تشكيل نهائي لمسيرة بيدارت وتجاربه الإبداعية

«نصف ضوء».. قصائد عن أحوال الحياة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

«كل ما كتبته، مجرد خوض جدلي مع العالم حيث أنتمي»، بهذه العبارة يتبين لنا أن الجدل ربما يكون هو ما أوصل الشاعر الأميركي فرانك بيدارت لنيل مراتب الشرف والتقدير، وأضاف إلى جعبة إنجازاته أخيراً، جائزة بوليتزر للشعر عن ديوان «نصف ضوء: مجموعة قصائد بين 1965 و2016».

«نصف ضوء» تمثل مجموعة شعرية رسم قصائدها على امتداد نصف قرن أطلّ من خلالها بنظرة شجاعة على شؤون البشرية وشجونها بجميع تجلياتها الجميلة والعنيفة والمهووسة، الحساسة والجسورة، المعقّدة واللامعة، المنبوذة والمُساء فهمها.

أسلوبه اتسم بنوع من الهستيريا الهادئة، أو بالأحرى نوع من الهدوء المتناوب مع الهستيريا في مسار صراع مع الأشياء التي يعتبر العالم العادي، وفرانك نفسه، بنسخته المغلقة الخائفة السابقة، أنها ينبغي أن تظل طي الكتمان. قصائد بيدارت، نوع من المشهدية، حيث يحاول توسّل الحب ومشاركته، حتى لو لم يكن حباً يقدر على الوصول إليه والتنعم به ورؤيته وملامسته. وما القصائد التي دونها عن أحباء فُقدوا إلا شهادة على أحاديث يختزنها في رأسه، كتبتها قوة جسد يتسم بالمحدودية.

لطالما انشغلت قصائد بيدارت ولسنوات عدة بالمعاينة من منظور المكسورين في الحياة، سواء كانوا مجرمين متسلسلين، راقصي باليه، نجوم سينما أو شخصيات خرافية مأساوية، أولئك ممن قلصهم نمط حياتها إلى اللاشيء.

وقد سبرت مجموعاته الشعرية مروحة واسعة من الثيمات والزوايا المظلمة في النفس البشرية، كالجريمة والشعور بالذنب واضطرابات الأكل، والمرض والموت، دون أن تغفل تجارب الحب والحميمية والرغبة بالحياة. أبيات شعره تستهوي قصص المنبوذين والفاسدين وكل من لا يشعر بالانتماء لهذا العالم.

وتتبدّى النسخ المنكسرة من بيدارت كثيرة في كتاباته، لا سيما في الأبيات: «رأيت شاباً، وكأنه توأمي، مكتوب على قميصه بالحرف العريض وبقلم تلوين «وحش». ومن هذا التوأم الوحش تطلّ الذات المنكسرة، الذات التي هي نصف الضوء. إنه شعر إنساني محض بعدد من الأوجه، هاجسه البشر والبشرية. وإن ما يمدّ تلك الشخصيات المكسورة بالعمق كامن في عدم سعي أي منها للخلاص كغاية أسمى، بل إن بعضها يبدو عصياً على الصلاح وحسب.

ويفضي تركيز بيدارت غير المتزعزع على التاريخ إلى ومضات للحظات حاضرة تستل خيوطها من الماضي، فتتحدر كل فكرة من أخرى مضت، وتنبثق كل صورة من تاريخ من الصور، وتغرف كل رواية شخصية من دلو تاريخ البشرية، فتغدو قوة الأسطورة والخرافة والدين، تلك الروايات العظيمة التي نخبر بها أنفسنا، وكأنها ترجع صدى آنية كل لحظة حاضرة وفريدة من حيواتنا المنفصلة أكثر منها إيغالاً في الحقائق الكونية.

كما أن استغراق بيدارت في عالم الذاكرة غالباً ما يأخذه في حوارات مع قصائده، بين الأفراد، بين الماضي والحاضر والتاريخ والواقع الحالي، وبين النتيجة والسبب، والذات وتعدديتها. حوار غالباً ما يتجزأ إلى شيء أقل تناهياً، وأقل عرقلة في حدود السؤال والإجابة.

إنه حوار لامتناهٍ للأشياء والأشخاص والعلاقات العابرة في كيان المرء. وإن قوة تلك القصائد هي التي غالباً ما تختزن بين أشطرها صياغات لغوية تحتسب المسافة فلا تحاذي البرودة مطلقاً، إنما توحي بأنها سمحت بهروب بعض من الحرارة الحارقة للحظة فتتيح للمتحدث والقارئ عيش الحالة بذروتها.

الجمل في ديوان بيدارت ترقص على قدم واحدة، وتثني عبر شحطات وفواصل تمتد على صفحات، فتتشابك بجمالية تتلافى تماماً الغوص في الغموض والإرباك. وتتناغم القصائد المكتوبة على امتداد السنوات في محاكاة لعدد لا حدَّ له من الموضوعات المحددة والمتفرقة، وكأنها تدور في فلك واحد ومتنوع في آن. «نصف ضوء» تبدو ببساطة أشبه بتشكيل نهائي لجملة طويلة ما انفك بيدارت يقولها لسنوات.

الكتاب:«نصف ضوء: مجموعة قصائد بين 1965 و2016»المؤلف:فرانك بيدارتالناشر:فارار شتراوس آند جيرو - 2018الصفحات:٦٢٤القطع:المتوسط

Email