سور الأزبكية .. ثقافة للفقراء والأغنياء

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يعد سور الأزبكية في مصر، من أهم ثلاثة أسوار ثقافية بارزة في العالم، وهو أول معرض مفتوح ودائم للكتاب، إذ تزوره يومياً أعداد كبيرة من الطلبة والباحثين والمثقفين والمستشرقين والأجانب. كما أن معارض الكتاب الشهيرة، من فرانكفورت إلى القاهرة، ومن باريس إلى بيروت، أخذت عنه فكرتها. ولهذا السور قصة مثيرة تضاهي أكثر القصص تشويقاً. وهو كما يسميه الجميع، من مثقفين ومشترين، بأنه «ثقافة الرصيف لا تموت».

وسط القاهرة

تجد التاريخ محفوظاً بين أحضان سور الأزبكية، فروايات وكتب وقواميس ومجلات وصحف وكتب مدرسية، فيه، تستعيد سنوات مضت وهي تعانق أخشاب «الأرابيسك»، التي تشكل جسد عشرات المكتبات. ويقع سور الأزبكية في العاصمة المصرية، القاهرة، في مواجهة مسرح العرائس، ضمن منطقة العتبة الشهيرة (وسط القاهرة)..

ويضم نحو ما يقرب من 132 مكتبة تبيع الكُتب القديمة بأسعار زهيدة، وفي جنوبه يقع « قصر عابدين» الذي يختزن ذاكرة العاصمة. ويبوح من خلال فنه وطرازه المعماري بإرث ثقافي وتاريخي عريق.. وإلى الشمال ترابط حديقة ذات أشجار باسقة تتدلى أغصانها بقوة الزمان، وتنعش الزائرين بظلالها الوارفة. إنها حديقة «الأزبكية» التي يناهز عمرها الـ6 قرون.

أكوام الكتب

بمجرد دخولك سور الأزبكية، تجد الباعة الجائلين، يفترشون ساحة المدخل بشكل عشوائي، حيث تتجاور الكتب في ما بينها، حتى تكاد لا تستطيع أن تفرق أياً من الكتب تعود إلى أي كوخ من كثرتها.. وبالرغم من أكوام تلك الكتب المستعملة إلا انه يأتي إلى سور الأزبكية رواد من جنسيات مختلفة وعدة..

بينما في ممرات السور تتعالى الأصوات. وعند التجول بين عشرات الأشخاص الواقفين أمام تلك الكتب، ما بين مشترٍ وباحث عن التراث القديم. وشعار هؤلاء جميعاً في رحلة بحثهم تلك: «ثقافة الرصيف لا تموت».

وجهة للباحثين

وهناك في المنطقة، بعض المكتبات التي تبيع الجديد من الكتب أو الطبعات الجديدة من المؤلفات القديمة.

كما أنه أضحى يمثل قبلة للباحثين عن أعمال فكرية أو أدبية أو علمية نادرة أو قديمة، بأسعار رخيصة، فضلاً عن تركزه كموئل ووجهة للباحثين عن شراء الكتب القديمة جداً، فسيجد الباحث ما يبحث عنه من كتب أو صحف أو مجلات مهما كان تاريخ الكتاب أو تصنيفه أو لغته، فبين تلك الأوراق القيمة المستعملة، تاريخ لا ينتهي، سرده عظماء العلماء والأدباء والمثقفين والسياسيين، ليوجد كله داخل وجدان هذا التراث الثقافي القيم في سور الأزبكية.

تاريخ السور

البداية الحقيقية لافتراش الكتب في السور تعود إلى العام 1926. إذ قام حينذاك المرحوم أحمد الحكيم الكتبجي، بجـر عربـته المحملة بالكتب من منطقة السيدة زينب إلى ميدان الأزبكية، وهناك استراح على السور.. فقلده باقي البائعين الذين كانوا يعبرون بالمقاهي لعرض كتبهم على المتنزهين..

وأخذ هؤلاء يستريحون وقت القيلولة عند جدار السور، ومنهم المعلم «خربوش » أشهر بائعي الكـتب القديمـة الذي اعترض على مطاردة البوليس الإنجليزي لأبناء حرفته ورفض دفع المخالفة التي حررت بحقّه وقدرها 15 قرشاً، في ما كان يتراوح سعر أغلى كتاب بين 3 و5 قروش، وقرر البوليس الإنجليزي.. الاستعانة بالبلدية، ففتحت خراطيم المياه عليهم، لكن هؤلاء لم يستسلموا، بل عملوا بنصيحة الكتبجي..

فغمروا السور والرصيف بالكتب التالفة للتعبير عن احتجاجهم وصمودهم، واحتفظوا بالكتب السليمة فوق عرباتهم الكارو، حتى يستطيعوا جرها وقت اللزوم. وكانت النتيجة أن انتزعوا أول تصريح يسمح لهم بالوقوف أمام سور الأزبكية. وبعد قيام الثورة، جرى استخراج تصاريح أو تراخيص لهم والتي جددت سنة 1971.

وعرف «الكتبجيّة»: (بائعو الكتب) في السور الاستقرار إلى غاية سنة 1993 ذلك حين أطاحت الجرّافات 34 كشكاً ومكتبة من مكتبات السور الـ 46. وكانت النتيجة إعدام واختفاء 250 ألف كتاب في أربع ساعات فقط. أما عمليّة الهدم فكان هدفها التمهيد لبناء امتداد كوبري أبو العلا، وتطوير ميدان الأزبكية وتجميله.

معركة قضائية

لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل نُقل سور الأزبكية في العام نفسه، إلى مكان منعزل في منطقة الدراسة، بين مستشفى الحسين الجامعي ومقابر جبل الدراسة. ونسي المسؤولون الدور الثـقافي والتاريخي الخطير الذي لعبه السور، ولكن «الكتبجية» لم يتراجعوا، بل خاضوا معركتهم من دون كلل من أجل العودة إلى مكانهم الأصلي. وبعد معركة قضائية ساندها المثقفون والصحافة أصدرت المحكمة الإدارية العليا حكمها لصالحهم، وألزمت المسؤولين إصدار تراخيص لهم.

فعادوا مظفرين إلى مقرهم الأصلي، ولكنها كانت عودة رافقتها مشكلات متعددة، ومنها إغلاق الباب الخلفي للسور وافتراش الباعة الجائلين للمدخل الأمامي، قبل أن ينقل السور، مرة أخرى إلى مكانه الحالي في ساحة «مترو العتبة»، مع بداية إنشاء المرحلة الثالثة من «مترو الأنفاق».

لكل كتاب حكاية

ربما لا يعرف القرّاء المنكبّون على أكداس الكتب، بحثاً عن صيد ثمين، أن لكلّ كتاب في «سور الأزبكية» حكايته. فمعظم تلك الكتب آت إما من المزادات، أو من الزبائن أنفسهم، أو باعة «الروبابيكيا »: (البائعون الجائلون)، أو اللصوص من الخدم في القصور والفيلات والمنازل. ومن أشهر ما سرق من المكتبات وبيع في السور، مكتبة علي ماهر رئيس وزراء مصر الأسبق، ومكرم عبيد الزعيم الوفدي، وأحمد لطفي السيد أستاذ الجيل، وأحمد كامل مرسي شيخ السينمائيين.

كتب نادرة

أما مكتبة المفكر سلامة موسى، فقد باعها الورثة لتجار السور، بعد أن رفضت دار الكتب المصرية شراءها. ولقيت مكتبة المستشار محمود بك السبع مصيراً مشابهاً، مع العلم أنّها كانت تحتوي على مجموعة من الكتب الأجنبيّة النادرة، ومنها نسخة من كتاب «الحملة الفرنسية» المطبوع في فرنسا، والمكون من 36 مجلداً. واشترى الشيخ الشربيني الكتاب من الورثة بـ 300 جنيه سنة 1958، ثمّ باعه في أوائل الستينيات من القرن الـ20 بـ 4000 جنيه، محققاً أكبر ربح في حياته.

حكاية

لجأ ضباط ثورة يوليو 1952، إلى تجار السور لإمدادهم بأية وثائق أو مذكرات أو معلومات عن الأسرة المالكة وبطانتها. وكان الخدم في القصور الملكية يبيعون هذه الكتب والوثائق لتجار السور، ولا يزال الناس يذكرون ربّما حكاية ذلك المحامي الذي عثر، خلال تجواله حول السور، على نسخة من مسرحية انطون الجميل رئيس تحرير جريدة «الأهرام» الأسبق، وهي بعنوان «وفاء العرب»، مطبوعة في الأهرام سنة 1909، وعليها إهداء بخط الجميل إلى الزعيم سعد زغلول.

خبطة صحافية

أما أحدث طرائف مخلفات السور، كما نشرتها مجلة «آخر ساعة» الأسبوعية في إحدى الفترات الماضية، فهي عثور مدرس ابتدائي على مذكرات يوسف صديق، أحد قادة ضباط ثورة يوليو 1952، حيث وجد في سوق «التلات» الذي يتعامل في «الروبابيكيا»، كشكولاً من دون غلاف..

فأخذ يقلب صفحاته ثم دسه في حقيبته، وأعطى البائع خمسين قرشاً. وما كان منه إلا أن توجّه إلى المجلّة المذكورة ليبيعها المخطوط الذي أتاح لها أن تحقّق خبطة صحافية لم تخطر على البال، بنشرها مذكرات شخصية بارزة لواحد من ضباط ثورة 23 يوليو.

مشكلات

هناك مشكلات على مدار السنوات الماضية، أطاحت بسور الأزبكية. إذ إنه أضحى مطوقاً بالعديد من الباعة الجائلين، وموقف لسيارات الأجرة و«الميكروباص» و«التوك توك»، وتحول أحد رموز الثقافة المصرية والمعلم الذي يعد من أبرز المُنشآت التي شكّلت وجدان كبار المثقفين المصريين والعرب، مع تلك الحال، إلى مشهد عشوائي..

تؤججه مناظر الباعة الجائلين وازدحام ركاب مترو الأنفاق وتدافعهم، فضلاً عن تلك الضوضاء التي تحدثها مواقف السيارات، ما جعل السور يتقلص في دوره كثيراً، ومن ثم يغرق في بحار من العشوائية والإهمال الرسمي.

باعة الكتب

تميزت شريحة كبيرة من باعة الكتب الموجودين في منطقة سور الأزبكية، في الماضي، بكون أفرادها أميين لا يعرفون القراءة أو الكتابة، ولكنهم، بحدسهم، كانوا يعرفون قيمة الكتب التي بين أيديهم، ومع التطور، بات هؤلاء أصحاب وعي وثقافة، إذ يجدهم الزائر للمكان، يساعدونه في إيجاد الكتاب المُناسب. ويبدو غريباً جداً، أن السور لا يتبع إلى وزارة الثقافة، ولكنه يتبع في الأساس إلى محافظة القاهرة.

سوق سياحي

يذكّر عبد الرحمن قبيسي، صاحب مكتبة «القبيسي» الموجودة في السور، الذي يجيد لغات عدة، أن السور أصبح «سوق سياحية» من الدرجة الأولى، لأن السيّاح يقصدونه لطلب الكتب النادرة عن تاريخ مصر والآثار الفرعونية القديمة، خصوصاً الفرنسيين والألمان واليونانيين. أما العرب فيعرفون السور وبضاعته عن ظهر قلب..

ومنهم من كون مكتبته الخاصة من السور، ومن افتتح في بلاده أسواراً شبيهة. كما لاحظ الشيخ الشربيني، أحد أصحاب المكتبات في السوق، في خمسينيات وستينيات القرن الـ20، أن «أدباء اليوم هم زبائن الأمس»: العقاد، المازني، إبراهيم المصري، يحيى حقي، نجيب محفوظ، يوسف إدريس، صلاح عبد الصبور.

Email