرض بالورد

والياسمين»

ـــــــــــــ

Email