المكتبات المتنقلة.. كنوز ثقافية فوق العجلات تروي ظمأ فئات مجتمعية متنوعة

ت + ت - الحجم الطبيعي

مشاهدة الجرافيك بالحجم الطبيعي اضغط هنا

ربما شعرت وكأنك وجدت ضالتك، حينما مرت بجانبك شاحنة كبيرة تحوي مئات الكتب، لتشتري منها وتستعير ما تشاء. تلك الصورة باتت حقيقة ملموسة راسخة ومتجددة في يومياتنا ضمن دول العالم كافة.

فالثقافة باتت متاحة معها بيسر أمام شرائح المجتمع في عدة عواصم عالمية. وهو ما أفرز أن تنجح تلك النوعية من المكتبات في أن تحافظ على بقاء القراءة عادة يومية، وفي متناول الشعوب باختلاف تكويناتها ومستويات الثقافة فيها.

واللافت في الصدد، أن سجلات التاريخ توضح أن مشروعات وأمر المكتبات المتنقلة قديم قدم القراءة، ولا يقتصر على الشعوب المرفهة، فالمكتبات المتنقلة تمثل وسيلة متقدمة ونمطاً متطوراً لإيصال الخدمة المكتبية إلى المناطق النائية والمعزولة والوعرة ومناطق البادية، واحتفاء بحب الكلمة المقروءة، وشغفاً بما يسطر بين دفتي الكتاب، وفي سبيل جعل ثقافة القراءة أسلوباً محورياً في الحياة، اتجهت المكتبات العامة إلى إيجاد هذه الوسيلة لتتمكن من خلالها الاتصال بمثل هذه التجمعات السكانية والقرى النائية لنشر الوعي الثقافي والإرشادي والصحي.

وربما تكون وسائل النقل المستخدمة: السيارة أو العربة أو الدآبة أو الزوارق في المناطق المكتظة بالبحيرات والمستنقعات.

ولكن الوسيلة العامة في تقديم هذه الخدمة، هي السيارة ويمكن أن يطلق على هذه المكتبات تسميات أخرى كثيرة، مثل: مكتبة الرحالة ومكتبات المعارض والمكتبات المتجولة وباصات الكتب وقوافل الكتب وصناديق الكتب.

بدايات

تعود بدايات المكتبات المتنقلة إلى أكثر من 150 عاما، ذلك عندما قامت مؤسسة وورينغتون بأول تجربة لها، حين وضعت كتبا في عربة يجرها حصان. وتطورت الخدمة بعد ذلك في بريطانيا وكذلك في أميركا التي عرفت أول استخدام لها في ولاية ماريلاند.

وكذلك انتشرت في أوروبا في تلك الفترة تقريبا. كما عرفت الهند المكتبات المتنقلة بفضل منظمة اليونسكو حتى قبل أن تعرفها بعض الدول الأوروبية. وتعد المكتبة المتنقلة في مدينة كاليفورنيا الأميركية، المكتبة الأولى من نوعها في العالم والثانية في الهند.

ظهورها في أوروبا

بدأت المكتبات المتنقلة على شكل وسائل بسيطة لحمل الكتب إلى المناطق النائية في بريطانيا وأميركا. وكانت بدايتها على هيئة عربات تجرها الخيول وقوارب صغيرة. وبحلول عام 1912 ظهرت أول مكتبة متنقلة تسير بقوة محرك.

وشرعت فرنسا تجربة المكتبة المتنقلة سنة 1919 ثم طورتها، حيث تعتبر من الدول التي تمتلك مئات الناقلات التي تحمل آلاف الكتب إلى المناطق المحرومة من النشاط الثقافي. ومن أمثلتها مكتبة «الآسن» المتجولة ومكتبة «المارون»، إلا أن التشكيل المكتبي الرسمي ظهر وأسس بموجبه مكتبة مركزية للإعارة في 8 مقاطعات، لحقته تطورات أخرى شملت 96 منطقة مجهزة بهذه الخدمات التي تؤمن الإعارة للتجمعات السكانية التي يقل سكانها عن 20000 نسمة.

وفي بريطانيا، مع نهاية القرن التاسع عشر، ظهرت الخدمة المكتبية المتنقلة فاستخدمت عربة تجرها الخيول لتقديم هذه الخدمة للمناطق الريفية. ثم ظهرت في الولايات المتحدة الأميركية في مدينة نيويورك. وظهرت في مدينة فيينا بالنمسا وأشرفت عليها بلدية المدينة. وعرفتها بلجيكا. وكذا في الاتحاد السوفييتي (سابقاً) .

وفي افريقيا عرفت المكتبات المتنقلة منذ الأربعينيات والخمسينيات والستينيات والسبعينيات في القرن الـ20، واستخدمت باعتبارها سلاحاً ضد الأمية. وفي عام 1925 نشرت مكتبة نيويورك العامة مكتبات متنقلة في الحدائق العامة للقرى الأميركية البعيدة عن مكتبة العاصمة لسكانها المحليين.

وإثر ما حل بأهل هايتي عام 2010؛ زلزال مدمر قضى على مكتباتهم، شارك البنك السعودي والفرنسي في تقديم شاحنات لهم، تحوي كتبا.. وتستخدم الحكومة الكينية الجمال كمكتبات متنقلة، وتتكون كل مكتبة من ثلاثة جمال.

وبدأ العمل بها عام 1996 بـ 3 جمال فقط، ليصل عددها في عام 2006 إلى 12 جملاً و7 آلاف كتاب. وفي لندن كانت المكتبة العائمة تجوب الشواطئ محملة بالكتب والزهور. وفي كولومبيا، حمل مدرس المرحلة الابتدائية لويس سوريانو كتبه على حماره لطلابه وأطفال المزارعين الفقراء. كما كان الفيل هو الوسيلة التايلاندية لمحو الأمية. وكذا سعت الحكومة الفنزويلية الى نشر الكتب في الأرياف والقرى البعيدة عن العاصمة، عبر نقل الكتب إلى الأهالي محمولة على ظهر الحمير.

القطار الثقافي

يعد قطار الثقافة لوناً غنيا نوعيا من ألوان نشر الوعي المكتبي بين فئات محددة من المواطنين في فرنسا، حيث عمد قسم المكتبات التابع لهيئة السكك الحديدية الفرنسية الى استخدام قطار خاص، من قاطرة وعربة واحدة بها مكتبة كاملة، أطلق عليه «القطار الثقافي» أو «مكتبة القطار». ويستطيع هذا القطار أن يقدم خدمة مكتبية لأكثر من 20 ألف فرد من العاملين بالسكك الحديد وعائلاتهم، يقيمون في 26 مركزاً على طول طريق السكة.

أهداف إيجابية

تقوم فلسفة المكتبة المتنقلة على تقديم خدماتها انطلاقا من مبدأ وشعار: إذا لم يستطع القارئ الوصول للمكتبة فلننتقل إليه، والمكتبات المتنقلة تسعى إلى تحقيق أهداف إيجابية كثيرة، منها: رفع المستوى الثقافي وزيادة وعي المواطنين بالتطورات والأحداث التي تدور من حولهم وفي العالم الخارجي.

إضافة إلى مساعدة الفلاحين على تطوير حياتهم وتحسين ظروفهم المعيشية (من خلال تزويدهم بالكتب العلمية المبسطة التي تمكنهم من إتقان المهارات الأساسية في إنشاء بعض الصناعات الريفية والحرف لغرض زيادة الإنتاج)، استثمار أوقات الفراغ بما هو مفيد وممتع، المساهمة في القضاء على الأمية من خلال تعاونها مع المراكز والمؤسسات التعليمية والاجتماعية في الميادين الإعلامية وتوزيع المطبوعات، استخدام المواد السمعية البصرية في تنفيذ هذه البرامج، نشر الوعي الصحي والاجتماعي من خلال تعريف المواطنين بالمدلولات الإيجابية المتعلقة بالمفاهيم الصحية وتوعية المرأة في الريف بأهمية النظافة، الاعتناء بالأطفال عبر تقديم بعض المكتبات والنشرات والملصقات الجدارية، دعم الروابط الاجتماعية وتعزيز أواصر العلاقات الإنسانية من خلال إقامة الندوات وإلقاء المحاضرات والعروض السينمائية واللقاءات المبرمجة في محطات انتظار المكتبة المتنقلة.

الخدمات المباشرة

ما ساعد المكتبة المتنقلة على تحقيق أهدافها، وجود مميزات عديدة تتفرد بها، منها: استغلال الموارد بالشكل الأمثل من خلال سد احتياجات القراء والمستهدفين بمصادر المعلومات المختلفة، مرونة الأداء (إذ يمكن إعارة الكتب من خلال محطات الكتب أو المدارس)، تغيير المجموعة المكتبية باستمرار وانتقائها بدقة بما يتناسب ورغبات واحتياجات مجتمع المستفيدين، يمكن لأمين المكتبة المتنقلة توجيه وإرشاد المستفيدين للكتب القيمة والإصدارات الجديدة والإجابة على اسئلتهم واستفساراتهم من خلال خبرته ومعرفة بطبيعة العمل المكتبي ومصادر المعلومات المختلفة، تحسين الخدمات المباشرة (تمتاز هذه المكتبات بأنها أكثر فاعلية من بقية فروع المكتبات العامة، خدمة المراجع وإرشاد المستفيدين تجري غالباً في وقت قصير، من خلال الألفة والتعاون بين أمين المكتبة وجمهور المستفيدين في هذه المناطق).

متطلبات المكتبات

لكي تحقق المكتبات المتنقلة أهدافها وتستخدم بشكل أفضل، وليتوافر لها النجاح في تأدية خدماتها لعموم المستفيدين، لابد من وجود وتوفير متطلبات لها، وعلى رأسها: السيارة..

إذ تختلف أحجام ومواصفات المكتبات المتنقلة من مجتمع لآخر، وفقاً لظروف واحتياجات المجتمع ونوعية التجمعات السكانية والمستويات التعليمية والاجتماعية، ومهما يكن فإن حجم السيارة يجب أن يكون كبيراً لتقديم خدمة مكتبية على نطاق واسع، وينبغي أن يكون تصميمها حديثاً ومتيناً لتحمل الرحلات المضنية، ولكي يتناسب والمناخ وحالة الطرق والمسالك الصعبة.

ولابد أن تتوافر فيها الإضاءة الطبيعية والصناعية. كما ينبغي تزويدها بجهاز إذاعة يستخدمه أمين المكتبة في إلقاء احاديثه وإرشاداته، فضلاً عن توفير جهاز صوت يصدر صوتاً مميزاً لتنبيه المستفيدين بقدوم السيارة.

صعوبات

بالرغم من المزايا التي تتمتع بها المكتبات المتنقلة، إلا أنها تعاني من بعض العيوب والصعوبات، مثل: قلة اتصالها بالمجتمع المحلي، تأثرها بحالات الطقس وسوء الأحوال الجوية، العقبات في طرق المواصلات، لا يتهيأ لها زيارة جميع المناطق في الأوقات المناسبة. ذلك فضلاً عن المشكلات الناجمة عن اعطال السيارة واستهلاك إطاراتها في المناطق الوعرة وخلال الرحلات الطويلة.

برنامج الزيارات

يجب الأخذ بعين الاعتبار عدة معايير في برنامج زيارات المكتبات المتنقلة، ومن بين أبرزها: ضرورة الإعلان عن خط سير السيارة ومواعيد وصولها ومحطات وقوفها مسبقاً، عدم وضع جدول نهائي بمواعيد سير وزيارة المكتبة إلا بعد الجولة الأولى التجريبية، دراسة التجمعات السكانية وأوقات الفراغ لدى المواطنين، عدم إلغاء أية زيارة أو برنامج للزيارات إلا بعد الإعلان المسبق عن ذلك ومن خلال مختلف وسائل الإعلام الجماهيرية: كالصحافة والإذاعة والتلفزيون المحلي والاتصالات الهاتفية وإذاعة المكتبة المتنقلة «مكبرات الصوت».

دار الكتب المصرية

تعد المكتبة المتنقلة في مصر، رابع مكتبة متنقلة من نوعها في العالم، وبدأ مشروع المكتبات المتنقلة فى دار الكتب المصرية عام 1984 بمكتبتين صنعتا من سيارتين: «مقطورة» واحدة للاستعارة، والأخرى منفذ لبيع الكتب. وكانتا تجوبان المنطقة بين التبين وقليوب في القاهرة الكبرى.

وفي العام التالي، أصبحت الاثنتان للاستعارة، وحوّل خط سير واحدة منهما ليصبح بين «الوراق» ومدينة السلام. ثم تلقت الدار بعد ذلك هدية من المجلس الثقافي البريطاني، شكلت المكتبة المتنقلة الثالثة، لتصبح أول مكتبة مصرية متنقلة ومتخصصة (مكتبة طفل).

وفي عام 1998 خوطبت وزارة التعاون الدولي لتدعيم الدار بثلاث مكتبات متنقلة، وهو ما استجابت له الوزارة من خلال منحة فورية، وأضيفت المكتبات التي صنعت هذه المرة من «أتوبيسات» مثل المستخدمة في نقل الركاب، إلى المشروع ليصبح مكونا من ست سيارات، وبدأت كل مكتبة متنقلة الخدمة وفيها ما يتراوح بين الـ 3 و4 آلاف كتاب.

مكتبة الملك عبد العزيز

استحوذت المكتبة المتنقلة والتي دشنتها مكتبة الملك عبدالعزيز العامة خلال فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب، كإحدى آليات المشروع الثقافي لتجديد الصلة بالكتاب، على اهتمام عدد كبير من زوار المعرض. ولفتت انظارهم الحافلة المجهزة بأحدث التقنيات، لتقديم خدمات القراءة والاطلاع للرجال والنساء والأطفال، والتي تقف في مدخل المعرض.

وحرص عدد كبير من الزوار على إلقاء نظرة على المكتبة المتنقلة من الداخل والتعرف على مقتنياتها من الكتب ومصادر المعلومات ونوعية الخدمات التي تقدمها للزوار، ومنها خدمات القراءة والاطلاع عبر الانترنت.

 وأبدى جمهور المعرض انبهارهم بهذه الفكرة المبتكرة ومحتويات المكتبة المتنقلة، والتي تتسع لما يزيد على 3000 كتاب ومادة معرفية. كما تضم ركناً للقراءة والاطلاع لعشرة أشخاص وركنا آخر للاطلاع عبر الانترنت مجهزة بثماني حاسبات آلية، وركنا لعرض الأفلام والبرامج التربوية والترفيهية والموجهة للطفل.

Email