«التنوير الآن».. حلول متفائلة رسائل إيجابية في زمن مليء بالتشاؤم

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا كنا نعتقد أن العالم شارف على النهاية، فلنتوقف هنيهة ونستمع إلى المفكر وأستاذ علم النفس الاجتماعي الأميركي الكندي ستيفن بينكر في فصول كتابه بعنوان «التنوير الآن، دفاعاً عن المنطق والعلم والإنسانية والتقدم» الذي يحضّنا، في تقييم أنيق لحالة البشرية في الألفية الثالثة، على التراجع خطوة من عناوين الأخبار الملطخة بالدماء والنبوءات المبشرة بالعدم التي تلعب على وتر ميولنا النفسانية، وأن نسأل أنفسنا: هل العالم يتداعى بالفعل؟ وهل المثاليات اللصيقة بالتطور باطلة؟

لطالما كنت شغوفاً بالأسئلة الكبرى التي تحكم حالة البشر، وإذا بنينا رؤيتنا للعالم على التيارات الكميّة على امتداد التاريخ، لا على الأخبار، فسنرسم صورة مغايرة عن حالة الإنسانية، يقول بينكر، عالم النفس المعرفي الذي يجزم بأن أحد الأسباب لدخوله هذا المجال هو تعامله مع مسائل الطبيعة البشرية، ونوع القضايا التي شغلت أصحاب المذاهب العقلانية والانطباعية وقدامى فلاسفة الإغريق. واعتبر أن علوم الإدراك، من جهة ثانية، أكثر قابليةً للإذعان الذهني، لارتكازها على بيانات واختبارات تسلط الضوء على مسائل تتعلق بكيفية عمل الدماغ البشري.

لا يندرج التفاؤل عموماً في خانة لطيفة، وغالباً ما يعتبر رديفاً للحماقة، وقد كتب الفيلسوف التفاؤلي جون ستيوارت ميل عام 1828 يقول: «لقد لاحظت أنه ليس المرء الذي يتفاءل فيما ييأس الآخرون، بل الذي ييأس بينما يتفاءل الآخرون هو من يحظى بإعجاب الأغلبية ويعتبر حكيماً».

وها هو بينكر يجرؤ على مناقشة الجانب الإيجابي في الزمن المظلم. ويجزم بضرورة التحلي بالوعي اللازم حيال المشكلات لنتمكن من التخفيف منها وتحسينها، ويقول: «ليس التفاؤل ولا التشاؤم هو ما نحتاج إليه، بل الدقة».

ويتصدى في كتاب التنوير لخطاب يعتقده مثيراً للمخاوف مشيعاً للخوف يطرحه اليمين واليسار، ويفترض أن الطريقة الأفضل للتقدم تكمن في التأمل عميقاً وتغذية المفاهيم التي تشكلت في أوروبا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، والتي تستند إليها الأفكار الأربع في عنوان الكتاب.

وفي حين يعتبر أنه من الخطأ التفكير بأن رسالة الكتاب تتمحور حول التفاؤل، يبني بينكر كتاب «التنوير الآن، دفاعاً عن المنطق والعلم والإنسانية والتقدم» بغالبيته حول الفلسفة القائمة على الأدلة، حيث الجداول البيانية تظهر ارتفاعاً في كل أنحاء العالم في متوسط العمر، وانخفاضاً في معدل انتشار الأمراض القاتلة، ومستويات أفضل في التعليم، ووصولاً أسهل للمعلومات، واعترافاً أكبر بالمساواة.

يخوض بينكر القتال «التنويري» التفاؤلي متسلحاً بالبيانات الكمية، حيث يقدم ثلثي الكتاب، وفصلاً تلو الآخر، أدلة على أن الحياة تمضي في مسار مطّرد وبالنسبة لمعظم الناس نحو التحسين. ويسأل: «كيف لنا أن نثني بوعي على حالة العالم؟ الجواب يكمن في التعداد».

إن سلسلة الحقائق مبهرة وتغطي الصحة والثروة والبيئة وعدم تكافؤ الفرص والسلام والديمقراطية وسواها، ومع ذلك يتساءل المرء ما إن كان هنالك أية نقطة تحول ممكنة في هذا الطوفان، قد تقنع المشكك.

ويجادل بينكر بأن نظرية الكارثة بحدّ ذاتها مخاطرة، بمعنى الميل التشاؤمي للتركيز على أسوأ محصّلة متخيّلة، والشعور بالرعب.

الشعبوية السلطوية قد تغذت على الإحساس بأن كل شيء يسير بشكل خاطئ، وبأن حمى الجريمة والإرهاب قد استعرت، وأن الهجرة وصلت لوضع كارثي، والعالم فقد بوصلته الأخلاقية على نحو رهيب، في حين يشيع اليأس والخوف المزيد من الدمار. يميل الناس عموماً للعمل بشكل بنّاء أكثر عند الاعتقاد بأن المشكلات لها حلّ، أو بأن تقدماً ما قد حصل ويمكن توسيع رقعة انتشاره.

وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار، يقول بينكر، الواقع القائل إننا لم نفجر العالم بعد بحرب نووية، فإن المقاربة الأفضل تكمن في أن «نرى الأمور التي اتخذت مساراً صحيحاً، ونكمل المسيرة».

حيث التفاؤل لا يعني بنظره الاستلقاء والتراخي. ويقتبس كلاماً للعالم الاقتصادي بول رومر يميّز بين «التفاؤل القانع» لطفل ينتظر الهدايا و«التفاؤل الشَّرطي» لطفل يرغب في بيت شجرة ويسعى لجمع الخشب وصناعته بنفسه. ويشير إلى أن الشخص الذي يعتقد بأن بناء بيت شجرة فكرة مستحيلة، أو يفترض بأن أحداً سيهدمه، لن يشرع مطلقاً بعملية البناء.

لا يمكن، كما يقول بينكر لمفهومي التطور والنظرة إلى العالم اللتين تحكمان كتابه إلا أن ترسما شكل الفرضيات المتعلقة بحالة العجز المبدئية للوجود البشري، وكيفية تقييمنا لأوضاعنا الحالية بالتالي. فإذا كانت حالة البشر تميل عموماً للبؤس والمرض والموت المبكر والتنافس الشرس، فلا بدّ لنا إذاً من أن نحتفي بإنجازات الحضارة والتنوير، بما في ذلك المؤسسات التي تتيح تقدمنا على حالة الطبيعة.

بالمقابل، إذا افترض أحدهم أن الكائنات المتروكة على سجيتها ستسعى خلف التناغم والوفرة والمساواة، فإن أي تقصير في عالمنا الحالي سيعدُّ جريمة وثورة وعقاباً وتقهقراً من النعيم، وسيبدأ البحث عن مذنبين نلقي عليهم بلائمة السقوط. وهكذا فإن ما قد يبدو أنه نظرة متفائلة عن الحداثة ليس في الواقع إلا حصيلة التقييم الواقعي لما نملك الحق بتوقعه من الحالة المبدئية للبشر.

وكل تصدٍّ للعشوائية، وللجوانب المظلمة من الطبيعة البشرية واللامبالاة القائمة حيال رفاهنا سيشكل انتصاراً وجب علينا التنعم به وعزوه للإبداع والتعاطف البشريين، بدلاً من اعتبار كل مشكلة مؤشراً على الشرّ المتعمّد من قبل شرير ما وجبت معاقبته وهزيمته.

Email