ظل الورق، لمئات السنين.. وربما آلافها، الحاضن الأساسي لكتابات المبدعين والحافظ لقرائح عقولهم والضامن لحقوقهم الفكرية والوسيط الأمثل في التواصل مع قرائهم؛ إلا أن الثورة الرقمية أحدثت انقلابًا في معايير الكتابة والتواصل، فأضحت الوسائط الإلكترونية بديلًا أقرب إلى لغة العصر. وفي هذا الصدد، كان القراء أسبق في التعامل مع هذا العالم من الكُتّاب والمبدعين.
ومن ثم لم يجد بعض الكُتّاب مناصًا من تسطير إبداعاتهم عبر هذه الوسائط، لتكون همزة وصل عصرية تربطهم بقرائهم وتستقبل على الفور تفاعلاتهم؛ إلا أن كثيرين وقفوا بالمرصاد أمام ما بات يعرف بـ«الأدب الرقمي».. مزيد من التفاصيل في «بيان الكتب».
«إنه المستقبل القادم لا محالة»، بهذه العبارة الموجزة عبَّر وزير الثقافة الأسبق والناقد الأدبي د.جابر عصفور عن رأيه في ظاهرة الأدب والنشر الرقمي المتنامية، مؤكدًا أنها تعبر عن حاجات جيل جديد، سواء من الكُتّاب أو من القراء.
وأضاف قائلًا: لهذا يجب أن يخضع الأدب الرقمي إلى قواعد الأدب التقليدي أيضًا، فهو أدب لكنه بوسيط مختلف؛ فالقراءة واحدة لكنها تختلف من الكتاب إلى الشاشة، وهو أمر وارد باختلاف العصر وتطوره، ولا يمكن إنكار أن الشاشات أصبحت الأبقى والأكثر حضورًا.
وتابع قائلًا: «لا أعتقد أن النشر الإلكتروني سيؤدي إلى خصومات أو سرقات، مع وجود منظومة قانونية قوية تحفظ لكل كاتب حقه وتنص على أساسيات الكتابة الأدبية على الشبكة العنكبوتية».
فقاعات هواء
في السياق ذاته، ترى الكاتبة د. رشا سمير أن «السوشيال ميديا» أصبح لها أهمية وحضور كبيران في عالمنا المعاصر، ولا بد من الاعتراف بذلك. إلا أنها أضافت: في الوقت ذاته، أصبحت السوشيال ميديا تعطي الشهرة لمن لا يستحق، إذ أصبحت قواعد الشهرة مختلفة عن الماضي، فالأمر لا يرتبط دائمًا بالجودة؛ إنما بسعة الانتشار والأصدقاء، وهو ما يصنع «فقاعات الهواء» على حد تعبيرها.
وتابعت: مع أنني أهتم كثيرًا بالنقد؛ إلا أن ما يكتب دائمًا لا يمكن اعتباره ضمن سياق النقد، وأظن أن القارئ في مرحلة التجريب وعليه أن ينضج، وهو ما يحدث حاليًا، فالكُتّاب والقراء في حالة تخمر وتجريب سينتج عنها في نهاية الأمر تجانس وتناغم.
وأشارت إلى أن أي ظاهرة إبداعية جديدة تحتاج إلى وقت حتى يمكن الحكم عليها، لكن لا يفت ذلك في المحتوى الإبداعي الرقمي ما دام يلتزم بالمعايير الأدبية المعروفة.
تفاعل لحظي
يعتقد الشاعر خليل عز الدين أن النشر الإلكتروني يوفر الدعاية اللازمة للكاتب ولإبداعه، موضحاً أن وجود جمهور يتلقى ما يُكتب ويضع رأيه عليه يمكِّن الكاتب من قراءة ما يريده جمهوره ويتناقش معهم؛ ما يضفي مساحة خاصة في العلاقة ما بين الطرفين، ليصبح المتلقي ناقدًا.
ويشير من جهة أخرى، إلى سلبيات النشر الإلكتروني، موضحًا أنه سرعان ما ينسى؛ نظرًا لكثرة ما يكتبه الآخرون، ويصبح التفاعل لحظيًا مع ما يقرؤه المتلقي، كما أنه لا يمنح الخصوصية لما يقدم الكاتب؛ نظرًا للصعوبات التي يواجهها في الحفاظ على ما يكتب وضعف حمايته من السرقة أو القرصنة الإلكترونية، ولا بد أن يجري التعامل مع هذه الأمور وإدراجها تحت تصنيفات حقوق النشر.
أفق جديد
تجد الشاعرة منة أبو سنة أن الإنترنت والسوشيال ميديا وسعا أفق التواصل والتفاعل بصورة عامة، أما الأدب الرقمي ففتح منفذًا جديدًا للتعامل مع الأدباء والكتاب، إذ أصبحت الشهرة أسرع وأكبر عن طريق السوشيال ميديا، لا سيما مع صعوبة النشر بصورة مستقلة عن طريق دور النشر.
وتشير إلى أن الأدب الرقمي بدأ يأخذ مساحته لدى القارئ والكاتب، حيث إن تصفح وسائل التواصل الاجتماعي والكتب الرقمية بات أسهل من القراءة التقليدية بالنسبة إلى البعض.
مع هذا، ترى أبو سنة أن هناك بعض السلبيات؛ أهمها صعوبة الحفاظ على حقوق الملكية الفكرية، لاسيما أن السوشيال ميديا تعتمد على النشر والنقل فيما بعد.
وتضيف أن الترويج عن طريق المشاركات والإعجابات يزيد من نسبة انتشار البعض على حساب الآخرين، حتى وإن قدم إبداعًا أقل جودة، وهو ما يؤثر على حركة الأدب فيما بعد.
وتتابع: هناك انتشار كبير للنشر بالعامية، وهو توجه عام ملحوظ ويؤثر على حضور اللغة العربية الفصحى بالأدب ويؤثر على تلقي الجمهور سلبيًا، خاصة إن كانوا صغار السن.
وتلفت إلى أن هناك عددًا من الكُتّاب الشباب الذين وجدوا صعوبات في النشر مباشرة عن طريق دور النشر، لهذا لجؤوا إلى النشر عن طريق السوشيال ميديا وطلبتهم دور النشر فيما بعد لنشر أعمالهم الجديدة.
وذلك بعد أن تلقوا الشهرة اللازمة وأدركت دور النشر مدى شهرتهم وأنها لن تجازف بأموالها، وهو ما يعتبر أمرًا غريبًا من دور النشر؛ حيث تحول الأدب والكتابة إلى تجارة تحاول تلك الدور التربح منها في كل الأحوال، سواء عن طريق النشر للكُتّاب الجدد بنفسها أو دفعها للكُتّاب لنشر أعمالهم الجديدة على حسابهم الخاص.
تصد واجب
يوضح الشاعر محمد أبو الفضل بدران، أن الأدب الرقمي هو مستقبل الأدب ولا يمكن أن يعيقه أحد عن التقدم، كما أن الآراء التقليدية التي تشير إلى تشويهه وغيرها من محاولات العرقلة التي يطلقها بعض النقاد، لن تقف عائقًا أمام هذا النوع؛ لأنه يمثل المستقبل.
ولفت إلى أن السوشيال ميديا هي لغة العصر، ولا بد أن تواكبها جميع العلوم والآداب بعيدًا عن تسلط أصحاب دور النشر وتذمرهم أحيانًا؛ إذ تجد نافذة جديدة للأدب والحرية، وأن ينشر الكاتب ما يشاء.
كما أن هذا التوجه يمكن المتلقي من التحول من سلبيته المعتادة إلى التفاعل وتنمية الجانب التفاعلي لديه؛ ليقدم آراءه حول ما يقرأه من أدب، بل ويمكن أن يوجه الكاتب إلى ما يمكن أن يكتبه لاحقًا، وهو ما يحول العلاقة الأدبية من مجرد أديب ومتلقٍ إلى علاقة تفاعلية؛ ما يوفر حلقة الاتصال فيما بين الطرفين.
ولفت، على سبيل المثال، إلى رواية «بنات الرياض» للكاتبة السعودية رجاء الصانع التي شكلت ثورة كبيرة في السعودية فور نشرها؛ نظرًا لتعرضها إلى قصص اجتماعية مثيرة للجدل، مبينا كيف عاونتها السوشيال ميديا في هذا الأمر، وهو ما أعطى الرواية ثقلًا؛ بل وترجمت فيما بعد إلى اللغة الإنجليزية.
واستطرد قائلًا: «ولا نغفل أن ارتفاع أسعار الكتب زاد من أهمية الأدب الرقمي، حيث إن أغلب الشباب لا يلجؤون إلى شراء الكتب بقدر قراءتها إلكترونيًا؛ لأنها أسهل وأرخص وأسرع، ولا ننسى أن الإنترنت هو المستقبل؛ لذا لا يجب أن نحاربه».
وحول مسألة القرصنة الإلكترونية، قال: «أجد أن القرصنة الورقية أكبر من الإلكترونية، كما أن الدولة والقانون عليهما الحفاظ على الملكية والحد من القرصنة، سواء كانت القرصنة ورقية أو إلكترونية؛ من خلال نص قوانين وفرض عقوبات يجري تطبيقها بحزم عن طريق القانون؛ فهو الحل الوحيد الذي تتخذه الدول... ومنفذ في أغلب الدول التي تعتمد النشر الإلكتروني».
تقنين
ونتبين في بحثنا واستقصائنا المتشعب حول الموضوع، أنه ومن نظر الناقد الأدبي الدكتور صلاح فضل التي يشدد عليها في مقالاته ودراساته المتتابعة في الصدد، لن تختلف قواعد النشر وشروط الأدب من السياق المنشور ورقيًا عن المنشور رقميًا، إذ إن الكتابة هي هي، ويجب تقنين الضوابط الحاكمة للوسيلة الناقلة أيًا كانت.
كما أننا نجد أنه في ثورة لافتة من نوعها على الأدب التقليدي، انتشر في المغرب العربي الأدب الرقمي بشكل لافت ومبهر وأرسى قواعد قويه له؛ فعلى سبيل المثال، حصد الناقد والمفكر المغربي الدكتور سعيد يقطين، جائزة اتحاد كتاب الإنترنت العرب في دورته الأولى في عام 2008.
وذلك في سياق الاعتراف بجهوده في إرساء قواعد للأدب الرقمي تتواكب مع الثورة الرقمية التي باتت تغزو العالم والأدب بصور كبيرة.
ووضح يقطين أن الأدب الرقمي أصبحت له أهمية كبرى، وأن جائزة اتحاد كتاب الإنترنت العرب ستحفز العديد من الكتاب على الارتباط بالثورة الإلكترونية والتعبير عنها من خلال النشر الإلكتروني. كما يأتي الأديب محمد سناجلة، رئيس اتحاد كتاب الإنترنت العرب، ضمن مؤسسي هذا السبيل المستحدث، ويشير إلى أن هناك كماً هائلاً من النصوص الإلكترونية التي تملأ الفضاء الإلكتروني.
مشاع إبداعي.. بشروط ناظمة
يبين دارسون متخصصون أن البعض يظن أن ما يكتب على السوشيال ميديا ويتداول، ما هو إلا مشاع إبداعي، وهكذا فإنه على الكاتب أن يقبل بصدر رحب عمليات السرقة والتناقل، لأعماله.
فيما يعرف المشاع الإبداعي - وهو أمر مناقض للسرقة -، بأنه إتاحة للإبداع بصورة عامة للتناقل والتداول، ولكن بهدف توسيع مجال الأعمال الإبداعية المتاح استغلالها للعامة والبناء عليها على نحو يتوافق مع قوانين الملكية الفكرية التي تنص عليها في القوانين المختلفة.
«لغة العصر» والقناة المعرفية الأكثر إقبالاً
تحتل وسائل التواصل الاجتماعي «السوشيال ميديا»، جانبًا كبيرًا من الاستخدام اليومي، ما يحمس أغلب الكتاب للتفاعل من خلالها بصورة أكبر مع القراء. فبحسب إحصائيات أممية، نحو 3 مليارات شخص حول العالم -أي ما يمثل 46% من سكاني العالم- يستخدمون الإنترنت، وما يجاوز 2 مليار شخص (بنسبة 31%) يستخدمون السوشيال ميديا، فيما وصل استخدام الهاتف الذكي إلى ما يجاوز 3 مليارات شخص.
وعن العالم العربي، فإن عدد مستخدمي الإنترنت وصل إلى 128 مليون شخص، ووصل عدد مستخدمي السوشيال ميديا إلى 63 مليون شخص، ويطلع قرابة 58 مليون عربي على السوشيال ميديا من خلال الهواتف الذكي، وهي نسب متقدمة؛ حيث إن عدد النسمات بالشرق الأوسط وصل إلى 242 مليون نسمة، وقرابة 53% منهم يقبع على الإنترنت.
وفي العموم، لا شك أن غياب القوانين الملزمة والقاسية في عقوباتها التي تتصدى لأي من السارقين في عوالم الأدب، أمر يشجع هؤلاء لتطوير ما يمارسونه ومتابعته بكثافة أكبر. وربما أن هذه المسؤولية، كما يوضح نقاد، لا تقتصر على كونها واجب الحكومات، بل إنها تتطلب تضافر جهود كافة قطاعات المجتمع لجعل الكتابة الالكترونية مجالا وعالما محصنا ومريحا لمن يلجه أو يحاول الخوض في غماره.