مُطالبات بالتوثيق والتدوين

الأدب الشفاهي.. تراث في عُهدة الذاكرة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

أدبٌ من نوع خاص، عاش في الذاكرة ومعها، وانتقل مع الأجداد والجدات من جيل إلى آخر، كحكايات ما قبل النوم، وأغنيات العيد الشعبية، المملوءة بالحكم والدروس. هي حكم وأمثال وأشعار، وقصص وحكايات وأخبار، تنهل من الماضي أجمل قيمه، وتستقي من التراث أروع معانيه، ورثها آباؤنا من أجدادهم، وورثناها منهم، لنورثها لمن يأتي بعدنا. إنه الأدب الشفاهي، بروائعه التي تركها أجدادنا في عُهدة الذاكرة، ونقلها الرواة واحداً تلو الآخر.

«البيان» تواصلت مع عدد من الباحثين والمتخصصين الإماراتيين في مجالات الأدب، ليتحدثوا عن أهمية الأدب الشفاهي، إذ أكدوا أنه كنز يجب الاهتمام به وحفظه، مطالبين بتوثيقه وتدوينه، حتى يصل إلى الأجيال الجديدة، وتتعمق جذوره فيكبر وينمو.

«الأب الشفاهي أصل كل أدب». بهذه العبارة بدأ الباحث والشاعر سالم الزمر، المستشار الثقافي للدراسات والأدب الشعبي في مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث، حديثه، لافتاً إلى أنه من ضمن تلك الآداب الأدب العربي، الذي لولا أصله الشفاهي الذي حفظ للعرب شفاهية في أشكال متعددة من أبرزها الشعر الجاهلي وعلم الأنساب والأمثال والسير الشعبية، لما كان لأدبنا العربي أساس ومرجع.

وعما إذا ما كان يُحكى أم اندثر قال: لايزال الأدب الشعبي يُحكى، فالأجداد والجدات لا يزالون يحتفظون به في ذاكرتهم ويحكونه للأحفاد، لكنه لم يعد مؤثراً إلى حد كبير في يومنا هذا، الذي سادت فيه التقنيات وطغت عليه العادات المستوردة، لتسلبه الكثير من قيم التراث وآدابه وفنونه.

وعن أهمية الأدب الشفاهي قال الزمر: تكمن أهميته في تعزيز الثقة في نفوس أبناء المجتمع بأنهم أصحاب ثقافة وأصول ضاربة في التاريخ، ما يعزز هويتهم ووطنيتهم، كما أنه مرجع غزير لعاداتهم وتقاليدهم وقيمهم الانسانية التي يعتزون ويتميزون بها، والمحافظ على تراثهم الشعبي الثقافي الذي لا وجود للمجتمعات من دونه.

وأشار الزمر إلى أن الأدب الشفاهي أثر في كل أشكال الأدب، من شعر وقصة ورواية، حيث أنه داخل في التكوين الأولي للنفوس المبدعة، وهو تكوين ظاهر الأثر في تلك الرموز التي تظهر حتماً في أشكال الأدب المكتوبة، مؤكداً أن الشعر والأمثال والحكم هي أكثر أشكال الأدب الشفاهي الواصلة إلينا، وجرى الحفاظ عليها بالتناقل الشفاهي والتدوين والفنون الجماعية المغناة في المناسبات المختلفة.

ولفت الزمر إلى أن تدوين الأدب الشفاهي مهم جداً لأنه يحفظه من الضياع، ومن دونه لا يمكن نقله للأجيال القادمة، وهي مهمة تزداد صعوبة كلما مر الزمن لأن المصادر البشرية الحافظة له، تذهب شيئاً فشيئاً، برحيل الجيل الحافظ له في الصدور وهو ما يشكل فعليا، واقعا خطرا.

وعن الصعوبات التي تواجه توثيق الأدب الشفاهي قال الزمر: من أهم الصعوبات، رحيل الأجيال الأولى التي كانت تحفظ التراث، والأهم من ذلك أن حركة تدوين التراث- كانت ولاتزال- أقل من المستوى المطلوب، ومن أسباب ذلك قلة المتخصصين في الحقل.

معرفة متناقلة

أوضح الباحث والشاعر أحمد محمد عبيد، أن الأدب الشفاهي يحكي حكاية قائمة على المعرفة المتناقلة شفاهياً، من شخص إلى آخر. وتابع: وصلت إلينا بعض الأخبار التي حدثت قبل سنوات مضت، وعلى أكثر تقدير، قبل 200 أو 300 عام، إلا أننا لا نعرف أخبار الفترة الزمنية قبل 500 أو 600 عام، أما بالنسبة للنصوص الشعرية فهناك نصوص قديمة يصل عمرها إلى 400 سنة مضت، نقلت شفاهياً ولا تزال محفوظة، كما أن هناك نصوصا منسوبة إلى أكثر من شخص. واختلفت الآراء حول قائلها، والسبب في ذلك أنها لم تكن مُدونة أو موثقة.

وتحدث عبيد عن الأمثال الشعبية: وصلتنا أمثال كثيرة، وتمتاز الأمثال بأنها خالدة ولا تتبدل، ولكن التغيير فيها ربما يأتي حسب البيئة، وأضاف: ربما اندثر بعض هذه الأمثال أو ذهب بذهاب رواته، إذ لم يتبقَّ لدينا سوى الجيل الأخير من الرواة. وبعد رحيله، لم يبق سوى ما نقل فقط. ولفت عبيد إلى أن هناك الكثير من المعارف لم تدون، ما أدى إلى ضياعها ونسيانها.

وعن تأثير الأدب الشفاهي على جيل اليوم، قال: الجيل الجديد منشغل عما في التاريخ الشفاهي بمقتضيات الحياة اليومية، ذلك باستثناء بعض البرامج التراثية الجيدة التي تحمل في مضامينها رائحة الأدب القديم الذي وصلنا عبر الجدات والأجداد.

وشرح عبيد مصادر الأدب الشفاهي: أي كبير في السن يتمتع بذاكرة جيدة، يعد مصدراً مهماً من مصادر الأدب الشفاهي، ويجب الاستعانة به في الحصول على أكبر قدر من الأدب والمعارف القديمة، المستقاة من التراث، مشيرا إلى أن الروايات الحالية تعيش الحداثة، عدا بعضها ذات الطابع القديم المستمد من حياة الصحراء والبيئة التراثية.

دهشة

بينت الأديبة نجيبة الرفاعي، أن الأمهات في الوقت الحالي، لم يعدن يتولين مهمام نقل ونشر وترسيخ الأدب الشفاهي في علاقتهن وتعاملهن مع أبنائهن، وقالت: بحكم الانشغالات وقلة الوقت الذي يجمع الأمهات بأطفالهن، لم يعد الأدب الشفاهي متداولاً كما السابق، ما جعل الأبناء أيضاً يبحثون عن مصادر أخرى يستقون منها معلوماتهم، لا سيما أن التقنيات الحديثة أصبحت متوافرة في أيدي الجميع اليوم.

وعبرت الرفاعي عن دهشتها من حفظ والدتها لبعض الأشعار القديمة غير المكتوبة أو المدونة، وقالت: كنت أسمع والدتي تردد بعض الأشعار، وكنت أستغرب كيف استطاعت حفظها، وكانت تجيبني بأنها كانت تسمع والدتها ترددها وهو ما ساعدها في حفظها، ورغم أن الأبيات كانت محفوظة عن ظهر قلب، إلا أن صاحبها كان مجهولاً.

وعن تأثير الأدب الشفاهي، ذكرت نجيبة أن من يسمعه يتأثر به، إلا أن دوره تضاءل، وأردفت: من واقع معايشتي لحركة الأدب، أرى أن دور الأدب الشفاهي تقلص، فبتأثر انشغالات الأم وطبيعة ما تفرضه ظروف الحياة ومقتضياتها ومتطلباتها العصرية بالنسبة للأبناء، ضمر رواج القصص والأمثال القديمة الجاذبة، ووصل الامر حدود غيابها، وذلك طبعا، في زمن أصبحت التكنولوجيا فيه سيدة الموقف، ونجحت القصص الخيالية في جذب انتباه الأطفال.

وعما إذا كان من الصعب توثيق هذا الأدب، قالت نجيبة الرفاعي: من يبحث عنه لن يجد صعوبة في توثيقه، ولكنه يحتاج إلى جهد مؤسساتي لا لجهود فرد أو أفراد، والخطوة الأهم تكمن في البحث عن الشخصيات التي لاتزال تحتفظ بذاكرتها بهذا الأدب. ولفتت أيضا، إلى أن الأمثال هي الأكثر تداولاً: تمتاز الأمثال بسهولتها، كما أن تكرار المواقف يزيد من تردادها وهو ما يسهل حفظها ونقلها.

ولمحت إلى أنه من الضروري توثيق الأدب الشفاهي، لاسيما أنه مقتبس من تاريخنا. وتابعت نجيبة: تجسد القصص التراثية حقبة زمنية معينة، ولا بد من تدوينها وتوثيقها، فهي جذور أصيلة يجب تعميقها وريها حتى تبقى وتستمر.

لم يندثر

«الأدب عموما هو مرآة الشعوب، وبمثابة دليل تعريفي لأي مجتمع، لكن الأدب الشفاهي في منطقة الخليج العربي، يتفرد بميزة مهمة نوعا عن الأدب المكتوب، ذلك أن عمره الزمني يفوق المكتوب الذي لم يزل غضاً ويتلمس خطاه». هكذا بدأت الأديبة عائشة الكعبي حديثها حول الموضوع، مؤكدة أن الأدب الشفاهي لم يندثر، ولكن صوره تتفاوت في استمراريتها وتأثيرها على جيل الشباب، وأضافت: لعل القصص هي أكثر أجناسه المهددة بالانقراض، ذلك لأن سرد القصص يحتاج إلى طقوس معينة لا تشجعها أنماط الحياة العصرية، بينما الأمثال، على سبيل المثال، لم تزل مستخدمة وبكثرة في محادثاتنا اليومية، أما الشعر فيقع بين هذا وذاك، فكثيراً ما نسمع كبار السن يستشهدون ببيت شعري، لكن القصائد الكاملة معرضة للنسيان كما هي القصص.

وعما إذا كانت ملامح الأدب الشفاهي تظهر في الروايات المحلية، قالت: لا أجد الأدب الشفاهي حاضراً في الأدب المكتوب محلياً، ولعل السبب يعود إلى رغبة الجيل الجديد من الكُتاب في الخروج من عباءة التراث واللحاق بركب حلم العالمية، أو ربما لكثرة الجهات المتخصصة في التراث، لكنها منعزلة نوعا ما عن الحراك الثقافي.

ولفتت الكعبي إلى أن تدوين هذا النوع من الأدب يعد خطوة ضرورية لإنقاذ ذاكرة الأوطان والحفاظ على هويتها، وقالت: هو أمر يجب تداركه ما دمنا ننعم بوجود عدد كبير من كبار السن الذين لاتزال ذاكرتهم يانعة خضراء. فمع رحيل كل مسن، تندثر ألف حكاية.

وختمت الكعبي حديثها: في النهاية نحن نعيش عصر انفتاح مجنون، جعل أغلب مدن العالم توائم مستنسخة.

المهرجانات التراثية نافذة إحيائه

تعد الفعاليات والمهرجانات التراثية، مصدراً خصباً لإحياء الأدب الشفاهي، وتعميق مفهومه، وتمتاز دولة الإمارات العربية المتحدة، بمهرجاناتها المتميزة في هذا المجال، التي نجحت من خلالها في جمع الأجيال معاً، وساهم ذلك في التقاء الأجداد والأحفاد تحت مظلة واحدة، ما يسهل تداول ونقل القيم والمعارف والآداب القديمة إلى الجيل الجديد، لاسيما أن الأجداد والجدات يعدون مصدر نقل المعلومة، وكذا تمثل هذه المهرجانات بيئة خصبة للأدب الشفاهي، فمن خلالها يمكن توصيل الكثير من الأمثال والحكم والأشعار والقصص إلى الجيل الجديد، الذي يتعرف على ما تحتويه الحقيبة التراثية من خلال أنشطة وفعاليات ممتعة.

التكنولوجيا الحديثة وانشغال الأمهات.. عاملا تأثير سلبي

قلة المغريات والملهيات في السابق، جعلت من الأمهات والجدات المصدر الأول للمعلومات، وساعد ذلك على انتشار وتداول الأدب الشفاهي، لا سيما أن الوقت الذي يقضيه الأحفاد في أحضان الأجداد والجدات كان طويلاً، وبسبب ذلك تعرفوا على الكثير من الأمثال والأشعار، واستمعوا إلى القصص والحكايات التي تسللت الخرافات إلى بعضها، لكنها رغم ذلك احتفظت بقيمتها، لاحتوائها على قيم عدة، كالشهامة والشجاعة.

كما كان الأدب الشفاهي في الماضي مصدراً أساسياً للتعلم، إلا أن الوضع تغير في وقتنا الحالي، في ظل انشغال الأمهات، إضافة إلى سيطرة التقنيات الحديثة التي جذبت انتباه الأطفال فلم يعد هناك وقت يقضونه مع أمهاتهم، ما أدى إلى تراجع الأدب الشفاهي وغيابه عن المشهد الأدبي العام.

موروث حكائي

أيادٍ بيضاء ساهمت في حفظ تراثنا الشفاهي، أبرزها ما قدمه الباحث والشاعر أحمد راشد ثاني، الذي قدم كتابه «حكايات من الإمارات»، ويضم نصوصاً حكائية شعبية عن الموروث الحكائي الإماراتي، ليساهم في نشر حكايات اعتمد فيها على روايات وقصص مسموعة من بعض الجدات، ولم يكتف بذلك، بل خاض في التراث جمعاً وتحقيقاً ونبشاً، وتسجيلاً لكل ما هو شفاهي، وهذا نابع من حرص ومسؤولية ثقافية كان يستشعرها حينما لمس التهديد الكبير الذي كانت تعانيه الثقافة المحلية.

Email